شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
يا أم الغيث أغيثينا، والرداء المقلوب، وجريشة القمح... عادات أردنية لطلب هطول المطر

يا أم الغيث أغيثينا، والرداء المقلوب، وجريشة القمح... عادات أردنية لطلب هطول المطر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 14 نوفمبر 202103:33 م

سلّمت وحسمت واستسلمت المسنّة الأردنية مريم الحاج (74 عاماً)، بفكرة أن السماء فوق الأرض الأردنية ستحرم أهلها من هطول الغيث هذا الشهر، بعد أن شاهدت يوم الجمعة الماضي عبر شاشة تلفازها، كيف أدّى أردنيون صلاة الاستسقاء، وقالت: "من وين بدها تيجي بركة المطر، والشباب لابسة على الموضة في الصلاة؟ ما في مطر هالشهر ارتاحوا!".

والربط بين ما ارتداه مصلّون خلال أدائهم صلاة الاستسقاء، وبين عدم هطول المطر في الأردن هذا الشهر، أمر مسلّم به بالنسبة إلى الحاجة مريم، التي تقول لرصيف22، وهي تضرب كفاً بكف، إن غياب العادات الأردنية القديمة المرتبطة بتلك الصلاة، تعني بكل حسم أن "لا مطر هذا الشهر على الأردن".

توضح الحاجة بلهجتها الأردنية، وأوتار حنجرتها التي تهتز بحكم عمرها ومرضها أولاً، وبحكم غضبها مما شاهدته ثانياً: "جيل الفيسبوك والبنطلونات الساحلة أضاع بركة صلاة الاستسقاء. أيام زمان كنا نذهب ونحن أطفال مع أهالينا، ونلبس ملابسنا بالمقلوب، حتى نتوسل إلى الله، ونحن على هيئة فقراء، أن يرحمنا ويجعل السماء تحنّ علينا بالمطر، وصدقيني ياما الله كان يستجيب لنا".

يمرّ الأردن بمرحلة احتباس مطري، على عكس الحالة الجوية الشتوية في مثل هذا الوقت من كل عام.

وتابعت غاضبةً: "كيف سيحنّ الله علينا، ونحن نؤدّي صلاة الاستسقاء خطأ؟ الأمر لا يتعلق بالملابس فحسب، فما شاهدته أيضاً أنهم صلّوا صلاة الاستسقاء داخل المسجد، وهو ليس من عاداتنا، إذ يجب أن تؤدّى الصلاة في الساحة الخارجية تحت السماء".

وتضيف الحاجة بحسرة حول "النفوس التي تغيّرت، وتتسبب أيضاً بعدم الاستجابة لدعاء هطول المطر"، وفق تعبيرها: "أصحاب النفوس الطيبة، وجبّارة الخواطر، والخايفة من الله ماتوا، اليوم النفوس الّي بتصلّي أغلبها ظالمة، وما بتخاف الله، من وين بدها تيجي البركة احكيلي؟"، وختمت بدندنة حزينة: "يا الله يا غيث دائم تسقي زريعنا النايم، يا ربّي تملّي الشرشوح، وإحنا تحتك وين نروح".

جفاف يهدد البلاد

عُرفت صلاة الاستسقاء بأنها من سنن الأنبياء، ويقال إن النبي موسى عليه السلام استسقى لقومه، مثل ما جاء في الآية من سورة البقرة: "وإذ استسقى موسى لقومه"، ونُقل عن رواة لقصص النبي محمد عليه الصلاة والسلام، أنه استسقى أكثر من مرة، ويُعرف دعاء الاستسقاء كما رواه أبو داود بالقول: "اللهم أغثنا اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً نافعاً غير ضار، عاجلاً غير آجل".

ويمرّ الأردن بمرحلة احتباس مطري، على عكس الحالة الجوية الشتوية في مثل هذا الوقت من كل عام، وفق تصريحات مراكز الأرصاد الجوي، وكان مزارعون أردنيون قد حذّروا من تأثير احتباس المطر على السدود، وأهمها سد الملك طلال، وسد الوالة، المهددَين بالجفاف.

وفي تصريح صحافي، قال رئيس اتحاد مزارعي وادي الأردن عدنان خدام: "إذا بقي الوضع على ما هو عليه، فستلحق بمزارعي وادي الأردن خسائر كبيرة".

"جيل الفيسبوك والبنطلونات الساحلة أضاع بركة صلاة الاستسقاء. أيام زمان كنا نذهب ونحن أطفال مع أهالينا، ونلبس ملابسنا بالمقلوب، حتى نتوسل إلى الله، ونحن على هيئة فقراء، أن يرحمنا ويجعل السماء تحنّ علينا بالمطر، وصدقيني ياما الله كان يستجيب لنا"

"جريشة" في انتظار المطر

لم تكن الدندنة، أو التهليلة التي رددتها الحاجة مريم، في ختام حديثها، من وحي تأليفها، بل هي عادة درجت النساء الأردنيات القرويات على ترديدها على شكل أغنيات، مع كل احتباس للمطر، وهو ما يبيّنه الخبير في التراث الدكتور نايف النوايسة، الذي زاد على ما غنّته السيدة:

الله الغيث يا ربي تسقي زريعنا الغربي

يا ربي ليش حابس تسقي زرعنا اليابس

يا الله الغيث يا رحمن تسقي زرعنا العطشان

يا الله الغيث يا دايم تسقي زرعنا النايم

يا الله الغيث يا ربي خبزي قرقط بعبّي

غيث غيث غيثنا صبّي الجرة واسقينا

"الله الغيث غيثنا" جاءت، حسب حديث الخبير، في العهد الحديث، ففي السابق كانت النساء بدلاً من "الله الغيث" تقول "يا أم الغيث"، ولا يُعرف بالضبط إن كانت هذه عادة وثنية، أم مسيحية، وفق حديثه، "إذ كانت النساء يصنعن من خلال العصي شكل صليب، ويضفن عليه هيئة امرأة هي أم الغيث، ويتوجهن بها إلى أحد أبناء البلدة المعروفين بكرمهم وجودهم، ويطلبن منه، وهن يغنّين الأغنية، أن يصنع طعاماً ويقدّمه للفقراء، وفي أثناء ذلك كان أطفال القرية يصطفّون أمام بيت الرجل وهو يطبخ لهم في قدر كبير جريشةً من القمح واللبن. وبعد انتهاء الطقس يعود كل منهم إلى منزله في انتظار هطول المطر".

ويضيف النوايسة: "عاصرت تلك المشاهد وأنا طفل، قبل نحو ستين عاماً، وأذكر أنه وبعد أيام قليلة من هذا الطقس، كان يهطل المطر، لتغنّي نساء القرية بعدها: ‘راحت أم الغيث تجيب رعود وجابت زرع طول العود’، وتحوّلت هذه العادة لتصبح أداء صلاة الاستسقاء".

عاصرت تلك المشاهد وأنا طفل، وبعد أيام قليلة من هذا الطقس، كان يهطل المطر، لتغنّي نساء القرية بعدها: ‘راحت أم الغيث تجيب رعود وجابت زرع طول العود’.

وهنا ينتقل النوايسة إلى عادة لبس الرداء بالمقلوب، ويؤكد صحتها ودقّتها: "من أساسيات أداء صلاة الاستسقاء كان اصطحاب الرجال لنسائهم وأطفالهم ودوابهم وأغنامهم، والصلاة في ساحات واسعة، مع ارتداء الملابس بالمقلوب، ويراد من الأمر رسالة فحواها أننا جئنا إليك يا الله فقراء، فجمال الرداء يكمن في ظاهره، أما الباطن فقد يكون مثقوباً أو رديئاً، وهذه دلالة على أنني عبدك يا الله، انظر إليّ من الداخل وليس من الخارج. أما اصطحاب الأطفال إلى الصلاة، فالمراد منه أن تكون هناك أرواح بريئة طاهرة تتوسل إلى الله بالغيث حتى يستجيب".

"إذا أحسنوا النية، ونفوسهم كانت طيبة، فإنهم قريبون من السماء التي ستحنّ عليهم بالمطر"، يضيف الباحث، ويشير أيضاً في سياق حديثه عن الفرق بين اليوم والأمس، إلى أن النوايا كانت في السابق خالصةً وطاهرةً، وسرعان ما يستجيب الله لدعوات مصلّي صلاة الاستسقاء، أما اليوم فـ"تناثرت الغيوم المحملة بالغيث، لأن الفساد ظهر في البر والبحر، فتبدلت النوايا والنفوس، وأبعدت عنها السماء!".

ورأى أن طريقة أداء صلاة الاستسقاء اليوم، بعيدة البعد كله عن أساسياتها، لأن المصلّين أيضاً باتوا يصلّونها داخل المساجد، ولا يقلبون ملابسهم، ناهيك عن أنه من المتعارف أن يصوم الشخص ثلاثة أيام قبل أدائه هذه الصلاة.

وعن الأمثلة الشعبية الدارجة في الأردن، والتي تتعلق بطلب المطر، ختم النوايسة: "’أيلول ذيله مبلول’، و’يأتي تشرين ويغسل الياسمين’، و’كانون كن وعلى الفقير حن’، و’بكانون كون ببيتك وكثر حطبك وزيتك’".

صلاة مختلفة عن التقاليد

شارك علي دعنا (34 عاماً)، في صلاة الاستسقاء الأخيرة في أحد مساجد الأردن. سألناه عن تجربته التي بدت بعيدةً عن "أصول" هذه الصلاة التقليدية، وقال إنه أداها داخل المسجد، وليس في الساحة الخارجية، ولم يرتدِ ملابسه بالمقلوب، على الرغم من اعتقاده بأن ذلك أفضل، بالنسبة إلى العادات الدارجة قديماً، "لكنني كنت مرتدياً بلوزة من دون جاكيت، فكيف سأقلبها؟".

وأضاف: "في مسجد آخر، غير الذي صلّيت فيه، وفق ما سرده أصدقاء لي، أقام الإمام صلاة الاستسقاء قبل أدائها، وهو ما لا يجوز، فحسب ما هو متعارف عليه، أن هذه الصلاة لا إقامة لها، فاعترض المصلّون، وخرجوا من المسجد".

وقال الشاب في نهاية حديثه: "ما لفتني هو إمام الجامع الذي صلّيت فيه، فقد تلا الآية الكريمة التي تقول: ‘ربنا لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا’، وكأنه يشير إلى سبب احتباس المطر عن الأردن".

"من أساسيات أداء صلاة الاستسقاء كان اصطحاب الرجال لنسائهم وأطفالهم ودوابهم وأغنامهم، والصلاة في ساحات واسعة، مع ارتداء الملابس بالمقلوب، ويراد من الأمر رسالة فحواها أننا جئنا إليك يا الله فقراء، أنا عبدك يا الله، انظر إليّ من الداخل وليس من الخارج"

في الكنائس أيضاً

سألنا الأب رفعت بدر، عما إذا كان مسيحيو الأردن يصلّون لأجل هطول المطر، وأكد أن جميع الكنائس يوم الأحد تصلّي مؤخراً قداديس المطر، وقبل أن يذكر ماذا يدعون خلالها، تحدث عن أنشودة "يا أم الغيث غيثينا"، التي بيّن أن هناك أقاويل تقول إنها تقصد بأم الغيث مريم العذراء، وأن العصي التي كانت تتشكل على شكل صليب مع رداء امرأة، هي رمز لها.

ففي القرى الأردنية، مثل تلك الواقعة في محافظتي عجلون والكرك، كانت تُرفع أيقونة "أم الغيث" لطلب المطر، لافتاً إلى أنه في العام 1998، شهد الأردن احتباساً للمطر، فشارك مع مجموعة من رجال الدين في الكرك في طقس طلب المطر، عن طريق تلك الأنشودة التي يعدّها عادةً شعبية دينية.

وتأتي قداديس المطر، كما يوضح الأب رفعت، من وحي قصة النبي إيليا الذي صلّى لأجل هطول المطر، وهو ما جاء في "سفر الملوك"، عندما صلّى في جبل الكرمل، وطلب منه الرب: "اذهبْ وتراءَ لأخاب، فأعطي مطراً على وجه الأرض".

ومن الأدعية التي ترددها قداديس الأحد في الكنائس الأردنية، حسب ما ذكره الأب بدر: "اللهم يا من فيه حياتنا وحركاتنا ووجودنا، جُد على أرضنا بالغيث العميم"، و"اللهم الذي به نحيا ونتحرك ونوجد، أرسل لنا ما يلزمنا من المطر، حتى إذا ما ارتوينا من هباتك وحصلنا على معونة إسعافاتك الحاضرة".

نختم التقرير بقصةٍ ذكرتها مسنّة فضلت أن ندعوها بأم عبد الله، وعمرها 69 عاماً. قالت: "أنا كنت من أطفال قريتي ‘مأدبا’ الفقراء، وكنا نصطف أمام منزل الرجل الكريم، وكان اسمه العم حسين، وكنا نلتف حول النساء وهن يغنين يا أم الغيث، ونعود إلى منزلنا حاملين أطباقاً فيها أكلة الجريشة".

وتختم: "كنت أعتقد أن دعاء أمي رحمها الله، للعم حسين، لأنه أطعمنا طعاماً لذيذاً، هو سبب هطول المطر بعد يومين من طقس يا أم الغيث، لذا يبدو أن الكرماء وأصحاب النفوس الصافية هم من يجلبون لنا الغيث".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image