لم تكن بوردو في يوم ما مدينة عادية، فلون الخمر الأحمر نسب إليها، فالمدينة وكافة الأراضي والقرى والمدن الصغيرة القريبة منها، ليست سوى كروم مزروعة بشتول العنب المختلفة الأنواع والأصناف من "blaye" إلى "saint emilion" إلى "libourne" إلى "medoc" وكل ما يتفرع عن هذه المناطق من قرى صغيرة ومن قصور للنبيذ.
استمدت المدينة شهرتها من هذا الشراب الأحمر، إذ يعتبر نبيذ بوردو لغاية اليوم الأشهر عالمياً رغم وجود أماكن أخرى في العالم تنافس المدينة على النوعية والجودة.
متحف لا يشبه سواه
على كتف نهر "Garonne" شمالي المدينة، تقع المنطقة التي أهملت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تحولت إلى منطقة صناعية "Bassins a flot" وتُرك جزءا منها مهجوراً لالتصاقه بأحواض الغواصات القديمة، هناك تقرر بناء متحف بوردو للنبيذ الذي يرمي نظرة وداع على السفن الخارجة من الميناء على طريق التجارة القديمة نحو المحيط مخترقة حوض "Gironde" والذي يفتح فمه نحو المحيط، ومنه انتقل النبيذ الفرنسي الى كافة أنحاء العالم.
التحفة المعمارية التي صممها المعماري الفرنسي "Anouk legrandre" متعاوناً مع "Nicolas Desmazieres" أحد أشهر السينوغراف الإنكليز لضمان تناسق المحتوى والشكل مع المحيط جغرافياً وجمالياً وثقافياً، ولضمان خلق عمق تاريخي يعود الى أصل المحتوى من شرابٍ أحمر قانٍ يذكر بعظمة المكان وقيمته الفنية والتاريخية، هذه التحفة تأخذ شكل الإبريق الزجاجي "Carafe".
فالمفترض -بحسب التقاليد- ألا يشرب من الزجاجة، مباشرة، بل يفرغ في إبريق زجاجي كي يتحرك قليلاً ويتنفس لعدة دقائق كي تخرج كافة نكهاته، قبل أن يسكب وتقرع الكؤوس.
استمدت بوردو شهرتها من الشراب الأحمر، إذ يُعتبر نبيذها الأشهر عالمياً رغم وجود أماكن أخرى في العالم تنافسه على النوعية والجودة
يسعى هذا المكان الثقافي الفريد من نوعه في العالم، أن يقدم النبيذ بكافة أبعاده الحضارية والثقافية والتراثية والتاريخية العالمية. فالفكرة من وراء إنشاء متحف بوردو لم تكن فقط وضع بوردو بحلتها الجديدة كعاصمة للنبيذ، إنما تكريم حقيقي للشراب الأشهر على مستوى العالم، ومحاولة جدية لتكريم الكروم والمزارعين حول العالم من خلال معارض سنوية وأوراق بحث ومؤتمرات ووضع النبيذ أمام الزائر من خلال تجارب تفاعلية وحسية.
آخر هذه الفعاليات كان معرضاً لبيكاسو يتعلق بكل ما رسمه عن الخمر وعلاقته به وكيف كان يشرب وما هو النبيذ الذي كان يفضله، معرض مشوق بكل تفاصيله وحميميته، يضيء على جوانب لم يتطرق إليها أحد من قبل في التركيبة الشخصية للفنان الشهير.
النبيذ أقدم من الأديان الإبراهيمة
لا يخفي هذا المتحف العلاقة الملتبسة والمقدسة بين النبيذ والأديان، فيفرد لها حيزاً كبيراً صمم كالمتاحف القديمة، ليعطي طابعاً تاريخياً لا أكثر، فالدين في فرنسا، ليس سوى ظاهرة تاريخية ولا تتجاوز هذا الوصف.
اكتشف النبيذ، بداية في الصين، قبل حوالي ستة آلاف سنة قبل الميلاد، ثم اكتشفت أقدم جرار للخمر في جورجيا قبل ثمانية آلاف سنة، ثم كشفت الرسوم الفرعونية على جدران المعابد والمقابر طرق صناعة الخمر والمناسبات التي يتم تناوله فيها وصولاً الى الرومان والإغريق الذين أنتجوا الخمر من الكرمة وكانوا يحفظونه في قوارير من الفخار ويضعونه أسفل المنازل في غرف مظلمة لا تصل اليها أشعة الشمس.
اليهود يقدسون النبيذ من خلال دعاء يتلونه في يوم السبت يقولون فيه "طوبى لك أيها الرب، إلهنا ملك العالم خالق العنب" في إشارة الى مكانة العنب والنبيذ في طقوسهم المقدسة
كذلك توصلت كافة البعثات الأثرية في حوض المتوسط عن الأدوات التي كانت الشعوب القديمة مثل الفينيقيين والكنعانيين يخزنون فيها الخمر وطرق حفظه وتعتيقه. وثمة أديان كثيرة في العالم تعتبر الخمر وسيلة للتقرب من الآلهة، خصوصاً الخمور التي لا تحتوي على نسب كحول عالية مثل أنواع عديدة من البيرة أو أنواع أخرى تعتمد على الزراعات التي تنتجها الشعوب محلياً مثل الذرة البيضاء والأرز والتفاح والأناناس والموز.
لكن الأديان لا تكتمل بدونه
والحق أن العلاقة الملتبسة، وجدت تحديداً، في الأديان الإبراهيمية، حيث يذكر في التوراة سفر اللاويين أن الرب يقول لهارون "خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا".
بينما يذكر يعقوب في سفر التكوين العلاقة بين النبيذ والعنب في وصيته قبل الموت الى إبنه يهوذا بالقول "رابطاً بالكرمة جحشه، وبالجفنة ابن أتانه، غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه". فاليهود يقدسون النبيذ من خلال دعاء يتلونه في يوم السبت يقولون فيه "طوبى لك أيها الرب، إلهنا ملك العالم خالق العنب" في إشارة الى مكانة العنب والنبيذ في طقوسهم المقدسة
بيد أن اليهود ينادون بالتوازن في شرب النبيذ دون إسراف أو إكثار حتى لا يحدث السكر وفقدان الوعي، علماً أن النبيذ الجيد لا يوصل شاربه الى حالة فقدان الوعي.
وعلى مسار متواصل بالغت المسيحية في العلاقة بالخمر، وحالة الالتباس الظاهرة في أكثر من مكان في أسفار التوراة، فكرسته كأعجوبة إلهية من خلال تدخل المسيح، شخصياً، في عرس قانا الجليل محولاً جرار الماء الى خمر، وكانت هذه المعجزة الأولى التي أظهرت قدراته الإلهية.
بالغت المسيحية في العلاقة بالخمر، فكرسته كأعجوبة إلهية من خلال تدخل المسيح، شخصياً في عرس قانا الجليل محولاً جرار الماء الى خمر
ثم في العشاء الأخير حيث قال لتلاميذه "هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" – متى. مستخدماً نفس التعبير الذي استخدمه يعقوب في سفر التكوين بتشبيه النبيذ بالدم، فأصبح الطقس الذي لا يكتمل قداس إلا به، وإن كان التناول في نهاية القداس يتم بنسب قليلة جدا لا تكاد تذكر، ورغم أن الطقس نفسه، يبيح شرب الخمر ويرفعه الى مصاف التقديس إلا أن بولس الرسول، الذي كان يهودياً، متعمقاً ومؤمناً، قبل أن يصبح رسولا للمسيح، يقول في رسالته لأهل أفسس "لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح".
لقرون عديدة كان الرهبان في الأديرة يزرعون العنب ويعصرونه ويصنعون منه النبيذ ويبيعونه، غير أن هذا التقليد توقف مع مجيء البابا يوحنا بولس السادس في الستينات من القرن الماضي الذي حرّم على الرهبانيات التجارة بالخمر.
وتبقى العلاقة الأكثر التباساً، علاقة الخمر بالإسلام، وقد سيل حبر كثير حول هذا الالتباس، غير أن الحبر الأهم هو ما ورد في القرآن في سورة النحل "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسنا". وهذا إنما يفتح نافذة على العلاقة الحسية والتجارية بين عرب مكة والحجاز بالخمر، إلا أنه يضعنا، من خلال القرآن أمام تصوير حقيقي للواقع الذي كانت عليه الحياة ومعها التجارة في مكة.
تبقى علاقة الخمر بالإسلام هي الأكثر التباساً، ولعل الأهم هو ما ورد في سورة النحل "ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً"
بيد أن الخمر الذي كان ينتج في مكة كان يستخلص من تخمير التمر، وهو خمر نسبة الكحول فيه تصل الى أكثر من ستين في المئة ما يعني أن كأساً أو إثنين منه كافيتين لفقدان التركيز المطلق والوصول الى السكر الكامل. لكن مع ذلك فإن الخمر كان جزءاً طبيعياً من الحياة العامة، يظهر هذا جلياً في المؤلف الموسوعي لشعراء النصرانية قبل الإسلام الذي أعادت دار المشرق ١٩٩٩ نشره في بيروت للأب لويس شيخو اليسوعي، وهو كتاب لابد من مراجعته بدقة لمعرفة وتقييم كافة الظروف السياسية والثقافية والإجتماعية التي عاشتها الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده.
لكن الإسلام عاد بعد ما ورد في سورة النحل وبدأ بتحريم الخمر رويداً رويداً فجاء في سورة البقرة "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس" في محاولة وعظية ليخفف الناس من الشرب دون إيقافه.
ثم، وبعدما تبين أن أحداً لم يأخذ بالنصيحة السابقة جاء في سورة الناس "يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" في دعوة خاصة لعموم الذين انضموا للإسلام أن لا يأتوا للصلاة بعد الشرب دون أن يشمل الباقين من سكان مكة، ثم أنهى الجدل في سورة المائدة بالقول أن "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون".
بيد أن جدل تحريم الخمر في الإسلام سيظل حاضراً ما دام جدل "الناسخ والمنسوخ" حاضراً، ومع ذلك، لم يتوقف العرب فيما بعد كل هذا المسار عن تناول الخمور، سواء كانوا من العامة أو كبار القوم والحكام.
الفصل الأكثر حمرة من تاريخ النبيذ... الاستعمار
والحق أن المتحف، وإن كان يتيح كل ما أمكن من معلومات حول النبيذ وزراعته وإنتاجه وطرق حفظه وتاريخيته، إلا أنه أغفل فصلاً مهماً من تاريخ النبيذ، وهذا لا يحصل إلا عن عمد وتقصد، إذ لا يمكن لمتحف تم التجهيز له لسنوات طويلة أن يغفل علاقة الاستعمار بالنبيذ إلا متعمداً
فالنبيذ، أيضاً، وبشكل مباشر، ساعد الحركة الاستعمارية بشكل لا يخفى على كل من يفتش في أوراق التاريخ، حيث شهدت أرض الجزائر التي استعمرتها فرنسا لقرن ونصف أكبر عملية زراعة للكرمة حققتها فرنسا خارج جغرافيتها. فحتى العام 1830 كانت زراعة العنب تصل بالكاد إلى 2000 هكتار في الجزائر رغم المساحة الشاسعة للأراضي الزراعية الملائمة لها.
لا يمكن لمتحف تم التجهيز له لسنوات طويلة أن يغفل علاقة الاستعمار بالنبيذ إلا متعمداً
لكن الاستعمار الفرنسي بدأ فور وصوله في استصلاح الأراضي وتحويل الزراعات على كافة المساحات التي تبين أنّ لديها قابلية للاستصلاح، وما أن وصل العام 1935 حتى كانت الأراضي المزروعة بالكرمة من نوع بورغينيون ذات التأثير الخفيف قد احتلت حوالي 400 ألف هكتار من مساحة الجزائر.
لكن المصادفة التي حملها تكوين التربة في الجزائر طور من هذه النوع وأضاف إليها الكثير من النكهات والتركيبات الكيميائية التي ساهمت برفع سوية هذا النوع من النبيذ. حتى وصلت الجزائر في ذات العام إلى المرتبة الخامسة من حيث الإنتاج بعد الأرجنتين والولايات المتحدة.
إن حجم الفائدة التي جناها الاستعمار الفرنسي من نبيذ الجزائر لا يمكن استيعابها بسهولة ولا حتى من خلال الأرقام، فقد كانت فائدة مادية وعلمية تفوق التخيل، بيد أنّ العام 1962 كان عاماً فارقاً؛ فبعد الإستقلال تم الانتقام من كل الذين كانوا يعملون في هذه الكروم سواء من الجزائريين أو الفرنسيين الذين عاشوا هناك أعمارهم، باستثناء من هربوا.
تقلصت مساحة الأراضي المزروعة بالعنب العائد للفرنسيين في الجزائر من 400 ألف إلى 55 ألف هكتار مع إعلان الاستقلال
ليس بعيداً، فإن المغرب أيضاً شهد في نفس الفترة الزمنية تطوراً في المساحات الزراعية للكرمة في منطقة مكناس التي تنتج أفضل أنواع الكرمة على مستوى العالم وهي زراعة يملكها يهود مغاربة الى جانب مستثمرين فرنسيين منذ بدايات القرن الماضي وحتى اليوم، رغم تقلص الأراضي المزروعة تماما كما الجزائر. والمعروف أن المغرب تسمح بإنتاج وبيع وتناول المشروبات الروحية إلا في شهر رمضان، حيث يحمل الملك لقباً إسلامياً هو أمير المؤمنين.
لكن بعيداً قليلاً عن المقدس وجداله الذي لا ينتهي، والاستعمار وجراحه التي تركها في كل مكان ولم تندمل، فإن المتحف يفرد مساحة واسعة وخاصة للأنواع التي كان يفضلها مشاهير العالم من الخمور كبتهوفن ونابليون بونابرت وملوك فرنسا مثل لويس الرابع عشر وغيرهم. كما أنه يمنح زواره في الطابق الأخير منه على ارتفاع عالٍ تذوق أصناف عديدة من النبيذ جاءت من كل بقاع الأرض، ويقدم في متجره في الطابق الأرضي فرصة شراء واقتناء أصنافاً نادرة من النبيذ لا توجد مجتمعة في أي مكان آخر في العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.