يقول الكاتب الأردني الساخر الراحل محمد طملية عن الحرّ: "الدنيا حرّ، الله لو يتاح لي أن أعانق لوح ثلج، لو أتزحلق على جليد تشكل في عز الظهر أمام مبنى الجريدة، لو تقابلني حبيبتي ببرود، لو تمر غيمة تحمل على ظهرها كيساً من الرذاذ الحي، لو تصفعني نسمة قطبية على خدّي الأيمن، لو يشتمني أحدهم قائلاً: محمد مسقع".
يبدو أن الراحل طملية، بخاطرته تلك، حاول أن يحاكي مشهداً يتكرر كثيراً في الأردن في فصل الصيف، لكنه يتميز باستهدافه فئةً معيّنةً ربما إذا قرأت الخاطرة رجحت أنه كتبها لأجلها، أو تصورت أنه مر من أمام بسطة "صبر"، أو منزل "يحميه" سقف الزينكو، أو بركة في الأغوار الجنوبية مليئة بالحشرات والأطفال الذين يلجؤون إليها هرباً من حر الشمس.
ففصل الصيف ليس صديقاً للفقراء في الأردن، وكذلك هو فصل الشتاء. لكن من يتتبع الحراك التطوعي وأنشطة الجمعيات الخيرية يجد أنها تكثر شتاءً وتبهت في الصيف، فنسمع عن حملات تبرعات لبطانيات وأجهزة تدفئة، وترميم أسقف وتوزيع ملابس شتوية، لكننا بالكاد نسمع عن حملات للتبرع بمراوح أو مكيفات، أو أدوية تقي أمراض ضربات الشمس.
الصيف بحب الأغنياء ويكره الفقراء إلّي مثلي.
من ثمن مزيل العرق إلى مكيفات التبريد، وما بينهما من صعوبة التأقلم والتعايش مع فصل الصيف، نستطيع أن نقرأ المشهد الصيفي الأردني بالنسبة إلى الفقراء: حرّ، وعوز، وقلة حيلة، والكثير من الأمراض، وهنا يسعى رصيف22 إلى تسليط الضوء على ذلك المشهد من خلال قصص من شمال الأردن وصولاً إلى جنوبه.
"وضع مأسوي"
البداية من منطقة الأغوار الجنوبية التي قد تلامس درجات الحرارة فيها في فصل الصيف الخمسين درجةً مئويةً، وهي أكثر بقاع الأردن فقراً. يصحبنا إليها الصحافي ومسؤول مبادرة "مسار الخير" الخيرية، محمد القرالة، ولدى سؤاله كيف يقضي الأردنيون هناك فصل الصيف، أجاب باللهجة الأردنية: "الناس هناك مقرطين"، للدلالة على أعلى درجات الشعور بالحر.
ويضيف: "سكان الغور يحبون الشتاء أكثر من الصيف، حتى الزراعة وهي مصدر دخلهم تذبل، ولا يستطيعون في هذا الفصل سوى زراعة الملوخية، فدرجات الحرارة تلامس الخمسين، والعمل في الصباح يشكل خطراً عليهم. تجدينهم يبحثون عن أي فيء أو ظل يحتمون به، وأغلبهم يضع شريطةً على رأسه ويبللها بزجاجة ماء بين فينة وأخرى، ولا قدرات ماديةً لديهم لشراء أجهزة التبريد اللازمة، وهناك من يهرب إلى الجبال مثل رعاة الأغنام لتفادي الحر".
وعما يجري داخل البيوت، يقول إن الوضع مأسوي، وأغلب المنازل عبارة عن غرفتين يتجمع فيهما أفراد الأسرة، وقد يصل عددهم إلى سبعة، وأحياناً يتكلون على مروحة واحدة معلقة على السقف وهي بدورها تجلب الهواء الحار وتوزعه، ناهيك عن انتشار الذباب بكثرة داخل البيوت، وأسقف الزينكو في أغلبية المنازل يضع عليها السكان لاصقاً أسود للحد من دخول أشعة الشمس إليها.
الفقراء أمثالي لا يملكون نقوداً تمكّنهم من شراء مكيفات، ولا نستطيع أن نسجّل أبناءنا في نوادٍ صيفية. قلبي يؤلمني وأنا أرى أبنائي يتابعون على الإنستغرام أطفالاً من جيلهم في المسابح والنوادي، في حين أنهم يجلسون أسفل مروحة وحيدة في منزلنا ويتصببون عرقاً
"عندما أزور الأغوار في الصيف، أُصاب باكتئاب وأنعزل يومين وتجدينني عاجزاً عن الكلام"، يقول، ويختم حديثه منبّهاً إلى المشكلات التي يعاني منها الأطفال هناك بشكل خاص، إذ يصاب كثيرون منهم بمرض الربو من جراء حر الصيف، وغالباً ما يكون سببه هروبهم إلى "قناة الغور"، وهي مساحة مائية كبيرة تملؤها الحشرات، ونتيجةً لذلك ترتفع أيضاً حالات الغرق.
ويبيّن أسامة الطريفي، مدير العمليات الجوية في موقع "طقس العربي" للأرصاد الجوية في حديثه إلى رصيف22، أن أكثر المناطق في الأردن ارتفاعاً في درجات الحرارة هي الأغوار الجنوبية ومحافظة العقبة، بالإضافة إلى البادية الشرقية، إذ تكون درجات الحرارة في الصيف بمعدلاتها العادية 40 درجةً مئويةً، وترتفع لتلامس الخمسين في الموجات الحارة.
وأضاف أن هناك تحذيرات مستمرةً في تلك المناطق في الصيف من عدم التعرض المباشر لأشعة الشمس، وعدم وضع الأطفال في المركبات في فترات الصباح، بالإضافة إلى شرب السوائل باستمرار وارتداء الملابس ذات الألوان الفاتحة.
"الصيف يحب الأغنياء فقط"
من الجنوب إلى وسط المملكة الأردنية، وتحديداً في العاصمة عمّان، تحدثنا مع الستيني أبو عمر الذي يعمل على عربة فاكهة الصبر في منطقة وسط البلد، عن تجربته مع فصل الصيف. قال: "أنا مثل الصبر الذي أبيعه، أحاول أن أحتمل حر الشمس حتى أبقى صامداً. الصبر يتكيف مع الحر حتى يبقى مثمراً، وأنا أحاول التكيف مع الحر حتى أثمر جيبي ببضعة دنانير أعود بها إلى بيتي كي يتعشّى أبنائي".
يخرج أبو عمر يومياً من منزله في "جبل التاج"، وهي واحدة من مناطق عمّان الشرقية الفقيرة، ويعدّ عربة الصبر بعد أن يمر ببائع الخضروات القريب من منزله ويشتري الصبر بسعر "الجملة"، وينزل إلى وسط البلد مشياً مرتكزاً على زوايا عربته حرصاً على ألا يقع، أو تصيبه ضربة شمس، وهو ما حدث معه مرتين بالفعل.
في الشتاء من السهل أن أتغاضى عن الفرق الطبقي بيني وبين زملاء قادمين من مناطق غنية.
"الصيف بحب الأغنياء ويكره الفقراء إلّي مثلي"، يقول أبو عمر وهو يزيل الشوك من الصبر، ويشير إلى الجزء السفلي من العربة حيث يضع "مطرةً" زهرية اللون تعطيه إياها ابنته كل يوم قبل خروجه للعمل، ويتابع شارحاً: "الفقراء أمثالي لا يملكون نقوداً تمكّنهم من شراء مكيفات، ولا نستطيع أن نسجّل أبناءنا في نوادٍ صيفية. قلبي يؤلمني وأنا أرى أبنائي يتابعون على الإنستغرام أطفالاً من جيلهم في المسابح والنوادي، في حين أنهم يجلسون أسفل مروحة وحيدة في منزلنا ويتصببون عرقاً، والحر يمنعهم حتى من اللعب في الشارع. أدعو أن تنتهي عطلة المدارس الصيفية بسرعة، فحينها لا وقت للّعب والجميع توحدهم الدراسة".
ويختم، مستنداً إلى مقولة للإمام علي بن أبي طالب، وهو يقدّم لنا حبةً من الصبر: "سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري!".
وتشير آخر الإحصائيات إلى أن أكثر من 15.7% من الأردنيين، يقبعون تحت خط الفقر، وأن ثلث السكان في البلاد يُعدّون فقراء، ومن المتوقع ارتفاع هذه النسبة في الأعوام المقبلة.
تعزيز للفجوة الطبقية
واقي شمس، ومزيل للعرق، وعبوات مياه صغيرة، وملابس خفيفة، وغيرها من مستلزمات لا تصفها خلود، وهي طالبة في جامعة اليرموك شمال المملكة في محافظة إربد، بأنها كماليات، بل أساسيات تجبرها على "الضغط على والدي لتأمينها باستمرار، ليس تقليداً لأحد، بل لأنها أساسية في فصل الصيف حتى تقيني من تبعات الحرارة، وأشعر بأنني متساوية مع زميلاتي اللواتي وضعهن المادي أفضل".
الوضع مأسوي، وأغلب المنازل عبارة عن غرفتين يتجمع فيهما أفراد الأسرة، وقد يصل عددهم إلى سبعة، وأحياناً يتكلون على مروحة واحدة معلقة على السقف وهي بدورها تجلب الهواء الحار وتوزعه، ناهيك عن انتشار الذباب بكثرة داخل البيوت
خلود التي تسجلت في الدورة الصيفية في الجامعة، ترى أن الصيف "يعزز الفجوة بين الفقراء والأغنياء"، وتشرح: "في الشتاء من السهل أن أتغاضى عن الفرق الطبقي بيني وبين زملاء قادمين من مناطق غنية في العاصمة عمّان، فأنا مثلاً فتاة محجبة أرتدي الجلباب، وفي الشتاء لا أهتم بتغيير جلابيبي وأكتفي بتغيير الوشاح، كما أنني لا أضطر إلى شراء مزيل عرق كما هو حالي الآن في الصيف، أو لشراء عبوات مياه كل ساعة من كافتيريا الجامعة".
"تلك كلها مصاريف تشكل عبئاً على وضع والدي المادي"، تقول خلود، وتضيف: "أعلم أن من يسمعني قد يستسخف بما أقوله، لكن عندما يعلم أن والدي الذي يعمل في الأمن العام (الشرطة)، ويتقاضى 450 ديناراً (600 دولار)، وفي رقبته أربعة أبناء بينهم طالبان جامعيان، يدرك أن ثمن مزيل العرق كل أسبوعين يشكل عبئاً اقتصادياً عليه".
وتقول في نهاية حديثها: "نحن الفقراء، من نعيش على مروحة هوائية واحدة في المنزل، ونغمض أعيننا عن إعلانات عروض الرحلات والنوادي الصيفية، نكره الصيف!".
نختم التقرير بما جاء في خاطرة الراحل طملية عن الحر، في محاكاة لفقراء الأردن في فصل الصيف: "الدنيا حر، أنا أسبح في ظل يغلي، أتضور شراراً في عتمة حمراء لا ترحم، أتقلب في مقلى بلا دهن!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم