في حارات القاهرة القديمة، كان أطفال المدارس يشترون بجنيهات قليلة "كشري بالكيس". كان البائع يضع مكوّنات طبق الكشري الشهير من معكرونة، وأرز، وعدس، وبصل مقلي، وصلصة البندورة (الطماطم)، في كيس بلاستيكي شفّاف، ويعطيه للطفل، بعد أن يعقد طرف الكيس المفتوح. يُمسك الطفلُ الكيسَ المغلق من جانبيه، ويحرّكه بحركةٍ ارتجاجيةٍ سريعة، كي تختلط المكوّنات بعضها ببعض، ومن ثم يعض طرف الكيس، وينتزع بعض البلاستيك صانعاً فتحةً صغيرة يستخرج منها مكوّنات الكشري بفمه مباشرة.
يوجد في ألمانيا (حسب إحصائيات العام 2019)، أكثر من أربعين ألف شخص من أصول مصرية، بينهم 14 ألفاً ما زالوا محتفظين بالجنسية المصرية.
هكذا يتذكر فادي عبد النبي (اسم مستعار لأسباب أمنية)، كيفية أكله طبقَه المُفضّل في بلاده، ويقول لرصيف22، إن أكلَ الكشري بالكيس من أحلى ذكرياته عن القاهرة. عبد النبي طالب لجوء قَدِمَ إلى أوروبا قبل سبع سنوات، ويعيش في ألمانيا منذ ثلاث سنوات، ولا يستطيع العودة إلى مصر، ولو على سبيل الزيارة؛ "آخر زيارة لي كانت قبل أربع سنوات. أتابع أخبار تغيّرات المدن، والعمارة، والقوانين التي تصدر تباعاً، لكن مع مرور الوقت، قلّت قدرتي على متابعة تفاصيل الحياة كلها في مصر، حتى أنّ شعوراً ينتابني في بعض الأحيان بأنه لا صلة لي بما يحدث فيها".
مصريون في ألمانيا
حسب موقع الهيئة العامة للاستعلامات، وهي هيئة حكومية مصرية، يوجد في ألمانيا (في العام 2019)، أكثر من أربعين ألف شخص من أصول مصرية، بينهم 14 ألفاً ما زالوا محتفظين بالجنسية المصرية، ويعملون في "مختلف الأنشطة، فمنهم أستاذة الجامعة، والمهندسون، والأطباء، إلّا أنّ عدداً كبيراً منهم يعمل في مجال المطاعم".
قد يكون العدد ازداد في السنتين الأخيرتين (لم يستطع رصيف22 الوصول إلى إحصائية حديثة)، بسبب ازدياد أعداد مقدّمي طلبات اللجوء القادمين من مصر. عن هذا الأمر تقول منيرة الورد (اسم مستعار لأسباب خاصة)، إنّ الكثير من المصريين يعيشون في ألمانيا، "لكنّنا لا نعرفهم، إذ لا نتواصل مع كثيرين من دوائر أخرى. أمّا العاملون في مجالات الثقافة والأكاديميا والفن، فإنهم يزدادون عدداً". والورد طالبة دراسات عليا تقيم في برلين منذ أربع سنوات.
يضيف فادي عبد النبي في هذا السياق، أنّه وعلى الرغم من ازدياد أعداد المصريين في ألمانيا، إلا أنّ "أعدادهم قليلة مقارنة بالجاليات العربية الأخرى".
"هناك الكثير من اللاجئين المصريين الذين مرّوا بتجارب لجوء قاسية، وهناك الكثير ممن أتوا عن طريق الجامعة الألمانية في مصر، وهناك العاملون في مجال تقنية المعلومات. كما أنّ الظروف تختلف باختلاف طبيعة الأشخاص، واهتماماتهم، وميولهم، وطبقاتهم الاجتماعية"
تختلف حياة المصريين في ألمانيا باختلاف ظروف حيواتهم، وظروف مجيئهم إلى برلين، وباختلاف أنماط الحياة، حسب ما يشرح الأخصائي الاجتماعي والنفسي، أحمد عوض الله، لرصيف22. يقول: "هناك الكثير من اللاجئين الذين مرّوا بتجارب لجوء قاسية، وهناك الكثير ممن أتوا عن طريق الجامعة الألمانية في مصر، وهناك العاملون في مجال تقنية المعلومات. كما أنّ الظروف تختلف باختلاف طبيعة الأشخاص، واهتماماتهم، وميولهم، وطبقاتهم الاجتماعية".
العيش لسنوات في بلاد اللجوء والمنفى والغربة، غيّر من نظرة المصريين إلى بلادهم. يقول عوض الله إنّه يرى مصر تتغير، ويرى بلاده حزينةً ومُتعبةً بسبب الغلاء المعيشي، ووضع الناس المتدهور، لكن على الرغم من ذلك، "هناك حركة ثقافية شبابية مثيرة للاهتمام، وهناك قراءة وكتابة أكثر بكثير، وهناك حركة سفر داخل مصر، ووعي بالتاريخ المحلي"، ويضيف أنّ الكثير من الأشياء التي تحدث، تجعله راغباً في أن يكون هناك.
بينما تقول منيرة الورد، التي تتردد إلى مصر كثيراً، بأنّ شعورها في كلّ زيارة يتراوح بين "ضيف يراقب الحياة العامة، وبين شخص يزور عائلته ولا ينتبه إلى ما يحدث في الخارج"، لكنّها في برلين تتابع أخبار مصر، وما يحدث فيها بالتفصيل.
العيش لسنوات في بلاد اللجوء والمنفى والغربة، غيّر من نظرة المصريين إلى بلادهم.
أين يأكل المصريون الطعام المصري في برلين؟
"لطالما كان البحث عن الطعام المصري ملحمةً مستمرةً في برلين. لطالما تساءلت عن سبب وجود عدد قليل جداً من المطاعم التي تقوم بذلك في هذه المدينة، على الرغم من تزايد مجتمع الشتات". كتب أحمد عوض الله منشوراً على صفحته الشخصية في موقع فيسبوك افتتحه بالجملة السابقة.
يتحدث عوض الله في منشوره عن أحد المطاعم المصرية في برلين، والذي يقدّم وجباتٍ مصرية، وهو أحد الأماكن النادرة التي يستطيع المرء فيها تناول طعام مصري، وذلك بعد أن أغلق مطعمان آخران شهيران أبوابهما، وانعدمت وسائل الحصول على طعام مصري في العاصمة الألمانية، وخاصةً لمن هم مثل أحمد، الذي كبر في بيت "لا يدخل رجاله إلى المطبخ"، فاعتاد على أكل الشارع، والأكل السريع، خلال سنوات غربته. "لا أعرف كيف أصنع الأكل، خاصةً أنّ الطعام المصري يحتاج إلى خبرة، وإلى وقت طويل لتحضيره"، يقول.
إلا أنّ بعض المشاريع الفردية التي تقوم بها نساء "تحل مشكلة أحمد"، حسب تعبيره، إذ يصنعن الطعام في بيوتهن، ويوصلنها إلى البيوت بناءً على طلبات الزبائن، في مشاريع ربحية صغيرة، تذكّر المغتربين المصريين بروائح بلادهم.
من جهة أخرى، تجلب منيرة الورد طعامها مفرّزاً من مصر، التي تزورها مرةً كلّ أربعة أشهر، وتجلب ما تشاء من طعام أمها معها، وتستهلكه مع أصدقائها كلّما ضربَ الحنين إلى الوطن ضربته، أو تقوم بصنع الطعام بنفسها، وتدعو أصدقاءها ممن لا يستطيعون زيارة بلادهم، إلى تناوله جمعاً.
يُرجع فادي عبد النبي سبب عدم وجود مطاعم تقدّم الأكل المصري خارج البلاد، إلى عدم وجود هذه الثقافة في مصر نفسها، فأكل المطاعم المصرية هو طعام الوجبات السريعة، أو مطاعم تقدّم طعاماً أجنبياً، لكن في السنوات القليلة الماضية، حسب منيرة الورد، افتتحت بعض المطاعم ذات الصبغة "الهيبسترية" في القاهرة، والتي تقدّم أكلاً مصرياً بيتياً.
وماذا عن الكشري؟
في برلين ثلاثة مطاعم مصرية (قد يكون العدد أكبر لأنّ برلين مدينة لا تنتهي)، اثنان منها يقدّمان طعاماً مصرياً خالصاً، وثالث يقدّم طعاماً شرقياً عاماً، ولا كشري لديه، فضلاً عن مطاعم ومشاريع كانت موجودة وأُغلِقت، بسبب انتشار وباء كورونا، أو لأسباب أخرى.
"أنا مغترب منذ ما يقارب العشرين سنة، في أمريكا والمغرب وسوريا، والآن في ألمانيا، ودائماً ما كان سؤال المهاجرين المصريين: لماذا لا يوجد كشري في دول الاغتراب؟"، يقول محمد رضوان لرصيف22، ورضوان المقيم في برلين منذ العام 2015، هو صاحب شاحنة "كايرو كشري" شهيرة في برلين، إلّا أن مشروعه قد توقف في العام الفائت.
رأى محمد رضوان أنّ الكشري غير موجود في برلين، "على الرغم من وجود دكّان يبيع الكشري في كلّ زاوية من زوايا مصر"، لذلك أقام مشروعه الخاص لتقديم الثقافة المصرية في برلين، عن طريق الطعام، وخاصةً مع ازدياد أعداد المصريين في المدينة، وتوسّع الجاليات العربية فيها
رأى رضوان أنّ الكشري غير موجود في برلين، أو في بقية مدن العالم، "على الرغم من وجود دكّان يبيع الكشري في كلّ زاوية من زوايا مصر"، لذلك أقام مشروعه الخاص لتقديم الثقافة المصرية في برلين، عن طريق الطعام، وخاصةً مع ازدياد أعداد المصريين في المدينة، وتوسّع الجاليات العربية فيها.
صار المصريون يتجمعون حول شاحنة محمد رضوان الصغيرة، خلال سنوات عملها القليلة، "وصارت عربة كايرو الكشري، تمثّل مركزاً ثقافياً للمصريين في برلين"، حسب رضوان الذي تفاجأ بالأعداد الهائلة من محبّي الكشري من العرب والألمان، وبانتشار فكرة شاحنة الكشري الكبيرة.
يضيف رضوان لرصيف22، عن وصفاته الخاصة بهذا الطعام الشعبي الذي يُعدّ من أكثر الأشياء المُقدّسة لدى المصريين، "كان الكشري بالنسبة إلي لوحةً بيضاء، وأنا أضيف ألواني وفني عليها، فمثلاً أضفت في إحدى الوصفات الأفوكادو فوق الكشري، وهذا خط أحمر بالنسبة إلى المصريين، لكن لم أهتم، وقمت بصناعة وصفاتي الخاصة، وذلك ضمن خطة إستراتيجية لتقديم ما يحبّه الناس في المجتمع الذي أعمل فيه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...