شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
هل خدمت الأنثروبولوجيا الاستعمار؟

هل خدمت الأنثروبولوجيا الاستعمار؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 18 أغسطس 202210:11 ص

نشأ علم الأنثروبولوجيا (علم أصل الإنسان)، في إطار "الحقبة الكولونيالية"، وكان هدفه دراسة المجتمعات المستعمَرة بشكل تفصيلي، وتفكيك هياكلها، لمعرفة تاريخها وأساليب معيشتها، وتكوينها... إلخ. وكانت الإثنيات واحدةً من هذه المستويات المدروسة، والهدف من ذلك: أنْ يتمكن المستعمر من تقوية قبضته على مستعمراته، وترويضها لتكون أكثر طواعيةً ومرونةً، ويسهل نهبها وإخضاعها التام.

لذلك، كانت الأنثروبولوجيا أداةً مهمةً في عملية إخضاع المستعمِرين للمستعمَرين، وكانت سيئة السمعة في بداياتها، لكنها في ما بعد تحولت إلى المقاومة.

نشأة علم الأنثروبولوجيا وموضوعاته

في دراسة للدكتورة سعدية قندوسي، بعنوان "قراءة نقدية في تاريخ الأنثروبولوجيا"، تُعَرّف هذا العلم بأنه "علم شامل يدرس الإنسان بشكل عام".

وتُرجِم علم الأنثروبولوجيا إلى العربية بـ"علم الإنسان" أو "الإناسة". وجاء في المجلد الثالث من الموسوعة العربية العالمية في "مادة الإنسان، علم: علم الإنسان هو الدراسة العلمية للإنسان والثقافة الإنسانية، وهو ما يُعرف بالأنثروبولوجي".

ونتيجة التطور والتراكم المعرفي، أصبحت للأنثروبولوجيا فروع عديدة: الأنثروبولوجيا السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية... إلخ، وهي فروع بينية بين علم الأنثروبولوجيا العام وفروع العلوم الإنسانية الأخرى.

يتناول علم الأنثروبولوجيا موضوعات متعلقةً بدراسة السلالات والإثنيات، وهياكل المجتمعات البدائية المختلفة، وعادات الشعوب وتقاليدها، وأساطيرها وأدبها الشعبي، وغيرها من القضايا. ولم يأتِ كل هذا مرةً واحدةً، بل جاء تدريجياً ومع تطور الحاجة إلى دراسة أمور جديدة.

في كتابهما "الأنثروبولوجيا"، يقول مارك أوجيه وجان بول كولاين: "في العصر الكلاسيكي، كانت الأنثروبولوجيا تهتم بالمجتمعات الصغيرة الغرائبية"، وحسب تعبيرهما أيضاً: "ظلت الأنثروبولوجيا خاضعةً للإثنولوجيا الوصفية الطارئة". وأوضح الكاتبان أن هناك جملة عوامل ساهمت في التحول من الإثنولوجيا الوصفية إلى الأنثروبولوجيا العامة، لا يتّسع الحديث في هذا المقال عنها.

الأنثروبولوجيا والحركة الاستعمارية

ثمة سؤال يساعد على فهم طبيعة العلاقة بين الأنثروبولوجيا والاستعمار، وهو: لماذا ظهرت الأنثروبولوجيا؟ أو بالأحرى: ما هو السياق العام الذي ساعد على بروز اللبنات الأولى لعلم الإناسة المثير للجدل؟

يشير هيلاند إريكسن، وفين سيفرت نيلسن، في كتابهما "تاريخ الأنثروبولوجيا"، إلى أن "الأنثروبولوجيا باعتبارها علم الإنسان نشأت في منطقة نسمّيها بصفة عامة وبطريقة غير دقيقة، الغرب، وعلى نحو ملحوظ في ثلاثة أو أربعة شعوب غربية: فرنسا، بريطانيا العظمى، الولايات المتحدة الأمريكية، وحتى الحرب العالمية الثانية ألمانيا، وتُعدّ الأنثروبولوجيا من وجهة نظر تاريخية فرعاً معرفياً أوروبياً".

هذا النص يوحي بشكل مباشر أو غير مباشر بإشكالية نشأة الأنثروبولوجيا، إذ نلاحظ أن هذه الدول هي استعمارية أو إمبريالية بامتياز.

لا يمكن فصل نمو المعارف وبداية تطور العلوم عن حركة الكشوف الجغرافية، وعن حاجة الطبقة البرجوازية الناشئة من رحم الإقطاع المنهك إلى شكل جديد من التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي

وعن ذلك، يقول الدكتور أوراغي أحمد، وهو أستاذ في جامعة تلمسان في الجزائر، في دراسته "الأنثروبولوجيا والاستعمار: قراءة في صورة الجزائرية في المؤلفات الأنثربولوجيا الاستعمارية": "تعارفت الدراسات المهتمة بتاريخ العلوم، على اعتبار الأنثروبولوجيا علماً استعمارياً بحتاً، إذ انبثق هذا العلم أول ما انبثق في رغبة العالم المتحضر (الغربي) في استكشاف الآخر البدائي (المتخلف)، أو الغريب عن الحضارة الغربية، والذي لا زال يرزح تحت غياهب التوحش والبدائية".

وبحسب الأكاديمي الجزائري، كان للاحتكاك الأوروبي بشعوب عُدّت غريبةً (السكان الأصليين في الأمريكيتين، والشعوب الإفريقية، وآسيا الداخلية)، عقب ما يُسمى بالكشوف الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر، عظيم الأثر في ظهور البواكير الأولى لعلم الأنثروبولوجيا. وارتبط هذا العامل بحاجة البرجوازية الناشئة في أوروبا إلى فتح أسواق جديدة، ومن ثم القيام بأعمال الغزو والسطو والنهب التي مثّلت الحركة الأولى من التراكم البدائي لرأس المال.

بدوره، يصف الأنثروبولوجي جيمس هوكر، الأنثروبولوجيا بالاستعمارية، لأنه علم صُنِعَ على يد الإدراة الاستعمارية التي كانت تبغي تحسين إدراتها للمستعمرات وتجويدها، من أجل مزيد من السيطرة والهيمنة اللتين تضمنان قدرة الإدارة الاستعمارية على النهب.

ويشرح الاقتصادي المصري رمزي زكي، في كتابه "الليبرالية المتوحشة"، أنَّ الدافع وراء الكشوف الجغرافية يُحدَّد بعاملين، "أولهما هو البحث عن الذهب ومنابع إنتاجه في ما وراء البحار، وثانيهما: الوصول مباشرةً إلى مناطق سلع الشرق لكسر احتكار العرب لطرق التجارة".

هذه الكشوف الجغرافية ودوافعها التي أشار إليها زكي وآخرون من الباحثين، كانت بمثابة الرافعة لمعرفة هذا العالم الغريب بالنسبة إلى "الرجل الأبيض"، ومن هنا بدأت الشذرات الأولى من خلال التقارير التي يبعث بها الرَّحالة والقناصل عن أوضاع البلاد التي يذهبون إليها وأحوال العباد فيها.

بشكل عام، لا يمكن فصل نمو المعارف وبداية تطور العلوم عن حركة الكشوف الجغرافية، وعن حاجة الطبقة البرجوازية الناشئة من رحم الإقطاع المنهك إلى شكل جديد من التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وإلى نهج جديد في نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى الآخرين وإلى الطبيعة وإلى الوجود إجمالاً.

هكذا، تكوّنت الأعضاء الأولى لجنين علم الإناسة (الأنثروبولوجيا)، في رحم هذا العصر الكولونيالي، وأخذ في عصر سيطرة الاحتكارات الموسوم بالإمبريالية شكلاً ناضجاً. ولهذا يميّز البعض بين الأنثروبولوجيا الإمبريالية، وبين الأنثروبولوجيا الكلاسيكية أو الكولونيالية التي ظهرت في المراحل الأولى.

عاملٌ آخر ساهم في ميلاد هذا العلم، كان البعثات التبشيرية التي لم تنفصل قط عن النزعة الاستعمارية، سواء أكانت مقدمةً لها أو تاليةً لها، وهو ما تناولته دراسة لعدنان عويد بعنوان "التبشير بين الأصولية المسيحية وسلطة التغريب".

كيف خدمت الأنثروبولوجيا الاستعمار؟

هناك بعض الأمثلة، سواء أكانت تاريخيةً أو معاصرةً، تساعد على فهم كيفية تعامل الاستعمار مع الأنثروبولوجيا وتوظيفه لها من أجل تحقيق أهدافه في إبقاء الهيمنة والسيطرة على مستعمراته، سواء بالطرق المباشرة أو غير المباشرة.

يضم كتاب "الأنثروبولوجيا: حقل علمي واحد وأربع مدارس" (ترجمه إلى العربية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، أربع محاضرات ألقاها الأنثروبولوجيون فريدريك بارث وأندريه غينغريتش وروبرت باركن وسيدل سيلفرمان، تتحدث عن أربع مدارس أنثروبولوجية: البريطانية، والألمانية، والفرنسية، والأمريكية.

تغيرات كثيرة طرأت على علم الأنثرووبولوجيا منذ نشأته، أسست لما يمكن تسميته بـ"أنثروبولوجيا المقاومة"، أو "المقاومة بالأنثروبولوجيا"، أو بصياغةٍ أخرى: أنثروبولوجيا المستعمَر في مقابل أنثروبولوجيا المستعمِر

يبيّن بارث، أنه كان للاستعمار الفرنسي أنثروبولوجيوه الذين ساهموا في تذليل عقبات حكم المستعمر الفرنسي لمستعمراته الإفريقية والآسيوبة. وتتأسس الأنثروبولوجيا الإمبريالية الفرنسية أساساً على جانب كبير من رؤى عالم الاجتماع إميل دوركهايم، وسِمتها الأساسية هي ذلك الطابع الميداني (العملي).

على سبيل المثال، عندما جاء الفرنسيون إلى مصر في السنوات الثلاث الأخيرة من القرن الثامن عشر، أجروا مسحاً شاملاً لكل تفصيلة في المجتمع المصري: عاداته، وتقاليده، وطرق معيشته، وطعامه وشرابه، وموسيقاه، ومكاييله وموازينه... إلخ، وهو ما يقدّم معلومات دقيقةً يستعين بها صاحب القرار الفرنسي. وجزء كبير من المعلومات جُمع بواسطة الرحالة والقناصل الفرنسيين والأجانب والتجار قبيل الحملة، واستمر في أثنائها وبعد مغادرتها، وهو ما فتح الطريق في ما بعد لظهور علم المصريات، بعد فك رموز حجر رشيد.

أما الأنثروبولوجيا البريطانية، كما بيّنها الأكاديمي والأنثروبولوجي الفرنسي جيرار ليكلرك، في كتابه "الأنتروبولوحيا والاستعمار"، فقد اتكأت على المنهج الوظيفي، خاصةً أن العاملين في حقل الأنثروبولوجيا البريطاني كانوا موظفين في إدارة المستعمرات والخارجية، وهو ما يجعلهم إمبرياليين بامتياز إنْ جاز التعبير.

ويظهر أثر الأنثروبولوجيا الاستعمارية في قضية احتلال فلسطين، فقد ظهرت دراسات مستمَدة من الأساطير الدينية اليهودية القديمة تنظّر لضرورة عودة اليهود إلى أرض الميعاد المذكورة في سِفر التكوين.

المقاومة بالأنثروبولوجيا

عام 1966، في المؤتمر العالمي السادس لعلم الاجتماع، دوّت مفاجأة من العيار الثقيل، بإعلان البريطاني بيتر وورسلي نهاية الأنثروبولوجيا، وقد أورد الباحث المصري المختص بالشأن الإفريقي حلمي شعراوي، ما قاله في دراسته المهداة إلى الأنثروبولوجي الجنوب إفريقي آرشي مافيجي، والتي حملت عنوان: "آرشي مافيجي: نهاية الأنثروبولوجيا".

يدعونا مافيجي، إلى تقصّي ما آل إليه علم الأنثروبولوجيا في قارةٍ عانت أكثر من غيرها من وطأة الاستعمار، ودفع أبناؤها أثماناً باهظةً إبان العبودية، فهم كانوا أشبه بسلعٍ إنسانية تقوم بالعمل في مزارع البيض، سواء في القارة أو عبر الترحيل القسري إلى العالم الجديد أو الهند.

يورد حلمي شعراوي، في دراسته المشار إليها، أن مافيجي، وفي مؤتمر عُقد في داكار (السنغال) عام 1991، أعلن عن موت الأنثروبولوجيا في إفريقيا.

مفردة الموت مجازية، ولكن هذه المجازية التي تعبّر عن التغيرات التي طرأت على الأنثرووبولوجيا أسست لما يمكن تسميته بـ"أنثروبولوجيا المقاومة"، أو "المقاومة بالأنثروبولوجيا"، أو بصياغةٍ أخرى: أنثروبولوجيا المستعمَر في مقابل أنثروبولوجيا المستعمِر.

وبحسب حلمي شعراوي، نهاية الأنثروبولوجيا لا تعني نفيها من العلوم الاجتماعية، ولكن نفي تراثها الوظيفي ومناهجها اللا تاريخية.

وتشير الدكتورة سعدية قندوسي، إلى أن ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، شهدت صعوداً للتيار التحرري في الفكر الأنثروبولوجي، وهذا لم يحدث من فراغ بل جاء على خلفية التراكمات والتناقضات داخل الحقل الأنثروبولوجي، مع صعود الحركات المناوئة للتبعية في العالم الثالث، فظهرت الأنثروبولوجيا التنموية كحاجة تتطلبها طبيعة التغيرات حينها.

من أهم الأدبيات المقاومة بالأنثروبولوجيا، نجد أعمال آرشي مافيجي الجنوب إفريقي، وشيخ أنتاديوب السنغالي، والسوداني عبد الغفار محمد أحمد، وآخرين.

قدم آرشي مافيجي، أطروحات عدة أهمها في كتاب "التشكيلات الاجتماعية في إفريقيا: دراسة في النظرية والتطبيق". وركّز في دراسته المذكورة على منطقة البحيرات العظمى، لكنه يرى أن التعامل مع إقليم البحيرات يمكن أن ينطبق كذلك على مناطق أخرى في إفريقيا جنوب الصحراء.

دعا مافيجي، إلى تحرير العلوم الاجتماعية وتوطينها في إفريقيا، للانتقال من الأنثروبولوجيا الإمبريالية من خلال التوسل بالنظرية الماركسية وماديتها التاريخية، لتحل مقولة التشكيلات الاجتماعية محل الإثنيات التي عدّها مافيجي ورواد الأنثروبولوجيا المقاومة عموماً مقولات إمبرياليةً.

وكانت الضربة القاصمة التي وجهها مافيجي ورفاقه، إلى الأنثروبولوجيا الإمبريالية، اتجاههم نحو رفض دراسة الإثنيات الإفريقية بالطريقة الاستعمارية الهادفة إلى تشظية وتذرية المجتمعات الإفريقية، عادّين أنه لا يمكن دراسة هذه البُنى التقليدية من دون العودة إلى التاريخ الاجتماعي والاقتصاد السياسي للقارة الإفريقية، أي من خلال سياق دراسة أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، أو ما قبل الاستعمارية.

بالرغم من سيرتها غير المطمئنة، إلا أنه لولا الأنثروبولوجيا ما حدثت الطفرات المعرفية في الإنسانيات عموماً. فهل علينا في الجامعات العربية أن نبني أنثروبولوجيا مقاومةً بالتعاون والتنسيق مع جامعات العالم الثالث في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتحويل خلاصاتها إلى جزء من حياة الناس وهمومهم، بدلاً من أن تبقى علماً أو معرفةً نخبويةً؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image