"لم نكن نعاني من موجات الحر الشديدة هذه قبل 15 عاماً، بل لم يسبق لي أن عشتها في حياتي، فقد كان الجو مقبولاً ودرجات الحرارة في الصيف معقولة حسب طبيعة المنطقة الصحراوية". بهذه الكلمات توضح الستينية سوسن الساكت، الأوضاع الجوية في محافظة العقبة جنوب الأردن، مضيفةً لرصيف22، أن موجات الحر في المنطقة تقابلها فيضانات كبرى في الشتاء.
الثلاثيني سيف هشام، وهو مدرب غطس، يقول إن شدة الحر تفرض على العقبة "حظر تجول"، خاصةً بين الواحدة ظهراً والرابعة عصراً، وعندما يبدأ فصل الشتاء بعد طول انتظار تغمر الفيضانات الشوارع وتتسبب بخسائر مادية، مضيفاً: "لم تعد الأوضاع المناخية في آخر ثماني سنوات تطاق مطلقاً".
ويضيف أن البنية التحتية أصبحت تشكل عبئاً إضافياً على المعيشة، بقوله: "لا يمكن احتمال انقطاع التيار الكهربائي أكثر من مرة في اليوم الواحد عن المنازل التي غالباً ما يكون فيها جهازا تكييف يعملان في الوقت ذاته، لتلطيف الأجواء".
لم نكن نعاني من موجات الحر الشديدة هذه قبل 15 عاماً، بل لم يسبق لي أن عشتها في حياتي.
تقع محافظة العقبة في أقصى جنوب الأردن، وتُعدّ منطقةً اقتصاديةً بارزةً ومهمةً للمملكة لما فيها من نشاط تجاري مميز، كما يرتادها السياح من كافة أنحاء العالم لمشاهدة المرجان الأحمر الفريد في موطنه البحر الأحمر، ويقطنها ما يزيد عن مئتي ألف نسمة.
تأثيرات مباشرة
عامل توصيل الطلبات في العقبة، العشريني كمال محمود، يلخّص شكواه من تقلبات المناخ في أنها "مهلكة جسدياً ومادياً، إذ لا ينتهي عمله إلا بتناول المسكنات للتخفيف من ضربات الشمس التي يتعرض لها صباحاً، ثم صيانة السيارة لضمان استمرارية عمل نظام التكييف فيها".
بشكل مشابه، يروي عامل النظافة الخمسيني أبو سليم، حكايته مع تغير حالة المناخ في العقد الأخير، فيقول لرصيف22: "لا يمكن مقارنة الجهد الذي كنا نبذله في تلك الأعوام مع الذي نعاني منه حالياً، فنحن اليوم نبدأ عملنا في ساعات الفجر باكراً ونسارع في الإنجاز هرباً من فترة الظهيرة القاسية، ونعود مساءً لنكمل العمل".
سامر الطراونة، وهو أربعيني يعمل في ميناء العقبة في قسم نقل البضائع، يقول إن الحاجة إلى العمل والهرب من شبح البطالة المتفشي في الأردن، يجعله يتعايش بصعوبة مع درجات حرارة لم يكن يعتقد أنه سيتعرض لها، مما تسبب له بمشكلات صحية أهمها الجفاف نتيجة شدة التعرّق. أما شتاءً، فعليه أخذ كافة الاحتياطات لعدم التعرض لخطر الفيضانات والانزلاقات.
اختلال واضح للمناخ
يؤكد عمر الملكاوي، وهو راصد جوي أردني ومتابع للتغيرات المناخية في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأحمر خاصةً، أنه لوحظ وجود اختلال في دورة درجات الحرارة الطبيعية في المنطقة في السنوات الأخيرة، وهي من المفترض أن تبلغ ذروتها في تموز/ يوليو، ثم تبدأ بالهبوط التدريجي حتى دخول الخريف.
ويشير إلى أن متوسط درجات الحرارة المعتادة في العقبة كانت 37 درجةً صيفاً، و20 درجةً شتاءً، إلا أن هذه النسب اختلفت كلياً، وفي السنوات الأخيرة بدأنا نرصد درجات الحرارة الأربعينية بشكل متكرر وغير مسبوق، وفقاً لقراءة الملكاوي.
ويضيف أن شهر تشرين الأول/ أكتوبر عام 2020، تخطى الحدود في تسجيل درجات حرارة غير معتادة في الشرق الأوسط وكانت الأعلى منذ أكثر من مئة عام، وفي وضع استثنائي سجلت العقبة حرارةً وصلت إلى 44.6 درجات، وعليه تمت أرشفتها في سجلات الأرصاد العالمية على أنها الأعلى حرارةً في العالم حينها.
"الأمر مشابه لما يحدث شتاءً، إذ تكثر حالات التطرف المناخي والأمطار الوميضية التي تتسبب في تشكل فيضانات خاصةً في جنوب البلاد، وهي أمطار شديدة ضمن أوقات قصيرة لا تستطيع الأرض استيعابها"، وفقاً للملكاوي.
لا يمكن مقارنة الجهد الذي كنا نبذله في تلك الأعوام مع الذي نعاني منه حالياً، فنحن اليوم نبدأ عملنا في ساعات الفجر باكراً ونسارع في الإنجاز هرباً من فترة الظهيرة القاسية، ونعود مساءً لنكمل العمل
جنوب الأردن الأشد تأثراً
في هذا الصدد، تتحدث صفاء الجيوسي لرصيف22، وهي خبيرة أردنية في مجال التغير المناخي، عن الأوضاع المناخية في العقبة بقولها: "من البديهي ما يحدث في منطقة العقبة كونها إحدى محافظات الجنوب الأكثر تعرضاً لموجات الحر والأمطار الوميضية، والأردن بشكل عام من بين الدول الأكثر تعرضاً لتداعيات التغير المناخي في الشرق الأوسط".
وتبعاً للسيناريوهات العالمية، تتوقع الجيوسي ارتفاع وتيرة موجات الحر في الأردن عامةً، والجنوب خاصةً، لتمتد لشهرين متتاليين أو أكثر، يسجل فيها الرصد الجوي معدلات حرارة كما هي مشهودة حالياً (37-41 درجةً)، وفي الشتاء ستشهد المنطقة تراجعاً في موسم الأمطار لكن سترتفع شدتها، وستزداد الفيضانات المطرية الناتجة عن الأمطار الوميضية.
ولا تستبعد الجيوسي، وفق طبيعة المنطقة والتطرف المناخي، حدوث كارثة كالتي حدثت في مدينة طابا المصرية شمال خليج العقبة والتي شهدت فيضانات وسيولاً متكررةً دمرت طرقاً وفنادق فيها، إلا أنه لا يمكن الجزم بشدتها ونتائجها، مضيفةً أنه من الضروري الاستعداد لطقس شديد الحرارة ولتكرار الفيضانات.
الأردن بشكل عام من بين الدول الأكثر تعرضاً لتداعيات التغير المناخي في الشرق الأوسط.
مطالب للتكيف الآمن
وتطالب الجيوسي بتحديث إدارة الدولة لملف التغير المناخي، بقولها: "على وزارة البيئة وهي التي تتابع ملف التغير المناخي في الأردن، أن تبيّن أدوات التكيف التي وضعتها للتعامل مع هذا التغير، وأن تنظّم حملات توعية للمواطنين في المناطق الأكثر تعرضاً للفيضانات، وعلى الحكومة أن تتخذ كافة الإجراءات الاحترازية وأن تستحدث جهاز إنذار مبكر للكوارث البيئية، وتعيد تخطيط المدن وتطور البنية التحتية لتكون مرنةً أكثر لغاية التكيف الآمن مع الظروف المناخية الراهنة والمستقبلية".
وفي السياق يتحدث المهندس نور فرجات، إلى رصيف22، وهو خبير في إدارة المياه والبيئة، قائلاً: "تُعدّ منطقة العقبة الساحلية بطابعها الطبوغرافي والجيولوجي والمناخي وبحكم قربها من منطقة سيناء في مصر، معرضةً بشدة لحالات عدم الاستقرار الجوي في موسم الشتاء، والتي أصبحت تتزايد في تكرارها، وتنجم عنها أمطار غزيرة جداً خلال فترة زمنية قصيرة، مسببةً ارتفاع منسوب المياه الجارية وانتقالها من الأحواض المائية المحيطة بالمدينة إلى المدينة، بفعل فرق الارتفاع، ويُطلَق على السيول المنقولة اسم الفيضان المفاجئ، وأظهرت السجلات التاريخية لمدينة العقبة تكرار مثل هذه الفيضانات المفاجئة وتسببها في كثير من الخسائر المادية والبشرية، كفيضان عام 2006 الذي تسبب في وفاة 6 مواطنين".
ويشير الفرجات إلى أن ظاهرة التطرف في درجات الحرارة، أي القفزات في درجات الحرارة عبر الزمن في منطقة العقبة، أصبحت جليةً وواضحةً في العقد الأخير، وتؤكد السجلات التاريخية وأبناء المنطقة صحة ذلك، إذ تظهر درجات الحرارة خلال أشهر الصيف ارتفاعات بحدة كبيرة تتخطى حاجز الـ40 درجةً مئويةً، وما ينتج عن ذلك من زيادة كبيرة في الأحمال على الطاقة الكهربائية، وتالياً انقطاع الكهرباء بالإضافة إلى توقف ضخ المياه من الآبار كونها تعمل على الطاقة الكهربائية. ويضيف: "من هنا نستطيع القول إن تأثير التطرف في ارتفاع درجات الحرارة أصبح واضحاً على مصادر المياه في المنطقة، ويمكن أن تتوسع هذه الآثار لانتشار الأمراض المعدية".
على وزارة البيئة أن تبيّن أدوات التكيف التي وضعتها للتعامل مع هذا التغير، وأن تنظّم حملات توعية للمواطنين في المناطق الأكثر تعرضاً للفيضانات، وعلى الحكومة أن تستحدث جهاز إنذار مبكر للكوارث البيئية، وتعيد تخطيط المدن وتطور البنية التحتية
ويوضح الفرجات أن تعرّض العقبة بشكل واضح لموجات الحر المتطرفة خلال مواسم الصيف وتكرار الفيضانات المفاجئة خلال مواسم الشتاء، يفرضان على مؤسسات صنع القرار توسيع إستراتيجية إدارة مخاطر التغير المناخي للعمل بكل جدية، لتحليل وتقييم التأثيرات الناجمة عن هذه الظواهر وتقدير حجم الخطورة لكل منها، وربط ذلك بعملية إدارة الطاقة، بالإضافة إلى تحقيق بيئة استثمارية آمنة بأقل مستوى خطورة.
ويقترح المتحدث بعض الخطوات شارحاً: "لا بد لمؤسسات صنع القرار ممثلةً في سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة وذراعها التطويري شركة تطوير العقبة، من اتخاذ الإجراءات الاحترازية التي من شأنها تقليل وتخفيف حدة تأثير السيول المنقولة، وقد نجحت بالفعل في عدد منها، مثل السدود الكابحة حول العقبة والموزعة في الأحواض المائية الصبابة المحيطة بالمدينة لكبح الطاقة الحركية للمياه الجارية الناشئة عن حالات عدم الاستقرار الجوي، ومنظومة الرصد والإنذار المبكر التي تعطي تنبيهاً متدرجاً قبل وصول السيول بفترة زمنية لا تقل عن ساعة، بالإضافة إلى أنظمة التصريف المتطورة التي قللت من مستوى ارتفاع منسوب المياه الناتجة عن الفيضان المفاجئ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين