شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أن تكون فلاحاً سورياً مهاجراً... هو أن تقطف جوعك كآخر موسم وترحل

أن تكون فلاحاً سورياً مهاجراً... هو أن تقطف جوعك كآخر موسم وترحل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والمشرّدون

السبت 27 أغسطس 202210:34 م

يندرج المقال في ملف "تحت العريشة" من إعداد وتحرير زينة قنواتي

"نريدُ أن تمتد لنا جذور مجدداً، نريد أن نزهر ونثمر". هذا ما يقوله لسان حالنا في أماكننا الجديدة. 

ولكن كيف يُثمر من اقتُلِعتْ جذوره، وكيف يمكن للجذور أن تنمو مرة أخرى دون تربة؟ 

ليس المكان مجرد مساحة جغرافية يعيش فيها المرء ويتحرك خلالها ويمارس فيها نشاطاته اليومية فحسب، بل هو مجموعة معقدة من العلاقات والتفاعلات بين الإنسان ومحيطه. 

"نريدُ أن تمتد لنا جذور مجدداً، نريد أن نزهر ونثمر"

إلا أننا لا نفكر بالأمر على هذا النحو إلا في حالات معينة وضمن ظروف طارئة تعيدُ تشكيل علاقاتنا مع المكان كالحروب وما يترتب عليها من اضطرابات كالهروب والهجرات إلى أماكن جديدة. 

بعد الحرب السورية وتجربة اللجوء والاجتثاث الذي تعرضت له جذورنا كسوريين، بات سؤال الأرض ومعناها وكل ما يتعلق به من ارتباطات نفسية وذهنية ملحاً بالنسبة للكثيرين منّا على اختلاف خلفياتنا الفكرية والثقافية والمهنية، إذ أعادت هذه التجربة تشكيل معظم صفاتنا النفسية وقناعاتنا الفكرية وارتباطاتنا العاطفية.

 فكيف بهكذا سؤال إذاً للفلاح الذي أنشأ طوال حياته علاقة خاصة مع الأرض من خلال عمله فيها والتصاقه بها؟

علاقة الفلاح مع الأرض 

يأتي جواب أحمد (40 عاماً) على السؤال السابق، في حديثه لرصيف22، مفاجئاً ومغايراً لما هو متوقع إذ يقول: "أنا أكره الأرض، عملت في الزراعة لأنها مهنة العائلة، ولأننا نمتلك أرضاً ذات مساحة كبيرة ولا يمكننا إهمالها حتى لو كان الاستثمار فيها غير مربح". 

أحمد، الذي لجأ إلى ألمانيا في أواخر العام 2015 بعد أن سيطرت داعش على قريته التابعة  لمحافظة دير الزور السورية، درس الفيزياء في سوريا وكان يعمل مدرساً لها في المرحلة الإعدادية والثانوية في قريته إلى جانب عمله في الزراعة.  

"علاقتي مع الأرض سيئة جداً، أنا أكره الأرض، حتى أنني بعت جزءاً من ملكيتي في سبيل التخلص منها". يقول أحمد الذي عمل في الزراعة في سوريا كمهنة عائلية

كمزارع يصف أحمد الفلاحة بأنها مشقة حقيقية وأن العائد المادي لا يتناسب على الإطلاق مع الجهد المبذول، حتى أن الاستثمار في الأرض ليس عملية غير مربحة فحسب، بل خاسرة، يقول: "لطالما سألتُ والدي ما دمنا نخسر فلماذا نفلح؟ ويضيف: "علاقتي مع الأرض سيئة جداً، حتى أنني بعت جزءاً من ملكيتي في سبيل التخلص منها".

 إلا أنه يفهم اصرار والده على الاستثمار في الأرض رغم الخسارة وذلك لأنه ينتمي إلى جيل يرى الخسارة الوحيدة التي لا تُعوّض هي خسارة الأرض.

هذه العلاقة الخاصة والارتباط الشديد والرومانسي هو ما يؤكد عليه حسين (65 عاماً) الذي عمل في الزراعة لما يزيد عن ثلاثين عاماً. 

"كنت أريد أن أتحرر. كانت الوظيفة بمثابة سجن بالنسبة لي. والأرض شكلاً من أشكال حريتي". يقول حسين الذي ترك وظيفته ليعمل في الأرض

حسين الذي يعيش في تركيا منذ عام 2012، قرر الاستقالة من وظيفته في عام 1984، ليبدأ بزراعة أرض العائلة. يقول: "تركت الوظيفة لسببين، السبب الأول انخفاض الدخل، والسبب الآخر هو أني كنت أريد أن أتحرر. كانت الوظيفة بمثابة سجن بالنسبة لي. والأرض بمساحتها الواسعة كانت شكلاً من أشكال حريتي. أحب أن أزرع حتى لو خسرت، حتى لو تعبت. الأرض بالنسبة لي كل شيء. أنظر إلى شتلاتي وأشجاري كأنها أطفالي وأرعاها وأسقيها بكل حب. علاقتي مع الأرض ليست علاقة قائمة على الربح والخسارة حتى أن نكهة الثمار في أرضي مختلفة تماماً ، إنها ثمار تعبي وجهدي". 

تحديات وظروف المكان الجديد

من أهم التحديات الكثيرة التي تواجه المهاجرين/اللاجئين مع الانتقال إلى بلد جديد، هي القدرة على الاستمرار في ممارسة المهن التي كانوا يزاولونها في بلادهم، وهذا التحدي نفسه يواجه الفلاحين أيضاً، وربما بشكل أكثر حدة من الآخرين، إذا يفقد الفلاح بالهجرة أهم عنصر في مهنته ألا وهو أرضه، ولا يبقى بحوزته سوى المهارة التي عليه أن يطورها بحسب الظروف الجديدة كالمناخ المغاير وأنواع التربة والمحاصيل. 

ولذلك، كان لا بد من أن أسأل أحمد عما إذ كان يريد العمل في الزراعة في ألمانيا أيضاً، الذي أكد لي أنه فكر في الأمر كثيراً وسأل عن تفاصيل الموضوع ليكتشف أنه ليس بهذه السهولة.

في ألمانيا يتوجب على الشخص الذي يريد العمل في الزراعة أن يدرس تدريباً مهنياً لمدة ثلاث سنوات.
ولا استثناء في الأمر إلا للأشخاص الذين ينحدرون من عائلات تتخذ من الزراعة مهنة لها في ألمانيا.

 ففي ألمانيا يتوجب على الشخص الذي يريد العمل في الزراعة أن يدرس ما يسمى بالألمانية Ausbildung أي تدريب مهني لمدة ثلاث سنوات. 

ولا استثناء في الأمر إلا للأشخاص الذين ينحدرون من عائلات تتخذ من الزراعة مهنة لها في ألمانيا. وهذا ما لا ينطبق على أحمد، فالمهارات المهنية مثلها مثل الشهادات من الدول الأجنبية لا يتم الاعتراف بها بسهولة هنا. 

يقول أحمد متهكماً: "تخيلي يا الله حتى تربية المواشي والزراعة تحتاج Ausbildung لمدة ثلاث سنوات.. والدخل، فوق كل هذا، سيء".

على الرغم من أن الوضع في تركيا أقل تعقيداً ولا يحتاج العمل في الزراعة إلى إثبات مهارات أو دراسة إلا أن حسين لم يتمكن من مزاولة مهنته أيضاً لأسباب خاصة به، يقول: " أنا حتى لم أفكر في الأمر، رغم أن طرق ووسائل الزراعة هنا حديثة جداً والعمل فيها مربح أكثر من سوريا، وتوفر الدولة التركية على عكس السورية كل الآليات الحديثة، والأسمدة، والمبيدات الحشرية الفعّالة، إضافة إلى أنها تعوّض الفلاحين عن الخسارة في حال حدوثها، الأمر الذي لا يحدث في سوريا قط. لكني لا أستطيع العمل في أرض الآخرين، كما قلت لكِ سابقاً الأرض هي حريتي وأنا هنا لا أمتلك أرضاً وليس باستطاعتي شراء واحدة، والعمل في غير أرضي يُقوّض حريتي".

ظروف المكان الجديد هي ما جعلت نظرة أحمد للأرض تتغير، يقول: "لقد شعرت بقيمة الأرض بعد أن انتقلت إلى ألمانيا. هنا فقط شعرت بأن الأرض نعمة، نعمة حقيقية أن تكون أرضك ملكك تزرعها، أو تبني عليها بيتاً، بعد أن عانيت ما عانيته في التنقل من بيت مستأجر إلى آخر". 

أوروبا ليست الهجرة الأولى

تنتشر في المناطق الشمالية الشرقية السورية في الجزيرة ودير الزور الزراعة المروية التي تستخدم أساليب الري التقليدية التي تستنزف كميات كبيرة من المياه عبر آبار المياه الجوفية أو مياه الأنهار.

 بالإضافة إلى الزراعة البعلية التي يتم الاعتماد فيها على الأمطار.

"شعرت بقيمة الأرض بعد أن انتقلت إلى ألمانيا. إنها نعمة أن تكون أرضك ملكك تزرعها، وأن تبني عليها بيتاً لك. خاصة بعد أن عانيت هنا في التنقل من بيت مستأجر إلى آخر". يقول أحمد 

 والأخيرة تعتبر مقامرة حقيقية لا يمكن ضمان نتائجها، لا يملك فيها الفلاح إلا أن يدعو السماء. وهذا ما يبدو جلياً في أصل التسمية التي تعود إلى "بعل" إله العواصف والأمطار في أساطير أوغاريت السورية. 

على الرغم من كل مخاطر الزراعة البعلية فقد لجأ إليها الكثير من الفلاحين في المناطق الشرقية في سوريا قبل الحرب، وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة المروية وسياسات الدولة التي أضرت بمصالح المزارعين كرفع الدعم عن المازوت وسوء إدارة الموارد. 

يقول أحمد لرصيف22 إن فلاحي المنطقة الشرقية في دير الزور والجزيرة السورية هاجروا بعد موجات جفاف متكررة وقاسية، بدأت حسب حديثه في عام 2000 إلى لبنان أو إلى المناطق الجنوبية في سوريا وخصوصاً محافظة درعا، حيث تختلف هناك أساليب الزراعة والرعي وكذلك تتنوع المحاصيل، ويضيف: "نحن نُسَمّي السنة التي تهطل فيها أمطار غزيرة سنة ربيع، فآخر ربيع كان عام 1998، بعدها توالت موجات الجفاف لما يزيد عن خمسة عشر عاماً".

قضية الجفاف التي تسببت في هجرة الفلاحين السوريين الأولى يبدو أنها كانت السبب في هجرتهم الأخيرة أيضاً. إذ تشير العديد من التقارير، التي تركز على موجات الجفاف المتكررة التي ضربت سوريا وأشدها بين 2006 و2010 وفشل الدولة في التعامل مع الأزمة الإنسانية التي نتجت عنها، إلى أنها كانت أحد أسباب السخط الشعبي ومحركات الثورة السورية، على الأقل في المناطق الريفية. وهذا ما أكد عليه أحمد في حديثه أيضاً.

هل من غلّة في السلال المثقوبة؟ 

لا يزال يمتلك كل من أحمد وحسين أراضي زراعية في سوريا. 

باع أحمد قسماً منها سابقاً، على عكس حسين الذي يصر على الاحتفاظ بها كاملة رغم أن احتمال العودة إليها واستثمارها لا يبدوان ممكنين في الوقت الراهن، فيجيبني على سؤال البيع مستغرباً: "أعوذ بالله، أنت عم تكفري، لا كرامة دون أرض.. هل أبيع كرامتي؟ حتى لو لم أعد ستبقى تلك الأرض دليلاً على وجودي.. هي مكاني واستقراري".

"حتى لو لم أعُد ستبقى تلك الأرض دليلاً على وجودي.. هي مكاني واستقراري". يقول حسين الذي يرفض بيع أرضه في سوريا رغم رحيله من البلد.

حالياً، يكتفي حسين بزراعة المساحة المحيطة بالبيت الذي يسكنه بعدما حولها إلى حديقة صغيرة على حد قوله، زرع فيها دوالي عنب، وشجرة تين، والكثير من الخضروات والورود محاولاً بذلك خلق بيئة صغيرة خاصة به تشبه بيئته الأولى. 

أما أحمد فيجيب ضاحكاً على سؤالي عمّا إذا كان قد فكر بزراعة شجرة "الغَرَبْ" أو الحور الفُراتيّ، تلك الشجرة التي يقول إنها تذكره بالفرات والبلاد: "صعبة هذه. هنا لا تُزرع الأشجار إلا في الغابات وبحسب مشاريع حكومية. زراعة أو قطع أي شجرة في ألمانيا تحتاج إلى موافقة خاصة من البلدية". لذلك يكتفي بزراعة أنواع الورود المتوفرة محلياً، وبعض الحشائش كالبقدونس والرشاد والبصل، في أحواض صغيرة في شرفة المنزل. 

ليس عبثاً أن الإنسان لم يعرف الاستقرار عبر تاريخه إلا بعد أن عرف الزراعة. 

إذ كيف يستقر المرء، وكيف يستطيع أن يختبر الثبات وهو غير قادر على زراعة شجرة؟ ويبقى السؤال إذا ما كان شعور الاستقرار والتجذر في المكان ما زال ممكناً للسوري داخل البلاد وخارجها على حد سواء؟ السوري الذي لا يزرع في البلاد الجديدة سوى ما ليس له جذور عميقة، ويزرع في البلاد الأصلية، ظناً منه أن يمتلك أرضه، فيخسر، أو لا يفعل فيجوع. 

لعل الجواب الوحيد الممكن هو استعارة درويشية من (صفات الأرض والأشياء) بتعديل بسيط قد أتعدى فيه على أحقية الكرد ألا وهي: "ليس للسوريّ إلا الريح تسكنه ويسكنها تدمنه ويدمنها"، تحمله في الاتجاهات الأربعة، ولا ينجو، رغم ذلك."

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image