شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"الأسوأ في كل شيء"... بانوراما التهميش في حي السلم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والفئات المهمشة

الجمعة 19 أغسطس 202210:15 ص

تتراصف قوارير مخصصة لتعبئة العطور على رفوف محل عبد الرحمن، في حي السلّم، وتعبق في المكان روائح عطرية مختلفة. هو شاب سوري الجنسية، يبلغ من العمر 32 عاماً، متزوج وأب لطفلة عمرها ثلاث سنوات، أتى إلى حي السلّم عام 2008، ويعمل في محل العطور نفسه منذ ذلك الوقت.

يصف عبد الرحمن الحياة في حي السلم بقوله لرصيف22 إنها "صعبة بشكل لا يُطاق، وبعد الأزمة الاقتصادية أصبحت مستحيلةً". يردف: "اتّخذت قرار السفر وسأغادر قريباً. لا أنكر أنني تعلّقت بهذا المكان وبأهله، لكن لم تعد لدي القدرة على الاستمرار".

يسكن الشاب السوري في مكان قريب من عمله، ويعاني من وطأة الإيجارات التي ارتفعت بشكل كبير مؤخراً. عن ذلك يقول: "بالرغم من غلاء الإيجارات، فإنها أقل من مناطق أخرى، وهذا الغلاء لا يتطابق مع حركة البيع التي انحدرت في السنوات الأخيرة بشكل مخيف جراء الأزمة الاقتصادية". يروي أن "المتجر كان قبل سنوات مختلفاً؛ كان مليئاً بمختلف أنواع العطور، أما اليوم فلا نشتري إلا القليل منها، تبعاً للطلب حصراً. في المقابل، الجيد هو أن كثيرين أصبحوا يطلبون العطور المركبة لا الأصلية، كونها أوفر سعراً".

اختار عبد الرحمن السكن والعمل في حي السلّم، لأنه أرخص من بقية المناطق. "لا أنكر وجود الكثير من المشكلات"، يحكي، معدداً "الانقطاع الدائم للكهرباء، أقصد كهرباء المولدات الخاصة، إذ إن كهرباء الدولة لا تصلنا أصلاً". وعدا ذلك، يلفت إلى أن "هناك أيضاً مشكلة انقطاع المياه المستمر. أحياناً تنقطع لأسبوعين كاملين ولا خيار أمامنا سوى شراء المياه لتعبئة الخزانات، وكلفة النقلة الواحدة منها 700 ألف ليرة لبنانية (نحو 22 دولاراً)". ويضيف: "حياتنا مرتبطة بالماء والكهرباء، نقوم بجدولة مواعيدنا وفقها، ويحصل أن تلغي موعداً بسبب عدم توفر ماء للاستحمام".

في جنوب ضواحي بيروت الجنوبية، بين مطار رفيق الحريري الدولي غرباً، والجامعة اللبنانية شرقاً، وبمحاذاة بلدية المريجة-تحويطة الغدير من جهة الشمال، يقع حيّ السلّم، أحد الأحياء التابعة لبلدة الشويفات، ويتداخل معها في المنطقة التي تُعرف باسم صحراء الشويفات.

موقف الباص رقم 4، في شمال الحيّ، وهو موقف تنطلق منه ميكروباصات تقلّ راكبيها إلى قلب بيروت الإدارية وصولاً إلى شارع الحمرا، هو آخر مكان تصل إليه السيارات بشكل مريح، قبل أن تغرق في ضيق الشوارع الداخلية.

في حي السلّم سوق شعبي مقصود من مختلف المناطق المحيطة، مليء بكافة أنواع المحال التجارية. يقدّر المسؤول الإعلامي لبلدية الشويفات، طارق أبو صخر، مساحة الحي بـ2.5 كيلومترات مربعة تقريباً، بينما مساحة مدينة الشويفات عموماً تقدَّر بنحو 19 كيلومتراً مربعاً، ويسكن فيه تقريباً نحو ثلاثمئة ألف إنسان.

ويضيف أبو صخر لرصيف22: "آخر إحصاء قام به الجيش اللبناني كان لاحقاً على حرب تموز/ يوليو 2006، وقدّر عدد سكان حي السلم بمئتين وخمسين ألف مواطن. اليوم العدد التقديري هو ثلاثمئة ألف، أي ثلث عدد سكان منطقة الشويفات تقريباً.

ويشرح أن "منطقة الشويفات تُقسم من حيث المجال السكاني إلى مناطق عدة: حي السلم، وصحراء الشويفات، وهي في الأصل تضم المصانع والمعامل، وقد بدأت تتحول إلى منطقة سكنية بعد الحرب الأهلية، أمّا الشويفات البلدة، فهي المنطقة السكنية الأقدم، ودوحة الشويفات، ودوحة الحص التي بدأت تُسكن منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، ثمّ سرعان ما اكتظت بالسكان خلال السنوات العشرين الأخيرة".

خريطة توضح موقع حي السلم من مدينة الشويفات. المصدر محترف التجدد المديني 2017 – 2018 المشروع المديني لمدينة الشويفات، إعداد قسم التنظيم المديني، كلية الفنون الجميلة والعمارة - الجامعة اللبنانية.

تنعكس جنسية عبد الرحمن على تجربته اليومية كمقيم في حي السلّم، "في الكثير من الأحيان أتعرض لمضايقات"، يروي مستدركاً: "ولكنها لم تتعدَّ حدود الكلام، مثل ‘شو بعدك عم تعمل هون؟’، و‘ليش ما ترجع عا بلدك؟’". تعكس العبارتان الأخيرتان وغيرهما، حالةً أوسع تتصل بخطاب الكراهية المعمم بصورة منظمة ضد السوريين، بعد تدفق اللاجئين إلى لبنان إثر الثورة السورية عام 2011، وما تلاها من أحداث.

يتلقى عبد الرحمن الذي لم يأتِ إلى لبنان لاجئاً هذه العبارات على أنها حسب قوله: "مجرد أمور لفظية. لم يحصل أن تعرّضت لأكثر من ذلك. في المقابل، نحن لا نعاني هنا من قيود على التجول كما حصل في بعض المناطق حيث مُنع السوريون من التجول في أوقات محددة". ويتابع: "لو عاد الأمر إلي، أتمنى العودة إلى بلدي بالطبع، لكن منزل أهلي هُدم بسبب قصف النظام على درعا، والعودة إلى سوريا مستحيلة، والبقاء هنا أيضاً صار مستحيلاً، لذلك قررت محاولة السفر إلى أوروبا".

اللجوء إلى حي السلّم

تتعدد قصص وحكايات القادمين من بلدان أخرى، سواء أولئك الذين جاؤوا بحثاً عن عمل لم يتوفر لهم في بلادهم، أو الذين لجأوا بسبب الحروب.

يجلس أبو رضا في محلٍ لتصليح وبيع الساعات، حيث يعمل، ويقع في قلب السوق الرئيسي لحي السلّم. أبو رضا رجل خمسيني يحمل الجنسية العراقية، جاء إلى لبنان قبل 22 عاماً، يقول لرصيف22: "إذا أردنا تقييم المناطق ووضع علامات، فإن حي السلم يأخذ الأسوأ في كل شيء، هذا ما يمكن اختصاره عن وضع المنطقة". ويضيف: "أنا أعيش هنا وأعمل منذ سنة 2000. تركت بلدي بسبب ظروف وأسباب شخصية لا أحب الحديث عنها، ولا أستطيع العودة حتى اليوم".

"لا يمر يوم، أو لا تمر بضع ساعات بين إشكالين في الشارع. لا وجود للأمن والأمان هنا، الناس قد تقتل بعضها بسبب خلاف على أفضلية مرور أو على تعبئة غالون ماء، وقد يصادف مرورك في الشارع فتموت برصاصة طائشة"

يشرد أبو رضا ويردد السؤال: "لماذا اخترت حي السلّم؟ ربما بسبب قَدَري، جئت فوجدت نفسي هنا. كان يمكن لقدري أن يأخذني إلى مكان آخر. أتيت بدايةً عن طريق أصدقاء لبنانيين، وتعودت على المكان. كان العامل المادي ورخص الأسعار هنا، خاصةً الإيجارات، وقرب المنطقة نسبياً من بيروت وسهولة الوصول عن طريق الباصات المتوفرة، من العوامل المشجعة على اختيار هذه المنطقة. أشاهد بحكم عملي في السوق كل شيء يحصل يومياً. لا يمر يوم، أو لا تمر بضع ساعات بين إشكالين في الشارع. لا وجود للأمن والأمان هنا، الناس قد تقتل بعضها بسبب خلاف على أفضلية مرور أو على تعبئة غالون ماء، وقد يصادف مرورك في الشارع فتموت برصاصة طائشة. والناس هنا تتشاجر لأتفه الأسباب، ربما بسبب ما يعانونه من ضغوط في حياتهم وبسبب غياب الدولة، وكل يوم يزداد الوضع سوءاً، لكن للأمانة لم يتعرض لي أحد بشيء طوال فترة وجودي هنا إلا في ما ندر. العراقيون بشكل عام لم يتعرضوا لمشكلات كتلك التي واجهت السوريين، ربما لأن عددهم أقل، وربما لأن الحرب في العراق لم تؤثر بشكل مباشر على لبنان".

"أنا أيضاً لا أتدخل في المشكلات هنا وأبتعد عنها قدر الإمكان"، يتابع أبو رضا، "وأسكن في مكان قريب من عملي، وأفكر فقط في أنني جئت إلى هذه المنطقة كي أعمل وأعيش. صار لديّ بعض الأصدقاء أزورهم ويزورونني، ومنهم لبنانيون وسوريون وعراقيون أيضاً".

التقدّم في السن في حي عشوائي

في حيّ الباقر، القريب من الموقف، وعندما يُقال "الموقف" بدون تمييز فالقصد يكون ذاك الواقع على طرف حي السلّم والذي تنطلق منه ميكروباصات تصل إلى المشرفية والكولا، يسكن أحمد نور الدين (72 عاماً).

انتقل أحمد من قريته برج قلاويه في جنوب لبنان، إلى حي السلّم بحثاً عن عمل عام 1966. يخبر رصيف22 بأنه كان من أوائل سكان حي السلّم: "اشتريت الأرض من أحد الملّاكين، وكان من الطائفة المسيحية، وبنيت عليها هذا البيت، والبيت توسع لاحقاً ليصبح بنايةً سكنيةً فيها أولادي، وقمت بتأجير بعض الشقق". يسترجع شكل المنطقة وقتها، قائلاً: "كانت مليئةً بأشجار الزيتون وبساتين الليمون واللوز، وكانت فيها بركة قريبة من هنا، في المنطقة التي صارت تُعرف بمدينة العباس، كان يأتي الناس إليها ليستعملوها في سقاية الماشية وري المزروعات".

يشير أحمد إلى أن العيش في المنطقة وقتها اتّسم بالسلام بين السكان، وواحدة من الروايات المتصلة باكتساب المنطقة اسمها متصلة بذلك: "كانت العلاقة بين السكان الجدد القادمين إليها وبين أصحاب الأراضي الذين سكنوا المنطقة في الأصل علاقة سلام، وتقول الرواية إن المنطقة سُمّيت بدايةً حي السلم (بكسر السين واللام)، بمعنى السلام، ومع الوقت باتت تُلفظ بضم اللام". وهناك رواية أخرى متداولة "تردّ الاسم إلى وجود سلّم كان يفصل بين ضفتي النهر الذي كان يقسم المنطقة".

"ما يُشاع عن حي السلم يشبه قصة التفاحة العفنة في الكيس السليم: تصدر الرائحة منها فتظن أن الكيس كله فاسد. لا أنكر وجود مشكلات، ولكن معظمها يتفاقم بسبب غياب الدولة التي لا نلاحظ وجودها إلا حين تريد إلقاء القبض على أحد المطلوبين"

بالعودة إلى الستينيات، يقول أحمد إنه عندما وصل إلى الحي الجنوبي من أحياء ضواحي بيروت الجنوبية، "كانت البيوت قليلةً جداً، وكنت أعمل بلّاطاً في منطقة الأشرفية. وعلى الرغم من بُعد المنطقة التي لم يكن الوصول إليها سهلاً مثل اليوم، فقد اخترت الاستقرار هنا على مقربة من بعض الأقارب".

"كان لي أقارب أيضاً في منطقة النبعة البيروتية"، يردف، "لكنني وقتها شعرت بأن الناس هنا أقرب إلى القلب وتحب بعضها وتعيش كالعائلة الواحدة. لي أقارب هنا جاؤوا قبلي، واختاروا هذا المكان بسبب رخص الأسعار في ذلك الوقت. سافرت إلى الأردن والسعودية والكويت للعمل، لكنني لم أرغب في البقاء في أي بلد، وعدت إلى هنا ولم أفكر يوماً في المغادرة إلى مكان آخر. هنا أعيش بين أهلي وناسي".

يعتقد أحمد أن ما يروَّج عن حي السلم، "يشبه التفاحة العفنة في الكيس السليم؛ تصدر الرائحة منها فتظن أن الكيس كله فاسد". يكمل: "لا أنكر وجود مشكلات كتلك الموجودة في كل مكان في هذا البلد، ولكن معظمها يتفاقم بسبب غياب الدولة التي لا نلاحظ وجودها إلا حين تريد إلقاء القبض على أحد المطلوبين".

وجهة تاريخية للنازحين

في حديث مع المهندس دانيال حليمة، وهو مهندس معماري مختص بالتنظيم المديني العام، شارك في دراسة أجراها طلّاب الماستر التخصصي في قسم "التنظيم المديني"، في كلية الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانية، بعنوان "محترف التجدد المديني 2017-2018/ المشروع المديني لمدينة الشويفات"، يقول لرصيف22، إن "تطور العمران في حي السلم بدأ في فترة الأربعينيات حين شهد لبنان حركات نزوح كبيرة من الأطراف، وخاصةً من البقاع، في ظل أوضاع أمنية غير مستقرة (حقبة ما قبل الاستقلال)، وفي ظل أوضاع اجتماعية سيئة حيث لا فرص عمل متوفرةً، فسكن النازحون في الضواحي وكان حي السلم إحدى هذه الضواحي التي استقبلت الوافدين من الطبقة العاملة التي شكّلت كتلاً سكنيةً وأنسجةً اجتماعيةً وديةً وعائليةً، توزعت في الحي سكنياً بحسب المناطق التي قدِمت منها".

ويضيف أنه "مع بدء الحرب الأهلية عام 1975، شهد حي السلم تدفقاً كبيراً للنازحين والمهجرين إليه من مناطق الصراع الطائفي، ثمّ من الجنوب اللبناني بسبب الاجتياحين الإسرائيليين الأول والثاني، 1978 و1982، ما أنتج توسعات سكنيةً كثيفة، ونتجت عن ذلك منطقة عشوائية تُعدّ الأبرز في ضواحي بيروت".

حي السلم سنة 1991، المصدر الجيش اللبناني، مديرية الشؤون الجغرافية.

"أما التحول الثالث في التوسع العمراني"، يتابع حليمة، "فقد حصل بعد الحرب إذ جاء سكان بيروت الذين نزحوا بعد مشروع سوليدير (مشروع إعادة إعمار وسط بيروت)، وخاصةً أولئك الذين كانوا يقيمون في منطقة وادي أبو جميل (أحد أحياء وسط بيروت)، وسكنوا في حي السلم، وقامت حينذاك المشاريع الضخمة في المناطق التي لم تكن قد استُغلّت بعد، ومنها "مدينة العباس".

ويلفت حليمة إلى أنه بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، عاد بعض الأشخاص إلى قراهم ليستقروا فيها، ولكن بسبب غياب فرص العمل وعدم تنمية الأرياف، رجع معظمهم ومَن بقوا هناك هم كبار السن الذين رغبوا في البقاء في بيوتهم التي غادروها.

مدينة العباس... وجهة النازحين من بعلبك

في "مدينة العباس" التي تقع بعد السوق مباشرةً، معظم السكان هم نازحون من منطقة بعلبك. في أحاديث متفرقة مع أشخاص في الشارع، يتبين أن "أحد المتمولين الذين انتقلوا من وادي أبو جميل في وسط العاصمة بيروت، كان يخطط لبناء ‘مدينة’ متكاملة العناصر، غير أن المشروع اجتاز مرحلته الأولى حصراً، أما المراحل التالية فتم إنجازها بصورة عشوائية". والحال أن المدينة لم تصبح مدينةً إلا في الاسم الذي يحمله هذا الحي.

صورة تقريبة لمناطق حي السلم من Google maps

في حي الزهراء المتفرع من منطقة العباس، تسكن فوزية درة، وتملك مع أهلها في الحي نفسه دكان سمانة. تقول لرصيف22: "كنت صغيرةً جداً عندما جاء أهلي إلى هنا. أذكر طفولتي وأذكر المنطقة وبساتين الزيتون والنهر والبركة التي كان يستعملها السكان، والهواء المنعش في كل مكان".

وصلت عائلة فوزية إلى حي السلم سنة 1970. "كنّا من بين أوائل الذين سكنوا هنا، وبسبب صعوبة العيش في بعلبك ورخص أسعار الأراضي هنا، اختار أهلي هذه المنطقة. لم يكن فيها أي بيت. الشوارع ظهرت والبيوت بُنيت في معظمها بعد الحرب الأهلية".

العلاقة بين بعلبك، الموطن الأصلي لفوزية، وأهلها لم تنقطع. في دكانهم يبيعون المونة التي يتم تحضيرها في بعلبك. "نحن نسكن هنا ولكننا من بعلبك، هكذا نعرّف عن أنفسنا"، تقول فوزية وتضيف: "نفوسنا ما زالت هناك، وأجدادنا من هناك، وننتمي إلى هناك. أحب حي السلّم لا أنكر هذا، لكن جذوري ومشاعري متعلقة ببعلبك أكثر، وأتمنى أن نعود يوماً ما ونسكن هناك بشكل دائم".

ما تصفه فوزية بالملكية عندما تتحدث عن منازل العائلة ودكانها لا يتطابق مع المعنى القانوني لامتلاك العقار، أي حيازة المستندات إثر تسجيل الملكية لدى السجل العقاري. تؤكد: "نحن لا نمتلك سندات تثبت ملكيتنا لهذه البيوت، فالعقارات غير مفرزة. حين اشترينا الأراضي تمت العملية بشكل قانوني، وحصلنا على رخصة للبناء، لكنها لم تُسجَّل في الدولة إذ إن معاملات التسجيل تحتاج إلى إعادة فرز المنطقة ودراستها عقارياً، وهو الأمر الصعب حالياً في ظل الزيادة الكبيرة في الطوابق والأبنية".

تشعر فوزية بأن "صعوبات الحياة في حي السلم تختلف بين مَن قدِموا قبل الحرب ومَن قدموا بعدها". فالذين انتقلوا إلى حي السلّم بعد الحرب "معظمهم مستأجرون، والبنايات كلها بُنيت من دون تنظيم، ولا وجود للدولة، فالأحزاب هي التي تسيطر وتقوم بدور الدولة لغايات انتخابية".

من خلال جلوسها في الدكان، تلاحظ فوزية التغيرات الاجتماعية التي طرأت في السنوات الأخيرة على أبناء الحي، ما انعكس تغيراً في أنماط الاستهلاك: "اليوم تشتري الناس اللّبن بالكيلو، أو نصف الكيلو، فعدا عن التوفير في الأسعار لديهم مشكلة التخزين في ظل غياب الكهرباء، ومَن كان يشتري كرتونة بيض (30 بيضة) صار يشتري البيض بالحبة، وغيرها الكثير من الأمور التي صارت تُشترى بالقطعة والكيلو والأوقية (200 غرام). كان يأتي الطفل إلى الدكان ويشتري بألف ليرة ما يحتاجه، واليوم يأتي معه عشرة آلاف لا تكفيه، فيخرج باكياً".

وعند سؤال فوزية عما إذا كانت تتمنى أن تعود الحياة هنا كما كانت في السابق قبل الاكتظاظ السكاني، تجيب بتلقائية: "يا ريت"، ثم تستطرد: "لكن المشكلة الكبيرة، أين سيذهب هؤلاء كلهم؟ فبين الواقع والتمنّي مسافات بعيدة".

والد فوزية، حسن درة، رجل ثمانيني من أوائل مَن قدِموا من بعلبك إلى المنطقة. اشترى أرضاً وبنى عليها بيتاً ثم أضاف فوقه طابقين سكن فيهما أبناؤه وأجّر بعض شققه، وامتلك الدكان ويساعد أولاده في العمل لتمضية الوقت. يحكي حسن درة عن الأوضاع كيف تغيرت بين الماضي والحاضر، وعن انطباعاته من خلال تغيّر السلوك الاستهلاكي للسكان.

سعاد الأطرش، واحدة من سكان حي الزهراء نفسه، وهي زبونة دكان حسن درة وابنته فوزية. تشتري سعاد من الدكان حاجياتها اليومية، وهي أيضاً من منطقة بعلبك وتسكن في حي السلّم منذ أكثر من عشرين عاماً. تخبر سعاد رصيف22 بأنها "انتقلت إلى حي الزهراء قبل خمس سنوات لأن الإيجارات هنا منخفضة، والناس في هذا الحي تشعر مع غيرها أكثر، ومعظمهم من المنطقة نفسها ويعيشون كالأهل في ما بينهم، عدا عن أن الإيجارات تنخفض كلما ابتعدت عن حي الموقف وتوغلت في أحياء المنطقة أكثر".

قبلها، كانت تسكن سعاد في "حي الحسينية، وهو على مقربة من مدينة العباس أيضاً، لكن الإيجارات فيه ارتفعت بشكل كبير ولم نعد نستطيع الاستمرار. وصل إيجار المنزل قبل الأزمة إلى 500 ألف ليرة، أي أكثر من ثلاثمئة دولار، واليوم ندفع هنا مليوناً ونصف المليون بدل إيجار المنزل". ورغم أن الرقم الجديد لا يساوى إلا 50 دولاراً بسبب انهيار سعر صرف الليرة إلا أن رواتب اللبنانيين لا تزال بالليرة ولم تتغير كثيراً.

سعاد متزوجة وأم لولدين، الأكبر عمره 16 سنةً، والأصغر 14 سنةً، واضطرت بعيد الانهيار الاقتصادي إلى أن تنقل تعليمهما من مدرستهما الخاصة إلى المدرسة الرسمية. المشكلة تبعاً لما تقوله سعاد، هي في قلة المدارس الرسمية وبُعدها عن حي السلّم. تقول: "لا توجد أي مدرسة رسمية في حي السلّم، وعلى الرغم من الارتفاع الكبير في عدد السكان، هناك فقط نحو عشر مدارس خاصة في نطاق الحي، وهي لا تلبّي حاجات السكان كلهم، عدا عن الارتفاع الكبير في أقساط هذه المدارس خلال السنتين الأخيرتين".

لم تعد سعاد قادرةً على سداد الأقساط، واضطرت إلى نقل أولادها إلى مدرستين بعيدتين. وفي ظل انعدام قدرتها على سداد كلفة المواصلات إلى المدارس، تقول: "يذهب ولداي إلى مدرستيهما سيراً على الأقدام، الكبير إلى حي المعمورة والصغير إلى برج البراجنة، وكلا المنطقتين تبعدان عنّا مسافة نصف ساعة من المشي على الأقل".

زوج سعاد يعمل موظف أمن في شركة خاصة، وهو المعيل الوحيد للعائلة، ويعاني من أمراض عدة، ويحتاج إلى الدواء بشكل دائم. تقول: "نجد صعوبةً في تأمين الأدوية، وإنْ وُجدت فسعرها مرتفع جداً". وتتابع: "لا يوجد في حي السلم سوى مستشفى خاص وحيد، هو مستشفى الهادي، وهو يفتقر إلى الكثير من التجهيزات والمقومات الطبية الضرورية، بينما توجد فقط بعض المستوصفات الخاصة (مراكز العناية الأولية) التابعة لجمعيات مرتبطة في معظمها بالأحزاب أو مدعومة منها. في النتيجة، الأحزاب هنا هي التي تؤمّن المستلزمات الطبية، لكنها في المقابل لا تعطيها إلا للمنتسبين إليها".

"لا خيار آخر أمامنا ولا مكان لننتقل إليه. وُلدت هنا وأعيش مع أهلي وأجد صعوبةً في الانتقال إلى مكان آخر. الأسعار هنا أرخص من أي مكان، وهذا ما يجعل الناس يبقون هنا. ربما تعوَّدت أجسامنا على الروائح فلم نعد نتأثر بها"

أكثر ما يقلق سعاد لجهة سكنها مع عائلتها في حي السلّم هو "التفلت بين جيل الشباب وانتشار المخدرات والممنوعات"، تبعاً لقولها. تضيف: "ربما هي ليست ظاهرةً عامةً ويمكن النجاة من براثنها، لكنني شديدة القلق على ولديّ لأن خطأً واحداً قد يأخذهما في طريق المخدرات، وربما خوفي مبالغ فيه، لكنني أمنعهما من التسكع في شوارع الحي، يتنقلان فقط بين المدرسة والبيت. أشعر بأن النزول إلى الشارع هنا قد يؤدي إلى خسارتهما. نسمع بعض القصص التي يتداولها الجيران حول انتشار المخدرات. شخصياً لم أرَ شيئاً، ولكن هكذا نسمع. ربما كنت أتمنى أن نعيش في منطقة أكثر أماناً، ولكن قدراتنا المادية لا تساعدنا، فبالإضافة إلى الإيجارات، أسعار المستلزمات الحياتية هنا أرخص من معظم المناطق الأخرى".

غياب التخطيط المدني منذ اللحظة صفر

"في بدايات تشكّل المناطق السكنية في حي السلّم، قام ملّاك الأراضي بغرض الاستفادة الأكبر من أراضيهم بتقسيم العقارات الكبيرة إلى قطع صغيرة، لتستوعب عدداً أكبر من البيوت أو الأبنية"، يقول دانيال حليمة، موضحاً أنهم "قاموا بإنشاء مبانيهم على كامل المساحة مع الحفاظ على تراجع بسيط لا يتخطى المترين، ما أنتج تلقائياً طرقات ضيقةً بين المباني، وهذا ما جعل المنطقة مكتظةً بالسكان وعشوائيةً، ولكن يمكن عدّها عشوائيةً منظمةً، فالمباني كلها في اتجاه واحد وبينها طريق ضيق نشأ نتيجة هذا التراجع، كما قام السكان عند البناء بإضافة الشرفات، فصارت قريبةً من بعضها بحيث يمكن القفز من شرفة إلى أخرى، وأصبحت الأحياء مناطق لا تدخلها الشمس".

ويضيف حليمة: "العقارات هنا ليست على أملاك الدولة، بل لها أصحابها وغالبيتها لديها رخص، لكنها غير مرتبطة بالتنظيم المدني ونقابة المهندسين". ويوضح أن البلدية سابقاً "كانت تعطي الرخص للملّاك ويتم البناء من دون دراسة أو تخطيط، وهكذا نشأت معظم العشوائيات، والبناء في حي السلّم في معظمه مخالف للنظام العام وغير مطابق للمعايير المعتمَدة في التنظيم المدني، إلا في بعض الحالات الاستثنائية". يضيف مشيراً إلى "المخالفات المتمثلة في الطوابق غير المرخصة التي ترتفع فوق الأبنية المرخّصة، وهي ظاهرة انتشرت قبل نحو 10 سنوات فصار هناك توسّع عامودي كبير في حي السلم من دون رخص ولا أي تخطيط أو دراسة".

ويشرح أن "المنطقة غير مفروزة عقارياً، بسبب عدم تصنيفها سكنيةً أو صناعيةً أو زراعيةً، ومنطقة الشويفات صُنّفت في السبعينيات حسب المخطط التوجيهي العام في ذلك الوقت، وقُسّمت إلى صناعية وزراعية وسكنية، وكان حي السلّم قد أصبح مشبعاً عمرانياً وصار من الصعب تصنيفه، فهو في الأساس كان يُعدّ منطقةً زراعيةً، لكن تصنيفه منطقةً سكنيةً صار أمراً واقعاً، بسبب اكتظاظه عمرانياً، فالناس هي التي فرضت هذا التصنيف، وحتى في آخر مخطط توجيهي للشويفات سنة 2008، لم يتم تصنيف حي السلّم".

وحول البنية التحتية وتلبيتها لحاجة المنطقة، يقول حليمة إن "العشوائية تنتج بنيةً تحتيةً ضعيفةً، فشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي لم تنظَّم وفق تخطيط ودراسة، لذلك نرى وجود التعديات على الشبكات وتحصل المشكلات المتنوعة بخصوص الكهرباء والمياه، إذ تنظَّم البنية التحتية بما يستوعب عدد السكان، وصار كل عقار يتعدى على شبكة موجودة مسبقاً بالارتباط بأقرب شبكة منه".

رغم مآسيه التي لا تنتهي يحمل حيّ السلّم لقباً "فاخراً" هو "حي الكرامة"، ولهذا الاسم قصة يرويها حليمة: "سنة 1984، بعد انتفاضة 6 شباط/ فبراير التي قامت بها حركة أمل بالاشتراك مع الحزب التقدمي الاشتراكي ضدّ حكم الرئيس أمين الجميل، إثر اتّفاق 17 أيار/ مايو، وبعد مواجهات مع الجيش اللبناني، صمدت منطقة حيّ السلم في مواجهة الجيش الذي لم يتمكن من دخولها، فأطلق رئيس حركة أمل يومها، نبيه بري، على الحي اسم ‘مدينة الكرامة’، وكان الاسم بمثابة تعويض معنوي ومكافأة لسكّانه الذين يعانون من الحرمان والتهميش، ولتجميل واقعهم الرديء. قيل لهم إنّهم يعيشون في مدينة الكرامة".

حي آل العرب... تمايز عن المحيط

على مسافة من السوق، وبعد مدينة العباس، يأتي حي آل العرب، أو حي العرب كما يسمّيه أهل المنطقة. هناك يسكن ربيع (42 عاماً)، الذي يملك محلاً لبيع الحلويات منذ عشر سنوات.

ربيع الذي وُلد في حي السلم، يخبر رصيف22، بأن "آل العرب هم من أوائل العائلات التي سكنت حي السلّم، والضاحية بشكل عام؛ قسم من العائلة سكن في برج البراجنة ونقل نفوسه إليها لأسباب انتخابية، إذ كانت الغاية في ذلك الوقت زيادة عدد الناخبين المسلمين"، ويضيف: "أما نحن، فبقيت نفوسنا في منطقة شعث في بعلبك، وكذلك حافظ سكان حي السلّم على أمكنة نفوسهم وعلى صلاتهم بالمناطق التي جاؤوا منها، وبالرغم من سكننا هنا منذ وقت طويل، إلا أننا ما زلنا نشعر بالانتماء إلى مناطق الأصل ولم ننقطع عن زيارتها".

عائلة ربيع جاءت إلى حي السلّم قبل ولادته بسنوات، وقد "جاء والدي وأعمامي وأقاربهم إلى هنا للعمل، ذلك أن لا فرص عمل في البقاع، وسكنوا بالقرب من عملهم، وكانوا يعملون في معمل التنك الذي كان موجوداً بالقرب من هنا، لكنه توقف عن العمل منذ زمن، ومعظم السكان الأوائل كانوا يعملون في معامل قريبة من المنطقة، كمعمل غندور ومعمل البيبسي ومعمل التنك وغيرها". ويتابع: "كان سعر الأراضي المتدني موضوع جذب إلى المنطقة، إذ كان سعر عقار في بعلبك يعادل سعر عشر عقارات مثله في حي السلم، واليوم صارت الأمور معكوسةً".

يرى ربيع أن الحي نموذج مثالي للعيش المشترك والوحدة الوطنية، ذلك أن "سكان حي العرب ينتمون إلى المذهب السنّي في محيط شيعي ضمن حي السلّم، ولم يتأثر الحي بتداعيات المشكلات التي مرت على لبنان". يقول: "لم تحصل هنا أي ضربة كف بالرغم من كل المشكلات والحوادث التي عصفت بلبنان منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الـ2005، إلى اليوم".

ويرى ربيع أن حيّه يتمايز عن محيطه ليس فقط من حيث الانتماء المذهبي، بل أيضاً من ناحية الهدوء. يقول: "الكثافة السكانية في هذا الحي أقل من الأحياء المجاورة، فمعظم السكان هنا من آل العرب، ولم تتكاثر البيوت وتُبنى المخالفات، وظلت الأبنية بطابق أو اثنين فقط، لذلك فالحيّ هنا هادئ، كما أنه لا وجود للرصاص العشوائي ولا لرصاص المشكلات، ولا لأي نوع من أنواع المخدرات بين شباب الحي".

الحلول ليست في المتناول

في موضوع الحلول المقترحة لمنطقة حي السلّم، يرى دانيال حليمة أن الحلول صعبة، ولا يمكن أن تفكر فيها بشكل تقني فقط من دون لحظ الخصوصية التي تميّز أي منطقة. يقول: "أحياناً تبادر الهيئات والجمعيات بالقيام بمشهدية جميلة وتقوم بتلوين المناطق، وزراعة بعض الأشجار بين البيوت وفي الشّوارع".

ويضيف حليمة أنه "من الناحية التقنية الأمر جيد، ولكن ثمة مشكلتين، الأولى تكمن في تنظيم البنية التحتية وصعوبة إعادة تنظيمها، والثانية هي مشكلة اجتماعية تكمن في وعي السكان بأهمية الحيز العام وكيفية تعاملهم معه والمحافظة عليه، كما أن الناس هنا تخاف من مجرد طرح الحلول. في مناطق كهذه، لا يشعر السكان بالاستقرار، وأي حديث عن التنظيم يثير المخاوف حول مصير بيوتهم التي سكنوها منذ عشرات السنين".

حي النهر... فيض العشوائية والهشاشة

آخر أحياء حي السلّم من جهة الجنوب، هو الحي المعروف بحي النهر. يخترقه نهر الغدير الذي صار من معالم المنطقة لما له من تأثيرات سلبية عليها، وعلى سكانها.

ونهر الغدير ينبع من منطقة عاليه-بسوس، ويعبر في وادي شحرور، ويمرّ في منطقة كفرشيما حيث تُلقى فيه مخلّفات مصانع السيراميك والحجارة، فيجرفها معه ليصل إلى حي السلّم حيث تصبّ فيه مياه الصرف الصحي الآتية من أبنية شُيّدت بشكل مخالف على ضفافه، بالإضافة إلى نفاياتها، فيطوف على أهل المنطقة في كلّ شتاء، ويكمل النهر طريقه ليصل إلى البحر بعبوره تحت أرض مطار بيروت الدولي". ويُعرف الحي أيضاً باسم حي كنعان، حيث غالبية سكانه الأوائل من آل كنعان الذي قدِموا من منطقة بعلبك في سبعينيات القرن الماضي، فسمّي على اسمهم.

يسكن حسين حيدر (35 عاماً)، في حي كنعان، منذ ولادته، وهو في الأصل من منطقة بعلبك، ويظهر من كلامه حجم المعاناة اليومية التي يختبرها، يقول لرصيف22: "شو بدنا نحكي لنحكي، نعاني هنا من الحرمان بكافة أشكاله، لا كهرباء بشكل جيد، لا مياه للشرب، النهر هنا هو أكبر مشكلاتنا، وفي الشتاء يطوف علينا مع المجارير (مياه الصرف الصحي)".

"قبل كل شتاء نتجهز للكارثة"، يضيف، فـ"المياه تدخل إلى المنازل ويصبح البقاء فيها مستحيلاً، والخروج إلى الشارع وإلى العمل صعباً".

يعمل الشاب الثلاثيني في محل لبيع الهواتف قريب من النهر. يقول: "أختبر معاناةً يوميةً، وفي الصيف مع ارتفاع الحرارة تنتشر الرائحة بشكل كبير، والبرغش يحتل بيوتنا، والأمراض تنهك أجسامنا. كل يوم نسمع عن مرض أحد الجيران، وخاصةً الأطفال منهم، بالتهابات في المعدة وبمشكلات وأمراض جلدية متنوعة".

بالنسبة إليه، "لا خيار آخر أمامنا ولا مكان لننتقل إليه. وُلدت هنا وأعيش مع أهلي وأجد صعوبةً في الانتقال إلى مكان آخر. الأسعار هنا أرخص من أي مكان، وهذا ما يجعل الناس يبقون هنا. ربما تعوَّدت أجسامنا على الروائح فلم نعد نتأثر بها". ويضيف: "يروي لنا أهلنا عن هذه المنطقة كيف كانت. كانت من أجمل المناطق في لبنان حسب قولهم؛ غابات من الزيتون والأشجار المختلفة، يخترقها نهر خلّاب، وحين ازداد النزوح إلى هنا قام السكان ببناء المنازل بالقرب من النهر مباشرةً، بينما كان من المفترض أن يبتعدوا ثلاثة أمتار على الأقل، وصارت كل نفاياتهم وصرفهم الصحي تصبّ في النهر، مما أدى إلى تلوثه بهذا الشكل". وينهي كلامه بالقول: "لا يجب أن نضع اللوم على الدولة في كل شيء، السكان أيضاً يتحملون المسؤولية".

يروي حسين، وهو يضحك، تعبيراً عن السخرية، كيف كانت الجرافات تعمل على إزالة أكوام النفايات يوم سقط عليها أحد الأكياس من فوق (من أحد المباني). يقول: "يستقدم الحزب (حزب الله) وبلدية الشويفات الجرافات مرةً في السنة لتزيل النفايات، وفي إحدى المرات وقع كيس النفايات على سائق الجرافة. الناس هنا ترمي أوساخها في النهر ثم تتذمر من الرائحة. لم ينفع أي حل معهم".

من شدة إحباطه وشعوره باستحالة إيجاد حل منطقي لأزمة النهر، يرى حسين أن الحل الوحيد هو "تسكير النهر (إغلاقه)". يقول: "يجب إغلاق النهر واستبداله بالقساطل، وهكذا يتوقف الناس عن رمي نفاياتهم فيه، ويجب تحويل الصرف الصحي إلى النهر بعد أن يصبح مغطىً بالقساطل". ويضيف أنه لو كانت الأمور منظمةً وتم البناء بما يناسب المعايير والقوانين وبقي النهر، لكانت الشقق تساوي مئات آلاف الدولارات، ولكن اليوم لا أحد يرغب في السكن هنا. لا يرغب سوى المضطر ومَن لا يجد سبيلاً للعيش في مكانٍ آخر".

يتحدث محمد كساب (54 عاماً)، عن حياته بالقرب من النهر. يسكن في بيت بناه في التسعينيات بمحاذاة نهر الغدير، وهو يعاني كسكان المنطقة كلهم من الروائح والأمراض التي تصيبهم جراء تلوث النهر. يقول لرصيف22: "حتى أنني لا أستطيع فتح نافذة بيتي". يُخبر محمد بأن "النهر كان صافياً نقياً، وقد ساهم السكان في تلويثه عبر نفاياتهم، ولم يجدوا آذاناً صاغيةً حتى اليوم من قبل المعنيين لحل مشكلة النهر وطوفانه كل عام وتلوثه".

وحول موضوع نهر الغدير، يرى حليمة أن إغلاق النهر وصبّه ممكنان تقنياً، وبذلك تستفيد الناس من مساحته وتتخلص من مشكلة الروائح والأمراض، لكن هذا الحل تبعاً لوصفه "ليس حلاً مدينياً، فعندما يكون لدينا مورد طبيعي من الأفضل الحفاظ عليه كحيّز عام، ولكن هذا الحل فضلاً عن صعوبته في الوقت الراهن، مرتبط أيضاً بثقافة السكان لناحية شعورهم بأن النهر جزء منهم ويجب المحافظة عليه، ويبدأ الأمر بعدم رمي نفاياتهم فيه وبذلك يصبح متنفساً لهم، والبيئة التي ينتمون إليها".

البلدية غير مسؤولة!

ينفي المسؤول الإعلامي في بلدية الشويفات طارق أبو صخر تجاهل البلدية أو إهمالها لحي السلّم، ويقول لرصيف22: "منذ ست سنوات تقريباً والبلدية تعمل قدر استطاعتها في تقديم الخدمات لحي السلّم. لم نهمله كما يُشاع. ربما الإدارات السابقة للبلدية أهملته، إنما نحن نقوم بواجبنا في تحسين الصرف الصحي عبر توسيع المجاري وتنظيفها، وإنشاء أخرى جديدة ضمن إمكاناتنا، وتحسين الطرقات وتأمين مياه الشرب".

ويضيف أنه "في الشويفات سبع آبار تغذّي المنطقة بالمياه، لكن العائق حالياً هو في تشغيلها إذ نعاني من نقص المازوت وغلائه بالإضافة إلى الارتفاع الكبير في أسعار المواد اللازمة للصيانة". في المحصلة، تبعاً له، "الخدمات التي نقدّمها ربما لا تكفي، إلا أننا نحاول ضمن الإمكانات المتوفرة".

يرفض أبو صخر الأحاديث التي تروَّج حول إهمال البلدية للحي لأسباب انتخابية (كون غالبية سكانه لا ينتخبون في الشويفات)، ويقول في هذا السياق: "هذا الكلام مرفوض بتاتاً. لم نفكر يوماً بهذه الطريقة، والبلدية تضم مختلف الطوائف، وواجبنا أن نخدم أهل المنطقة على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والسياسية. نعترف أن بعض المشكلات أكبر من قدرة البلدية، إذ نعاني أيضاً من نقص في الأموال بسبب الوضع الراهن، وبسبب وضع المنطقة وطرقاتها الضيقة نجد صعوبةً في تأمين الخدمات، فبعض الشوارع لا تستطيع الجرافات أن تدخلها لكي تتمكن من تزفيتها مثلاً".

ويتطرق أبو صخر إلى النهر "ومشكلته التي يردّها إلى كونها في الأساس مسؤولية وزارة الطاقة ووزارة الأشغال". يقول: "البلدية تقوم بتنظيف النهر بشكل دوري. قبل ست سنوات كان الوضع أسوأ بالقرب من النهر، والبلدية مع الجمعيات الأهلية أنجزت الكثير لمعالجة مشكلة طوفانه وتسربه إلى المنازل، ولكن المشكلة الأساسية أن الناس باستمرار ترمي نفاياتها في النهر فتغلق مجراه، وقنوات الصرف الصحي تصب في النهر، ومعالجة مشكلته ومشكلة الأبنية على جانبيه تحتاج إلى حل جذري ليس من مسؤولية البلدية ولا ضمن إمكاناتها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image