لأنّ القدر، المتهكم على الدوام، والساخر أحياناً، يمزج بخبث الهزلَ بالأحداث الأشدّ إيلاماً." (مانديل بائع الكتب القديمة- ستيفان زفايغ. ص 41). بعض المترجمين لا يترجم لله، هكذا يمكن وصفهم. هناك فكرة خلف الترجمة، أو إجابة أبحث عنها شخصيا في النصوص. وما أن صادفني اسم المترجم لم يداخلني شكٌّ أنّ النصّ ليس لله.
كلا القصتين تشبهان وضعنا الحالي؛ أقصد سقوط العملة، وهروب الأثرياء لبدائل جديدة كانت متاحة، غير أنهم لم يعتنوا بها، وفجأة تسابقوا في اقتنائها، مما أدى إلى ارتفاع سعرها وندرتها.
قبل بحثي عن الكتب الممنوعة على الأرصفة وفي الأقبية، وجدت نفسي في علاقة مع باعة الكتب. بدأ الأمر من بائع كتب في شارع "الشهيد مسلِم"، بقرب الكنيسة الكاثولكية في الأهواز. الأمر الوحيد الذي أوقفني لألقي نظرة على الكتب، هو كتاب "هكذا تكلم زرادشت". شدّتني إليه اللغة أولاً، إذ كان مترجماً للعربية، ثمّ العنوان. ظننته يتحدث عن تاريخ ثقافة أعيش فيها وأريد فهمها. ولم أفهم الكتاب ولا نيتشه. في المرة الثانية حين وقفت أمام الكتب تعرّف إليّ بائع الكتب، ودعاني أن أدخل معه إلى الزقاق. دخلنا ممرّاً فيه محلات أحذية، وبجانب الجدار أرفف كتب. أرشار إلى رفّ تكومت عليه كتب عربية. دون تردد سحبت "ثلج الربيع"، أعجبني الغلاف الأبيض والفتاة الخضراء المستلقية. وصارعت أثناء القراءة الأسماء لأحفظها، وحتى بعد أن انتهيت من قراءة الكتاب وأعدت قراءته مراتٍ ومرات، لم أحفظ اسم الكاتب "يوكيو ميشما". بنيت علاقة وطيدة مع خليل، بائع الكتب الذي لا يعرف ما تحتويه الكتب.
في إحدى زياراتي الأولى لطهران، أُصبتُ بملل، فسألت عن مكان أشتري منه كتاباً. سألت صاحب النّزل، فقال انتظرْ قليلاً. وجاء خادم كهل يحمل سلالَ ثياب ليغسلها. تبادلا الحديث باللغة التركية ،ثمّ نظر إلي الرّجل العجوز وسألني: ما هي الكتب التي تريدها؟ قلت له: كتب أدبية. قال لي اذهب إلى زقاق "مَروِي". لم أفطن إلى سبب إرسالي إلى زقاق مروي إلا بعد سنوات. ميّزني الرجل العجوز من لهجتي الفارسية على أنّني من أصول عربية، فأرسلني إلى ذلك الزقاق. كان الزقاق مخيفاً؛ تُباع الأدوية على أرصفة الشوراع، ووجوه الباعة أقرب إلى الجريمة منها إلى الدواء. في زقاق "مروي"، وداخل المحلات، تغيّرت الأجواء كلياً. والسبب أرفف الكتب الكبيرة. دخلت عالماً آخر. لم يطل الأمر مع بائع الكتب حتى سلمني "مظفر النواب". هكذا ودون مقدمات تعرّفت على مظفر النواب، وعدت معه إلى النّزل.
لم يطل الأمر مع بائع الكتب في طهران حتى سلّمني "مظفر النواب". هكذا ودون مقدمات تعرّفت على مظفر النواب، وعدت معه إلى النّزل
بعد سنوات، تعلمت أين أجد في طهران النّسخَ الأصلية للكتب الممنوعة، وقائمتها ليست قصيرة؛ في شارع "انقلاب" (الثورة، في الفارسية). وليس الكتب فقط بل الأفلام والموسيقى أيضاً.
في فترة الخدمة العسكرية، كانت مدينة إصفهان هي المدينة التي عليّ إنهاء هذه الفترة الإجبارية فيها. أستغل إجازة النصف يوم في البحث عن باعة الكتب. بثياب التجنيد كنت أسأل عن باعة الكتب، فدُللت على بائع يجلس أمام فندق "شاه عباس". لم يطل الأمر حتى عرفني على "حلقة إصفهان الأدبية". وكنت أهرّب الكتب معي إلى المعسكر بخلطها مع كتب دينية.
في مدينة مشهد وفي المطار صادفت بائعة كتب، ورافقني شاعرٌ من العراق. بعد بضع كلمات قالت: "لديّ ما تبحث عنه، ولكن ليس هنا. إذا جئت غداً سأحضرها معي." كانت تقصد الكتب التي لا يمكن عرضها على أرفف مكتبة المطار. لكنها كانت رحلة عودتنا إلى الأهواز بعد ساعات قليلة. طلبتْ رقم هاتفي وقالت "يمكنني إرسالها عبر البريد."
في زمن كورونا، ذهبتُ في رحلة إلى مدينة "رَشت" الواقعة في شمال إيران، بعد أن تعبنا من البقاء في المنزل لأشهر، وأُتحيت لنا الفرصة للسفر. في شارع أطلق عليه "يخجال سازي" (صناعة البرّادات)، واسمه الجديد ما يعني بالفارسية "الجنود المجهولون"، أوقفني صديقي الروائي، كيهان خانْجاني، وقال: هذا أقدم بائع كتب في المدينة. وضع كتبه على الرصيف ووقف بجانبها كأنها ليست له. يطلق عليه المارّة لقب العمّ. وهكذا فعل كيهان معه. لا يهتم بالمشترين ولا بالمال. يقول السّعر دون تردد ولا يعدّ المال حين يستلمه. وحين يُسأل عن عنوان كتاب ليس عنده، يدّل السائلين على المكتبات التي تبيعه، وسعره، وأفضل ترجمة إذا كان مترجماً، وأسماء دور النشر.
كلّ باعة الكتب الذين صادفتهم يحاولون التشبه بـ"جاكوب" في"مانديل بائع الكتب القديمة"؛ الرّجل الذي ينسى نفسه أمام الكتب، ويعيش حياة راهب. كلّ من صادفتهم حاولوا وفشلوا
بعد أيام قضيناها في "رَشت" و"أَنزَلي"، صعدنا إلى منطقة "ماسوله" السياحية. المنطقة الماطرة حتى في الصيف. يقول أهلها إننا لا نعرف متى يحلّ الليل هنا، إذ يدخل فجأة. حين وصلنا إلى أقصى مكان يمكن للسيارات أن تصله، وترجلنا لنكمل الطريق مشياً على الأقدام، كدنا نلمس الغيم الهابط علينا من قمم الجبال. هذه المرة الثانية التي أزور فيها ماسولة. بين محلات تعرض الصناعات اليدوية وحلوى صُنع معظمها من حطين الأرز، وجدت مكتبة قديمة. آخر مكان توقعت أن أجد فيه مكتبة. "خالي العزيز نابليون"، "عيناها"، كُتب الروائي صادق هدايت، ودواوين فُروغ فرّخزاد، تواريخ، كلها الطبعة الأولى؛ وثمنها ثمن سياحي مثل المكان الذي ننام فيه.
كلّ باعة الكتب الذين صادفتهم يحاولون التشبه بـ"جاكوب" في"مانديل بائع الكتب القديمة"؛ الرّجل الذي ينسى نفسه نسياناً حقيقياً أمام الكتب والحديث عنها، ويعيش حياة راهب. كلّ من صادفتهم حاولوا وفشلوا. هناك بائع كتب قديم في الأهواز، يبيع الكتب على الرصيف. منذ أعوام دخل في هذا الدور، دور "مانديل"؛ حين نسلّم عليه لا يردّ، وإذا أُلحّ عليه بالسؤال عن كتاب يشير إلى الكتب لنبحث عنها بأنفسنا أو يدلّنا عليه باصبعه. نقف بجانبه لساعات دون أن يرفع رأسه وينظر إلينا. نشعر أننا أمام هيبة بائع كتب لا يعيش معنا، بل هو غارق في قراءة قوائمه أو كتبه العزيزة. ولكن كان هذا البائع، وبعكس "مانديل"، يسمع كلّ ما يدور حوله، بل وينقله على هذا الشكل لآخرين: "نعم كان قبل أيام فلان يقف هنا، وتحدث عن...."، وينقل تفاصيل ما دار من أحاديث عابرة.
أعاد كتاب "مانديل باع الكتب القديمة، لستيفان زفايغ"، ترجمة أبو بكر العيادي، سياحة طالت مدن الباعة القدماء، في البحث عن الكتب القديمة والممنوعة، التي كان علينا السفر إليها للحصول على تلك الكتب، والتعامل مع باعةٍ كشف مانديل زيفَهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...