شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
وأخيراّ… عشٌّ برلينيّ مع حمامتين

وأخيراّ… عشٌّ برلينيّ مع حمامتين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الاثنين 1 أغسطس 202212:49 م

أخيراً، وبعد انتظار وعناء داما سنوات، وجدتها. أصبح لدي مسكن بمفردي في برلين، بعد رحلة استغرقت أعواماً. هو أمر ليس بالهيّن، يعرفه جيداً من لديه خبرة في البحث عن سكن في برلين. بعد أيام من انتقالي، ظهر عشّ حمام بالقرب من نافذتي. لم أجرؤ أن أبعدها، أو أقلق راحتها. نحن في القارب نفسه معاً، نبحر بحثاً عن مرسى.

عشت في برلين فترةً تقارب ثماني سنوات. سكنت في أماكن مختلفة من المدينة في ظروف متفاوتة كلياً. بدأ الأمر بمخيمات اللجوء التي كانت تشبه السجون في أسلوب إدارتها. كاميرات المراقبة تراقبك بصمت خلال مسيرتك في الردهات والطرقات. رجال الأمن يفتحون أبواب غرفتك من دون استئذان، ليقوموا بتفتيش عشوائي ومفاجئ، ولا تستطيع فعل شيء إزاء هذا الموقف، إذ لديهم مفاتيح غرفتك. تلقي نظرةً على شركائك في الغرفة لترى إذا كانوا نائمين أو مستيقظين، ثم تتظاهر بالنوم مجدداً. باختصار، لم تكن هناك خصوصية ولا باب مغلق في أدق مراحل الحياة. اقتلعت جذوري من مكانها، ولا أعرف من أين دمي.

سكنت في أماكن مختلفة من المدينة في ظروف متفاوتة كلياً. بدأ الأمر بمخيمات اللجوء التي كانت تشبه السجون في أسلوب إدارتها. كاميرات المراقبة تراقبك بصمت خلال مسيرتك في الردهات والطرقات

تجرّب أن تستقر في بيت مرةً بعد أخرى، ولكنها محاولات لا تستمر طويلاً. خلافات مع شركاء السكن الألمان بخصوص رغبتهم في التحكم فيك، والتي يتم تأطيرها على أنها خلافات ثقافية، أو نزاع لا ينتهي مع الجيران الذين يشتكون لصاحب البناية إذا مشيت في بيتك، أو استمعت إلى الموسيقى ولو بصوت خفيض، أو معركة خاسرة مع صاحب البناية الجشع الذي يرغب في تحويل المبنى إلى سلعة باهظة الثمن تحت شعار التجديد العمراني. كل تلك البيوت كانت خاليةً عندما دخلتها، ولكنها ازدادت دفئاً وحميميةً مع الوقت، إلى أن يأتي موعد الرحيل، وتجمع أشياءك في كراتين.

قبل أن يتسنّى لي تفريغ أغراضي في عشي الجديد، لاحظت حمامةً تحمل غصناً صغيراً خارج نافذة مطبخي. لم أصدق أن تلك المحاولة سوف تستمر. بعد يومين، قام عشّ كامل خارج نافذتي.

قبل أن يتسنّى لي تفريغ أغراضي في عشي الجديد، لاحظت حمامةً تحمل غصناً صغيراً خارج نافذة مطبخي. لم أصدق أن تلك المحاولة سوف تستمر. بعد يومين، قام عشّ كامل خارج نافذتي. بعدها بأيام، ظهرت بيضتان في العش. في تلك الليلة الباردة، غاب الأب والأم. تخيّلت ما سيحدث في حالة عدم رجوعهما: هل كُتب على الكتاكيت أن يصيروا يتامى؟ وبعدها تخيلت كيف سيكون طعم عجّة بيض الحمام. لكن الحمام عاد. ولليالٍ عدة، وفي كل مرة كنت أنظر فيها من النافذة، كان الحمام يحدّق بي بحدّة.

بدأت بتثقيف نفسي بخصوص "جيراني الجدد". أخبرني الإنترنت بأن الأم والأب يتقاسمان مسؤولية تربية الأطفال. كنت ألاحظ فقط حمامةً واحدةً تجلس على البيض في وقت واحد، وافترضت أنها الأم، بينما يتجول الذكر كما يشاء، ويجلب أحياناً الطعام. لكني كنت مخطئاً. لا يخضع الحمام لقواعد المجتمع الأبوي في عالم البشر. مع مزيد من الفحص، تمكنت من مراقبة الوالدين في أثناء تبديل نوبات العمل، ولاحظت كيف يقف الوالد الآخر على الشجرة القريبة، ويتحدث إلى الذي لا يزال في العش. على عكس البشر، يخلص الحمام للشريك، فهي حقاً أحادية الزواج، مثل الكثير من الطيور، وهو سلوك لم تتم ملاحظته في معظم الثدييات التن تمارس تعدد الشركاء بأريحية. يتزاوج الحمام مع الآخرين في بعض الأحيان، لكنها غالباً ما ترتبط بشركائها مدى الحياة، وتتشارك في "الأعمال المنزلية".

بدأت أتحدث مع الأصدقاء والمعارف عنها، ودُهشت من ردود الأفعال المستنكرة أحياناً، والمشمئزة أحياناً أخرى. أدركت أن البعض في برلين يطلق عليهم فئران السماء، أو حتى الطاعون. كما تُدعى سلالة الحمام المنتشرة في ألمانيا، باليمام التركي، إذ يُعتقد أنها أتت من تركيا

أصبحت أكثر تعلقاً، وصار تفحّص العش أول شيء أفعله عندما أرجع إلى منزلي، أو عندما أفيق من النوم. فكرت كثيراً في أن أتبنى قطةً، لكنني قلقت بشأن المسؤولية التي تأتي معها، وإن كانت حياة القطة في شقة صغيرة سعيدةً حقاً. كانت تلك الطيور وكأنها حيوان أليف، لكنها حرة، ولم يكن لدي أي التزامات، بخلاف المشي على أطراف أصابعي بجوار النافذة، والتنازل عن فتحها، لئلا أفزعها. بدأت أتحدث مع الأصدقاء والمعارف عنها، ودُهشت من ردود الأفعال المستنكرة أحياناً، والمشمئزة أحياناً أخرى. أدركت أن البعض في برلين يطلق عليهم فئران السماء، أو حتى الطاعون. كما تُدعى سلالة الحمام المنتشرة في ألمانيا، باليمام التركي، إذ يُعتقد أنها أتت من تركيا. كثيراً ما ذكر هؤلاء مخاوفهم من أن الطيور تحمل الأمراض. فكرت وقتها في أنه ليس بالأمر الجديد أن يتم اقتران المهاجرين بالأوبئة. قد حدث ذلك بالفعل في أثناء جائحة الكورونا عندما أثار الفزع من المرض موجةً من العنف العنصري ضد الآسيويين.

لم أتذكر مثل هذا الموقف من الحمام في مصر، بل أذكر أنه طائر محبوب نعرف قيمته ومهاراته المتعددة بسبب حكايات الحمام الزاجل وارتباطه بفكرة أنه رمز للسلام والحب أو حتى العلاقات الحسية.

لم أتذكر مثل هذا الموقف من الحمام في مصر، بل أذكر أنه طائر محبوب نعرف قيمته ومهاراته المتعددة بسبب حكايات الحمام الزاجل وارتباطه بفكرة أنه رمز للسلام والحب أو حتى العلاقات الحسية في بعض الأحيان. في برلين، إما يحب الناس الحمام ويطعمونه، أو يكرهونه ويشتكون منه ويطالب بعضهم بالتخلص منه. ولكن الإنسان هو من جلب الحمام إلى المدينة. في الأصل، كان يعيش الحمام على التلال المجاورة للبحار، ولكن عندما اصطحبه الإنسان إلى المدينة بفرض هواية الصيد أو الطعام، وجد الحمام في منحنيات البنايات مكاناً مناسباً للعيش. النوافذ وأجهزة التكييف وأنابيب المياه تحاكي موطنه الأصلي.

لا يخلص الحمام لشركائه فقط، ولكن المدهش هو قدرته الهائلة على الرجوع إلى بيته حتى ولو كان على بعد مئات الأميال. لا نستطيع أن نعرف الدوافع النفسية لعودة الطيور إلى موطنها وبيتها الأصلي، فالطيور ليست كالبشر في مضمار الحكي. نعم تتواصل مع بعضها بحواس مختلفة، وتصفّر وتغنّي، لكنها لا تكتب قصائد عن الغربة أو كتباً عن الحنين إلى الوطن. أحد الأشياء التي تميزنا كبشر، قدرتنا على سرد الحكايات. من خلال الحكي، نشكّل العالم من جديد على صورتنا وتخيلاتنا وأيضاً أيديولوجياتنا. كما نبني المدينة على أهوائنا حسب اعتقادنا: من له الحق في أن يعيش فيها ويتمتع بها.

كثيراً ما نعتقد أن الطبيعة فكرة مجردة، وأن التقارب مع الطبيعة يتطلب المشي في غابة أو تسلق سفح جبل أو الغوص في البحار، ولكن حيوانات المدينة تغدق علينا درساً في التعايش والتفكر في موقعنا من الحياة. قد يدفعنا عقلنا على التفكير في أننا محور الكون، ولكن لقاءنا مع جيراننا في الطبيعة، يكشف أننا مجرد ذرة تسبح في محيط أوسع بكثير. ربما تطورت أمخاخنا بشكل أكبر، ولكننا لا نزال نعيش في أجساد محدودة القدرة.

لا نستطيع أن نعرف الدوافع النفسية لعودة الطيور إلى موطنها وبيتها الأصلي، فالطيور ليست كالبشر في مضمار الحكي. نعم تتواصل مع بعضها بحواس مختلفة، وتصفّر وتغنّي، لكنها لا تكتب قصائد عن الغربة أو كتباً عن الحنين إلى الوطن

في يوم من الأيام، لاحظت شيئاً يتحرك تحت الحمام. لقد ظهرت الكتاكيت التي فشلت في رؤيتها سابقاً، لأن الوالدين يدفئونهما بإحكام. كان ذلك في شهر نيسان/ أبريل، والشتاء لا يزال يفرض هيمنته في برلين. أغرب شيء هو أن الأطفال يدفعون رؤوسهم إلى داخل فم الوالدين ليأكلوا. اعتقدت أنهم يأكلون الأطعمة المخزنة في الفم، ولكني اكتشفت أنهم يتناولون لبن العصفور، وهو إفراز يتقيأه الوالدان لإطعام الأطفال. يقال إنه عندما تموت إحدى الكتاكيت باكراً، فإن الأخرى تتمتع بفرص أفضل للتغذية، مما يعني صحةً أفضل وطول العمر. كان الأطفال ينمون بسرعة، ولكن بشكل غير متساوٍ. بدا أحدها أكبر حجماً وأكثر نشاطاً وعددت ذلك عبرةً عن استحالة المساواة بين الأشقاء.

توقف الوالدان عن قضاء الليالي مع الكتاكيت، وخشيت أن ينسوا الأبناء. بدأت بالبحث عن كيفية إطعامها، لكنني لم أتدخل بعد آملاً بأن الوالدين يعرفان ما يفعلانه. ربما لم يعد هناك مكان لهم في العشّ بعد الآن. ربما يعلمونها الاستقلال. استيقظت يوماً لأجد طفلاً واحداً فقط في العش. بقي الطائر الأقل حجماً: هل سقط الآخر أم طار؟ بحثت عنه أسفل البناية لكني لم أجده.

في اليوم التالي، اختفى الكتكوت الآخر. تساءلت عما ينتظره في المستقبل، وما إذا كانت ستعود، وكيف سأتعرف عليها في تلك الحالة. ولكن الآن حان وقت التخلي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image