يكفي أن أسمع صوته، لأوقف تنقلي بين القنوات؛ مورغان فريمان يقدّم حلقة وثائقية ينهيها بلقاء حلاّق يزرع التغيير عبر حلاقة المشردين مجاناً في لندن. حركة بسيطة، لكنها تغيير كبير تتضح مع العلائم التي تظهر على وجه المشرد وهو يرى نفسه في المرآة.
كانت علاقتي وما زالت مع الحلاق علاقة غريبة. أجلس على كرسي الاعتراف يسألني عما أريده؛ أخبرهم كلهم دون استثناء: "افعلْ ما تراه مناسباً، لكنني أريد الاحتفاظ بتسريحة تقليدية".
لكن تاريخ الحلاّق أو "المزين" في الأهواز مأساوي. حسب ما نقل لي كبار السنّ، في نهاية العزاء يذهبون إلى صاحب العزاء مع حلاّق وينهون فترة حزنه بقيام الحلاق بقصّ شعره الذي تركه يطول مع اللحية والشارب. ويعتبر هذا من عملية يطلق عليها "الزيان". دخلت تغييرات كبيرة على طقس "الزيان"، بعضها باقٍ ومنها ما اندثر، من أغربها تزيين صاحب العزاء بزوجة أو فتاة تهدى كزوجة إلى عائلة الميت. كانت النظرة إلى الحلاق على أنه صاحب مهنة حقيرة، يقف على رؤوس الرجال، لا بينهم، فدخل ضمن الفئات التي لا يُزوج ولا يتزوجون من عائلته.
في شارع 14 خزّامي بمنطقة كوت عبدالله الأهواز، جاء رحيم الحلاق إلى الشارع؛ الرجل الذي سيحدث تغييراً كبيراً في نظرة الناس إلى الحلاق، وسيثقفهم في تاريخ الحلاقة
ما زالت عملية الزيان في مجالس العزاء من المهمات الحساسة جداً. فمَن يقدّم الزيان أو يتقدم به، يجب أن يكون من علية القوم أو زعيم عشيرة، ويعرف ماذا يقدم، وماذا سيقول، وتاريخ العائلة والقبيلة.
وتحرص عائلة الفقيد على وجود شخصية قبلية سيتحدث عنها الناس لفترة طويلة. وكثيراً ما حدثت شجارات جرت الدماء فيها لأن شخصاً ما تقدم للتزيين وثمة مَن شعر بالإهانة لأنهم تقدموا عليه. أو يحصل صراع في عائلة الفقيد لأن ثمة عدّة أشخاص حضروا للزيان، وكل واحد منهم اختار له شخصاً لا يقبل به الآخر؛ إنه صراع الزيان. لكن "المزين" لا دور له إلا حلق الرؤوس والعودة إلى عمله أو أعماله المرافقة للزيان مثل ختم الفتيان في التوقيت الذي تختاره عوائلهم، وعادة ما يكون ذلك في فصل الشتاء.
في عام 1991 كانت هذه النظرة للحلاق ما زالت قائمة. في شارع 14 خزّامي منطقة كوت عبدالله الأهواز، بينما ما زالت الشوراع غير مبلطة والطين فيها مع أقل زخة مطر يشلّ الحركة، جاء رحيم الحلاق إلى الشارع؛ الرجل الذي سيحدث تغييراً كبيراً في نظرة الناس إلى الحلاق، وسيثقفهم في تاريخ الحلاقة.
أقرب وصف لرحيم هو أنه يشبه المغني إلفيس بريسلي في ارتدائه للثياب، وخاصة في تسريحة الشعر. يرتدي بنطولاً عريضاً والقميص أيضاً عريض على الطريقة الإيطالية، الشعر يمكن للريح أن تهزّه لكنها لا تغيّر ترتيبه، الحذاء لامع إذا كان من الجلد ونظيف إن كان رياضياً. سيغيّر هذا الرجل نظرة الرجال إلى الحلاق ومهنة الحلاقة. يدخل الشارع صباحاً بمشية متأنية خاصة في الشتاء بعد ليلة ماطرة، والطين متأهب للالتصاق بالعابرين.
من حسن حظي أن محل حلاقته كان يقع أمام بيتنا بالتحديد، لذلك كنت مطلعاً على كل التفاصيل في تحويل محله إلى تحفة فنية. قد أكون من أول زبائنه. في المرة الأولى التي دخلت محله، كانت الجدران قبيحة وكرسي الحلاقة ما زال أقرب إلى كرسي الاعتراف. حلقَ لي شعري وتبادلنا بعض الجمل القصيرة.
كانت النظرة إلى الحلاق على أنه صاحب مهنة حقيرة، يقف على رؤوس الرجال، لا بينهم، فدخل ضمن الفئات التي لا يُزوَّج ولا يتزوجون من عائلته
في المرة الثانية التي قصدته طلب مني أن أطيل شعري ولا أمسه. تغيّرت الجدران الآن؛ صورة كبيرة لعمرو دياب؛ وصور أصغر لإلفيس بريسلي. ألاحظ دخول الزبائن وهم يلقون تحية فيها تقليل من احترام الرجل، يذكرونه بأنه حلاق ليس إلا. يتلاقاها رحيم برحابة صدر، ويدخل معهم في نقاش عن نوعية الشامبو الأفضل لشعرهم وعن التسريحة التي تناسب وجوههم وثيابهم. هل يرتدون الكوفية أم لا؟ فيشرح لهم كيفية تدليك فروة الرأس. الرجل محمل بمعلومات يسمعها الناس لأول مرة.
إنه العام 1991، فلم يدخل القرص المدمج بعد، والناس تعتمد على المذياع والأشرطة. والأشرطة ليست حسب ذوقك، بل حسب حظك. رحيم الحلاق كان يحصل على أحدث أغاني عمرو دياب ويسمعها وهو يعمل. لقد غيّر رحيم الحلاق تسريحات الشباب، دخلت موضات جديدة كنا نعرف أنّ مصدرها واحد: رحيم.
مَن لم يستطع المساس برحيم مباشرة مذكراً إياه أنه حلاق وأقل مستوى منهم، يهجم على عمرو دياب، ويهجي فقدان غنائه للرجولة. وهنا يأتي دور رحيم في سرد تاريخ عمرو دياب وألحانه وقصص أغانيه.
أتحدث عن فترة زمنية لا وجود للإنترنت فيها والمجلات الفنية ليست عملة نادرة، بل لا وجود لها. كان الرجل يعرف عمرو أفضل من مذيعي مونتي كارلو. حتى هذه اللحظة أنا مصاب بالدهشة: من أين كان يعرف هذا الكمّ الهائل عن عمرو دياب؟!
انضم إليه بعد فترة أخوه كريم، ورغم أنه يكبره سناً إلا أنّ رحيم كان أستاذه في إدارة الحوارات وإضفاء طابع ثقافي، واستعادة مكانة الحلاق التي يحرصون على تذكيرهما بها.
في مرة من المرات جاء رجل أربعيني يرتدى دشداشة بيضاء، وكوفية بيضاء أيضاً. كان مصراً على تذكير رحيم وأخيه كريم من هما. قال دون لفّ ودوران إنّ تاريخ الحلاق مخزٍ، وما زلنا لا نزوج الحلاق ولا نتزوج منه، وفمهنة الحلاقة هي مهنة لأشباه الرجال.
أخرج رحيم موسى، ووقف خلفه قائلاً له: أنت تؤمّن رقبتك بيدي، ونحن أمناء على رقابكم، لكن...
توقف ليلفت انتباه الرجل الأربعيني، وأكمل: زمنك انتهى، فلم يعد الحلاق كما اعتدته، هل تعرف من أيّ قبيلة تزوجت؟
مازلت أدخل إلى الحلاّق وإذا سألني عن طريقة تزييني، أستحضر رحيم، وأقول له الجملة التي تحمل ثقة كبيرة بالحلاق: افعلْ ما يحلو لك، لكني أريده سادة مثل قهوة سادة
حكاياتي مع الحلاقين لم تنته عند رحيم. ستمرّ السنوات وأتعرف على آخرين في زمن باتت مهنة الحلاقة فيه فنّاً. في إصفهان تعرفتُ على حلاق أقرب إلى القصاب في التعامل مع الذبيحة. لم يكن حلاق آخر أمامي إلا هو، وعليّ تحمل صفعاته. كانت ملامح وجهه في حالة غضب دائم ومستعد للدخول في عراك، وهذا يحدث مع مَن يعترض على ثقل يده وهي تحرّك رقبته.
في منطقة "برديس" في الأهواز (وأغلب الظن أن لها اسماً عربياً قديماً لا أعرفه) تعرفت على حلاق حرصت على الذهاب إليه لأعوام، حتى جاء عيد الفطر. قال وهو يزيّنني: قتلونا هؤلاء العرب بعيدهم، نحن مجبرين على تبادل المعايدات معهم، ولكنه ليس عيدنا.
العجيب أنّ هذا الحلاق كان أكثر من نصف من روّاده من العرب، وأقرب أصدقائه من العرب، وموظفيه أيضاً. طوال سنوات كنت أرى عنده أصدقاءه وهم يقدّمون له الخدمات أو ينجزون له عملاً. كانت لقمة عيشه عليهم. لم أعد أذهب إليه وكلّما مررتُ من أمامه يسألني: لماذا لا تأتي إلينا، حتى تعب مني.
مازلت أدخل إلى الحلاّق وإذا سألني عن طريقة تزييني: أستحضر رحيم وأقول له الجملة التي تحمل ثقة كبيرة بالحلاق: افعلْ ما يحلو لك، لكني أريده سادة مثل قهوة سادة!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع