“اعتزل داود عبد السيد". لمن لا يعرف الاسم، يمرّ هذا الخبر المكوّن من ثلاث كلمات مرور الكرام، لكنه بالتأكيد يصيب من يعرف السينما العربية وتجاربها، بالصدمة والدهشة والخوف! وشرح الكلمات السابقة بسيط للغاية، بالصدمة من القرار، والدهشة من الأسباب، والخوف لأن أيّ صانع سينما، وعلى رأسهم المخرجون السينمائيون، إذ يشكّل لهم التوقف عن صنع أفلام جديدة هاجساً، وقلقاً دائماً، في ظل الظروف الإنتاجية الصعبة التي تمر بها المنطقة منذ سنوات.
هذه الظروف لا يُقصد بها كم الأعمال المنتجة سنوياً في البلاد المعروفة بإنتاجها للأفلام والمسلسلات (سوريا- مصر ومؤخراً لبنان) فحسب، ولكن تُقصد بها أيضاً عملية الإنتاج وشروطها التي تخضع لعوامل لا علاقة لها بالفن أساساً.
لمن لا يعرف الأستاذ دواد، المولود في عام 1946 في العاصمة المصرية القاهرة، فهو صاحب أفلام "البحث عن سيد مرزوق"، و"الكيت كات"، و"أرض الخوف"، و"مواطن ومخبر وحرامي"، والأخير يثبت قدرة الأستاذ داود على الابتكار والتميز عندما استعان بالمغنّي الراحل شعبان عبد الرحيم في الفيلم؛ شعبان الذي لا يتقن التمثيل، ولا صلة له من قريب ولا من بعيد به، وعلى الرغم من أنه مثل أفلاماً أخرى، إلّا أنها لم تكن سوى لاستغلال شعبيته الكبيرة في الشارع المصري والعربي في مطلع الألفية الثالثة، في حين نرى تميّز داود وتوظيفه في ما يخدم القصة التي كتبها داود عبد السيد نفسه.
مؤلم قرار اعتزال الأستاذ داود، ليس بسبب غيابه لسنوات عن الإخراج السينمائي فحسب، بل لأنه مؤشر واضح لما آلت إليه حال صنّاع السينما في العالم العربي؛ أسماء كبيرة وعظيمة غائبة عن المشهد، فإلى جانب داود هناك أيضاً علي بدرخان الغائب منذ مطلع الألفية الجديدة، وغيرهما الكثير، كما أنه مؤشر لما هو قادم أيضاً
كيف كان اللقاء الأول بالأستاذ داود عبد السيد؟ من الطبيعي أنني شاهدت كغيري من آلاف الناطقين باللغة العربية، أفلام الأستاذ داود عبد السيد على شاشة التلفاز، لكن اللقاء الحقيقي الأول كان في السينما، عبر فيلمه "رسائل البحر" (بطولة بسمة وآسر ياسين)، في عام 2010. فيلم جعلني أخرج من قاعة السينما وأمشي ثلاثة كيلومترات إلى بيتي، وأنا أفكّر في المغزى والصورة والموسيقى والأداء، ودفعني للحلم بأن أصنع فيلماً بجماله. هنا الميزة التي يمتلكها الأستاذ داود عبد السيد، وهي أنه المخرج القادر على زراعة الحماسة في داخلك لتذهب بعيداً بأحلامك، وهي ميزة تمتلكها قلة من المخرجين.
من يخرج فيلماً كفيلم "الكيت كات" (بطولة محمود عبد العزيز)، لا يمكن إلا أن يكون قد غاص إلى أعماق المجتمع، لكن الرجل تعب!
جاءت ثورة 25 كانون الثاني/ يناير، وكانت هناك رغبة بالتغيير لدى طلبة المعهد العالي للسينما في القاهرة، واستجاب العديد من أساتذة المعهد لهذه الرغبة، ومنهم أستاذي القدير علي بدرخان، الذي دعا الأستاذ داود عبد السيد لزيارة المعهد، واللقاء مع الطلاب، ولم يتردد الأستاذ داود بالحضور. جلس وبدرخان يتحدثان كأصدقاء قدامى في جلسة حميمية وجميلة للغاية، لأستاذين لديهما مواقف سياسية وفكرية، ودخلا في صراعات مع الأجهزة الحكومية على مدى سنوات، وكان أفضل ما يفعله أيّ من الحضور، هو الصمت والاستمتاع، وهذه المتعة التي خلقها الأستاذ داود في ذلك اليوم، هي نفسها التي يخلقها في نفس المشاهد عندما يرى أفلامه!
إذاً خرج داود عبد السيد ليعلن اعتزاله على الهواء مباشرةً أمام المشاهدين، مرجعاً قراره إلى أن الجمهور لم يعد كما كان، حسب اللقاء.
مؤلم قرار اعتزال الأستاذ داود، ليس بسبب غيابه لسنوات عن الإخراج السينمائي فحسب، بل لأنه مؤشر واضح لما آلت إليه حال صنّاع السينما في العالم العربي؛ أسماء كبيرة وعظيمة غائبة عن المشهد، فإلى جانب داود هناك أيضاً علي بدرخان الغائب منذ مطلع الألفية الجديدة، وغيرهما الكثير، كما أنه مؤشر لما هو قادم أيضاً.
من الطبيعي أن يتغيّر السوق، وظروف الإنتاج في أي مكان يصنع السينما في العالم. حدث هذا ويحدث في هوليوود وبوليوود والقاهرة وحتى في سوريا في أثناء صناعة المسلسلات الدرامية؛ قلة من المخرجين من يستطيعون الانحناء أمام العواصف والاستمرار، لكن عندما تكون المعركة عادلةً، وليست حرباً من طرف واحد! إن كان تشارلي تشابلن في يوم الأيام لم يستطع بكل إنجازاته الانحناء والاستمرار في هوليوود، بعد حرب صريحة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وقرر الرحيل، فلماذا يجب أن نعتب على داود عبد السيد، ونطالبه بحرب يخوضها وحده مع كل هذه التغييرات المتتالية؟
لا أنا، ولا أحد يستطيع أن يملي على الأستاذ داود ما يفعله، أو الطريقة التي يحصل من خلالها على تمويل لإنتاج أفلامه، سواء أكان من شركات الإنتاج، أم من صناديق الدعم السينمائية، وأعرف ويعرف غيري أن لديه من الفطنة والذكاء وفهم طريقة تفكير المجتمع المصري والعربي الكثير. من يخرج فيلماً كفيلم "الكيت كات" (بطولة محمود عبد العزيز)، لا يمكن إلا أن يكون قد غاص إلى أعماق المجتمع، لكن الرجل تعب! تعب من التجاهل والقلق والخوف والجلوس منتظراً ما لن يأتي، في ظلّ شبه التأميم لشركات الإنتاج في مصر، وهذا من حقه، واتخاذ قرار الاعتزال من حقه أيضاً.
كل ما أستطيع قوله هو شكراً داود عبد السيد لكل ما قدّمته، ولكل النضالات في السينما والحروب التي خضتها مراراً مع شركات الإنتاج، وأجهزة الرقابة، نيابةً عن كثيرين، وشكراً لكل المشاعر الجميلة التي تركتها في نفوس كل مخرج تأثّر وحلم وقرر أن يمشي في الطريق الوعر في بلادنا، طريق السينما
الظروف تغيّرت في مصر. وسوق الإنتاج والمجتمع والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية ليست في مصر فحسب، ربما ينسى من يعتب على الأستاذ داود عبد السيد اعتزاله، أنه حورب بشكلٍ مباشر لموقفه السياسي، واتهامه مع أعضاء الحركة الديمقراطية بمحاولة قلب نظام الحكم في عام 2018، وهي تهمة في العالم العربي قادرة على أخذك لزيارة "بكل حب إلى ما وراء الشمس".
في النهاية، كل ما أستطيع قوله هو شكراً داود عبد السيد لكل ما قدّمته، ولكل النضالات في السينما والحروب التي خضتها مراراً مع شركات الإنتاج، وأجهزة الرقابة، نيابةً عن كثيرين، وشكراً لكل المشاعر الجميلة التي تركتها في نفوس كل مخرج تأثّر وحلم وقرر أن يمشي في الطريق الوعر في بلادنا، طريق السينما.
بعد الاعتزال... على من يؤمن بما قدمه داود عبد السيد، أن يحاول استكمال المسيرة. الوقت يمضي، والمعركة لأجل السينما والحقيقة والحرية مستمرة منذ الأزل وإلى الأزل، ولعلّ أفضل طريقة يشكر من خلالها داود عبد السيد، من أحب أعماله، هي أن يسعى إلى تغيير جديد في عقلية الإنتاج!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...