يدخل إيلي رومية (54 عاماً) إلى منزله الزوجي بحذر. هي المرة الأولى التي يدخل فيها إلى المكان الذي أمضت فيه زوجته كاتيا أيامها الأخيرة، قبل أن تنتقل إلى المستشفى وتُتوفى في 15 أيار/ مايو المنصرم.
بيتٌ متواضع في منطقة رأس الدكوانة، في إحدى الضواحي الفقيرة للعاصمة اللبنانية بيروت. كاد إيلي أن يبيعه ليتمكن من تأمين العلاج لزوجته التي أصيبت بالسرطان قبل ثلاث سنوات. بعد وفاة زوجته، ترك المنزل وانتقل ليسكن مع ابنته في منزله الجبلي في منطقة رياق في البقاع.
الابنة الوحيدة كانت تعمل في مجال المحاسبة قبل أن تخسر عملها وتصبح عاطلةً عن العمل. أما الأب، فقد تراجع التزامه بعمله منذ إصابة زوجته بالسرطان. كان يعمل سائق شاحنة، غير أن مرض كاتيا استدعى منه أن يخصص جلّ وقته لها، وأن يعمل في الأوقات التي لا تكون في حاجة إليه خلالها.
لم يبِع إيلي البيت، ذلك أن المشكلة لم تتوقف عند حدود ارتفاع كلفة علاج السرطان، بل عند عدم توفره أصلاً. يقول لرصيف22، وهو يرتّب السرير الذي كانت تفترشه زوجته في أيامها الأخيرة في غرفة الجلوس: "هذه ليست زوجتي فحسب، بل رفيقة حياتي وعمري. التقينا قبل 38 سنة، ودام زواجنا 28 سنة رُزقنا خلالها بابنة وحيدة عمرها اليوم 25 سنة. ابنتي تبكي بصمتٍ رحيل والدتها، ولا ترغب في أن أشعر بالقهر أكثر".
يقف بالقرب من سرير زوجته، ويقول: "لم أدخل البيت منذ وفاتها. هذه هي المرة الأولى التي أدخل فيها البيت، معكم. لم أكن أريد أن أدخله وحدي"، ويكمل: "فقداني زوجتي ترك فيّ جرحاً عميقاً جداً ولم أستوعب ما حدث بعد. أخاف من أن أفقد أعصابي لو دخلت البيت وحيداً. كانت تمضي أيامها هنا على هذا السرير، وأنا أجلس بجانبها. أمضينا هنا السنة التي مضت بالعذاب، نتحادث في الليالي كي تنسى الألم وننسى الهمّ. كانت رفيقتي والآن سريرها سيصبح رفيقي من بعدها".
كاتيا كانت رفيقة إيلي في النضال أيضاً من أجل المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. يقول إنها كانت تحمي ظهره في تلك الأيام، عندما كان يتظاهر من أجل معرفة حقيقة اختفاء شقيقه بشارة في بداية الحرب اللبنانية عام 1978. وكاتيا لم تمُت لأن السرطان كان أقوى، بل لأنها لم تتمكن من متابعة العلاج بسبب فقدان الدواء. يقول إيلي وهو يحاول أن يخفي دمعته: "لا أتحمل نفسي. أشعر بأني سأنفجر".
"لو أن الدواء لم ينقطع!"
"لو أن الدواء لم ينقطع، لما كان السرطان انتشر في جسم زوجتي، ولكانت ما زالت على قيد الحياة"، يجزم إيلي. أصيبت كاتيا بسرطان الثدي قبل ثلاث سنوات، وأجرت العملية الجراحية اللازمة لاستئصال الورم. تكللت العملية بالنجاح، ولكن كان يجب أن تتابع العلاج عبر تناول دواء Ibrance، بطريقة منتظمة، إلا أن هذا لم يحصل بسبب انقطاع الدواء في السوق اللبنانية.
فبعد بدء الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان، وما أنتجته من تفاوت في سعر الدواء بسبب انهيار العملة الوطنية مقابل الدولار، كان الحل المعتمد من قبل الحكومة يكمن في دعم الدواء عبر فتح اعتمادات يغطيها مصرف لبنان.
في الواقع، لم يؤدِّ هذا الحل الذي لم يتضافر مع أي آليات رقابية مناسِبة إلى حماية المرضى وضمان علاجهم. على العكس، كانت النتيجة هي انقطاع الدواء المدعوم من السوق. وبسبب انعدام الثقة تجاه سياسات الدولة وتجاه استمراريتها، لجأ بعض المرضى إلى تخزين الدواء خوفاً من فقدانه، كما انتشرت ظاهرة بيع الأدوية في السوق السوداء وتهريبها إلى أسواق خارجية لبيعها بالدولار الأمريكي وجني أرباح فارق الدعم.
هذه الممارسات وثّقتها تقارير عدة بعضها وصل إلى الإدارات المعنية. مثلاً، في شهر شباط/ فبراير 2021، دوّت فضيحة ظهور أدوية مع ختم وزارة الصحة اللبنانية في الكونغو في إفريقيا، أشار السفير اللبناني هناك، هيثم إبراهيم، لجريدة "النهار" اللبنانية إلى أن التحقيقات بيّنت أن هذه الأدوية مهرَّبة من لبنان، استفاد مَن هرّبها من فرق السعر المدعوم.
قبل بداية الأزمة، كان إيلي يؤمّن الدواء لكاتيا مجاناً من مستودع الأدوية التابع لوزارة الصحة في محلّة الكرنتينا، كونه لا يستفيد من التغطية الصحية لأي جهة ضامنة. والمرضى الذين لا يتمتعون بأي تغطية صحية عبر أيٍّ من الجهات الضامنة، العامة أو الخاصة، تؤمّن لهم وزارة الصحة أدوية الأمراض السرطانية والمزمنة.
"لو أن الدواء لم ينقطع، لما كان السرطان انتشر في جسم زوجتي، ولكانت ما زالت على قيد الحياة"
في تلك الفترة، كان سعر الدواء الذي تأخذه كاتيا، 350 ألف ليرة لبنانية في الصيدليات. مع استفحال الأزمة الاقتصادية وانقطاع الدواء المدعوم من السوق، أصبحت مهمة تأمين الدواء صعبةً، وصار سعره يتراوح بين أربعة ملايين وسبعة ملايين ليرة لبنانية في السوق إذا توفّر. في بعض الأحيان، كان إيلي يضطر للجوء إلى الأقارب لطلب مساعدتهم للتمكّن من تأمين ثمن الدواء وشرائه من الصيدليات أو من السوق السوداء، وفي إحدى المرات اضطر إلى أن يطلب من شخص السفر إلى تركيا لتأمينه.
بالرغم من كل تلك المحاولات، كانت كاتيا تنقطع عن العلاج لفترات تتراوح بين شهر واحد وأكثر من شهر، ما تسبب في عودة نشاط السرطان في جسدها. انتشر المرض في جسمها وضرب هذه المرة عظامها. تلقّت العلاج الكيميائي في مستشفى بيروت الحكومي، ثم بدأت تتنقل بين مستشفيات راشيا والنبطية لإجراء العلاج الشهري بالأشعة. تبعد هذه المستشفيات ساعات عدةً عن مكان سكنها، ولكنها كانت تبحث عن الخدمة الأقل كلفةً، إذ إن فروقات التغطية التي تؤمّنها وزارة الصحة كانت تصل إلى مليون ونصف مليون ليرة يومياً، بحسب زوجها إيلي. رغم كل ذلك، لم ينفعها العلاج هذه المرة وبات المرض "أقوى منها، فهزمها وتوفيت"، يقول إيلي.
تمييز اضطراري بين المرضى
في أروقة "جمعية بربرا نصار"، تشعر بثقل هموم المرضى من دون أن تلقاهم. مكاتب الجمعية شاهدة على ذلك. هنا يقدَّم الدعم المعنوي والمادي لمرضى سرطان يشعرون بأنهم متروكون لمصيرهم.
مؤسس الجمعية هاني نصار يصف ما يحصل لرصيف22 بقوله: "هذه إبادة لمرضى السرطان في لبنان". يضيف: "غالبية أدوية السرطان غير متوفرة، ما يؤدي إلى تأخير العلاج، وتالياً إلى تراجع وضع المرضى". ويتابع أن "بعض المرضى توفوا، وبعضهم انتشر المرض في أنحاء جسده، وبعضهم تأخر علاجه".
ويكشف نصار أن بعض المستشفيات أصبحت مضطرةً إلى التمييز بين المرضى، إذ تُعطى الأولوية للمرضى الأصغر سنّاً، لأن لديهم أملاً أكبر بالحياة. ويقول في هذا الصدد: "بعض الأطباء يشعرون وكأنهم يخالفون قسَمَهم، لأنهم يعالجون المرضى بالعلاج المتوفر بدلاً من العلاج الأفضل". وفي الواقع، فإن بعض العلاجات المتوفرة حالياً تفتقر إلى مصادقة المنظمات الصحية التي عادةً ما يرتكز الأطباء على مصادقتها على الدواء للتأكد من فعاليته وآثاره الجانبية.
نصار أسس الجمعية قبيل رحيل زوجته بربرا، إثر إصابتها بمرض السرطان في العام 2014. وكان الهدف تأمين الدعم لمرضى السرطان البالغين كون معظم الجمعيات تهتم بالأطفال.
تضم الجمعية نحو 53 طبيباً معالجاً للسرطان، كانوا في البداية يساعدون في نشر التوعية حول مختلف أنواع السرطان. اليوم، وفي ظل تردّي الأوضاع المعيشية، بات دور الجمعية يتركز على مناصرة حقوق المرضى وقضاياهم، فبعد أن كانت الجمعية تؤمّن شبكةً لتبادل الأدوية بين المرضى قبل الأزمة، أصبحت تعمل اليوم على تأمين أدوية بديلة أو جنريك عن الأدوية المقطوعة من الخارج عبر أشخاص مسافرين.
ويقول نصار: "الأدوية ثمنها آلاف الدولارات، وننسق مع بعض شركات الأدوية لتأمين الدواء المقطوع ونحاول تقسيم الأدوية التي تصل إلينا على الجميع كي لا ينقطع أحد".
تبعاً لنصار، المشكلة بدأت "مع فرق سعر الصرف في السوق ودعم الدواء على سعر الصرف الرسمي، ما نشّط عملية تهريب الدواء إلى الخارج للاستفادة من فرق السعر". يردف: "الدواء اللبناني المدعوم وصل إلى سوريا والعراق ومصر والكونغو عبر شبكات التهريب، وبالتالي فإن كمية الدواء المدعوم التي كان يجب أن تغطي سنةً كاملةً، لم تغطِّ حاجة أربعة أشهر".
في 20 أيار/ مايو 2022، وفي جلستها الأخيرة قبل أن تصبح حكومة تصريف أعمال بعد الانتخابات النيابية، وافقت الحكومة اللبنانية على توصية وزارة الصحة العامة الطلب من مصرف لبنان سداد مبلغ قدره 35 مليون دولار أمريكي شهرياً، للأشهر الأربعة المقبلة، لشراء أدوية للأمراض المستعصية والمزمنة والسرطانية، ومستلزمات طبية ومواد أولية لصناعة الدواء.
وكان وزير الصحة الدكتور فراس الأبيض قد أشار، عشية الجلسة المذكورة، إلى أن الشركات العالمية في الخارج "بدأت تمتنع عن إرسال الدواء إلى لبنان نظراً إلى التأخر في سداد مستحقاتها".
والمبلغ المرصود سيُسدّد من حقوق السحب الخاص SDR للبنان من صندوق النقد الدولي، وفقاً لقرار سابق لمجلس الوزراء، تأخر تنفيذه على خط وزارة المالية-مصرف لبنان، كما كشف الوزير.
على كل حال، هذا القرار لا يعني انتهاء أزمة مرضى السرطان، فالمبلغ المخصص لأدوية السرطان هو 17 مليون دولار فقط، بينما الحاجة، بحسب وزير الصحة، تصل إلى 24 مليوناً.
"أعاني كطبيب سرطان وكمريض بالسرطان"
كان فادي نصر طبيب كاتيا كعدي قبل أن تُتوفى. هو طبيب متخصص بمعالجة الأمراض السرطانية ومصاب بالسرطان في الوقت نفسه، يقول لرصيف22: "أنا مريض سرطان وأخضع للعلاج، وفي الشهرين الماضيين لم أتمكن من تأمين الدواء لعلاج نفسي، وهذا يؤثر على العلاج. وأنا أعاني كطبيب للسرطان وكمريض مصاب به، أعاني المعاناة نفسها مثل مرضاي. من هنا الصرخة كبيرة كمسؤول عن مرضاي، وعن صحتي شخصياً".
يشرح نصر قائلاً: "نعيش اليوم كارثةً على صعيد دواء السرطان، فبعض المرضى يتطور المرض لديهم أو يموتون بسبب فقدان الدواء"، ويتابع: "بعض المرضى في مراحل متقدمة من المرض، ونحاول أن نربح لهم سنوات حياة إضافيةً، ولكن المرض يتطور معهم بطريقة سريعة. وهناك مرضى حالتهم قابلة للشفاء لو وصلهم الدواء، لكن فقدان الأدوية خفّض إمكانية شفائهم".
بحسب نصر، المشكلة الأولى حالياً هي أن الأدوية حاملة العلامة التجارية، والتي يقابلها دواءان جنريك، سُحب الدعم عنها، وأصبحت غاليةً جداً. في المقابل، لا يمكن أن نجد في السوق الدواءين الجنريك المدعوميْن. ذلك أن الحكومة كانت قد أقرّت تأمين الدعم لدواء جنريك محلي الصنع وآخر أجنبي، في حين أن الدواء المحلي مفقود بسبب عدم القدرة على شراء المواد الأولية لصناعته، والدواء الأجنبي مفقود أيضاً بسبب تأخر مصرف لبنان في سداد الفواتير للوكيل. المشكلة الثانية هي أن الأدوية الغالية، مثل الأدوية المناعية والأدوية الموجهة التي لم يُسحب الدعم عنها، مفقودة الآن والوكيل لم يتمكن من تأمينها بعد، بسبب الفواتير التي لم تُسدّد للشركات الموزعة في الخارج بعد.
"طُردت من عملي لأنني أُصبت بالسرطان"
ليلى عياش (45 عاماً)، تعيش في منطقة حلبا في عكار، وتتلقى العلاج الكيميائي في مستشفى تل يوسف في حلبا. تضطر إلى أن تقصد بيروت وتمضي ثلاث ساعات على الطريق، لتأخذ مساعدةً من "جمعية بربرا نصار"، كي تتمكن من تأمين الدواء لعلاجها، كونه لا يوجد يقوم بهذه المهمة عنها، فيما ليس لدى الجمعية جهاز بشري لتأمين توزيع الأدوية والمساعدات خارج مركزها.
تصف ليلى الطريق بأنها "طويلة ومرهقة ومكلفة جداً". تضطر إلى أن تستيقظ عند الساعة الخامسة فجراً لتصل إلى بيروت وتستلم المساعدة قبل أن تعود إلى عكار. وما يزيد الطين بلّة أنها تعيش اليوم على المساعدات بعد أن طُردت من عملها في محل لبيع الأحذية، عندما علمت إدارته بأنها مصابة بمرض السرطان ومضطرة للتغيب كثيراً.
ليلى وحيدة في هذه الحياة. توفي والداها وربّت إخوتها الأربعة وحدها، قبل أن يتزوج ثلاثة منهم، وينتقلون للعيش مع عائلاتهم، وتبقى هي مع شقيقتها الصغرى في منزل العائلة.
عندما تُسأل عن كيف تغيّرت حياتها منذ أن عرفت بإصابتها بالسرطان، تدمع عيناها وتقول لرصيف22: "ما تغيّر أنني أصبحت عاطلةً عن العمل، وبصراحة أصبحت مضطرةً إلى مدّ يدي للناس حتى أؤمّن الدواء أو الطعام... هذا أكثر ما يزعجني، فلا شيء أصعب من الطلب من الناس. الله لا يجرّبها لحدا"، وتضيف: "أنا قادرة على العمل، فالمرض لم يكسرني، لكن عندما أقول إنني مريضة سرطان وإنني أحتاج إلى إجازات مرضية كي أتمكن من إجراء فحوصاتي وجلساتي الدورية، يرفضون توظيفي". تردف: "أشعر وكأنني مصابة بمرضٍ معدٍ".
ليلى تتعالج على حساب وزارة الصحة، كونها لا تتمتع بتغطية أي جهة ضامنة. حالياً، تدفع نحو مليون و250 ألف ليرة مقابل كل جلسة علاج في المستشفى، وهي الفارق بين ما يطلبه المستشفى وما تغطّيه وزارة الصحة.
اكتشفت ليلى إصابتها بالصدفة أثناء زيارتها المستوصف برفقة أختها. تقول إن الورم كان يضرب صدرها، ولكنها لم تكن تشعر بالوجع. عندما اطّلع الطبيب في المستوصف على حالتها، طلب منها إجراء فحوصات وصور، وساهم في تغطية التكاليف من جيبه، فهي كانت عاجزةً عن الدفع لأن بيتها احترق قبل سنة وأعادت ترميمه وحدها.
بيّنت نتيجة الفحوصات أن السرطان ضرب ثدييها، وما تحت إبطها، ومؤخراً كبدها. كان يجب أن تكون قد أتمت 11 جلسة علاج حتى الآن، لكنها لم تتمكن من تأمين سوى ثماني جلسات بسبب انقطاع الدواء. هذا التأخير في العلاج يعني "النهاية"، بحسب ليلى التي تقول: "كل تقدّم في مراحل العلاج من الممكن أن يعود إلى الوراء إذا توقف الدواء أو انقطع، ومَن ليس ميسوراً بما يكفي لكي يشتري الدواء، عليه أن يوقف العلاج. أي نهايته الموت".
"أحارب السرطان وحيداً"
علي حمدان (30 سنة) هو أيضاً يشعر بأنه وحيد في معركته ضد السرطان. هو مصاب بسرطان الغدد اللمفاوية، منذ أن كان في عمر الخامسة والعشرين. هو المرض نفسه الذي خطف والد علي، قبل أن يبلغ الخمس سنوات. عاش علي يتيم الأب حتى عمر العشرين، حين خطف الموت أيضاً والدته.
في يوم اللقاء معه، كان في مستشفى الزهراء، في منطقة الجناح في بيروت، وأمضى نحو ساعة في زحمة السير ليعود إلى منزله في منطقة الشويفات في ضاحية بيروت. يومه كان مرهقاً ومتعباً. وكأنّ تحمّل أوجاع المرض لا تكفي، إذ عليه أن "يبوس أيادي" على حد تعبيره، كي يتمكن من تأمين العلاج.
يقول علي عن رحلة علاجه، وهو في المراحل الأخيرة من المرض: "اليوم دخول المستشفى كأنه حلم. علينا أن نترجى الناس كي ندخل المستشفى". ويضيف لرصيف22: "في وضعي، أحتاج إلى جرعتَيْ علاج شهرياً بكلفة تتراوح بين الـ13 و الـ15 مليون ليرة، وقد تصل إلى 18 مليون ليرة كفرق ضمان".
"مَن ليس ميسوراً بما يكفي لكي يشتري الدواء، عليه أن يوقف العلاج. أي نهايته الموت"
ما يزيد من وحدته الهوة بين مَن يملك الدولار ومَن لا يحصّل إلا العملة الوطنية التي تتراجع قيمتها يوماً بعد آخر. في هذا الصدد يقول: "عندما نتأفف من الكلفة، يأتي الرد بأن المبلغ بسيط جداً بالدولار الأمريكي، بينما أجر الموظف في لبنان يعادل المليونين ونصف المليون (أقل من وئة دولار)، فكيف يمكن لأي موظف أن يغطي مثل هذه التكاليف؟".
علي موظف في شركة أمن، ولكنه لا يداوم بسبب وضعه الصحي. يقول إن الشركة "تحننت" عليه لأنه بلا سند في الحياة، وأبقته في عمله بنصف معاش، أي بمليون ليرة، حتى ولو كان عاجزاً عن المداومة. عمله ما زال يؤمن له دخلاً بسيطاً، لكن الأهم بالنسبة إليه كان بقاؤه مسجلاً في الضمان الاجتماعي.
لكن هذه المؤسسة الضامنة للعاملين في القطاع الخاص والتي كانت تغطّي النسبة الأكبر من العلاج، فقدت قدرتها على حماية المنتسبين إليها بسبب انهيار سعر صرف العملة، ورفع الدعم تباعاً عن الأدوية.
حتى مؤسسات الرعاية الصحية والاجتماعية وجمعياتها، باتت عاجزةً عن تأمين الدعم اللازم لمرضى السرطان، بسبب ارتفاع كلفة الاستشفاء والطبابة وغلاء الأدوية وازدياد الطلب وتراجع حجم التبرعات.
بعد صراع دام خمس سنوات، علي اليوم في آخر مراحل انتشار المرض. يشعر بأنه مهمش أكثر من غيره، لأن المرض منتشر في كل أنحاء جسده. يقول: "مرض السرطان ضربني وقتل حياتي. لا يمكنني أن أتزوج وأنجب أطفالاً. في الأساس حرام أن أنجب أطفالاً وأظلمهم في هذا البلد وفي هذه الحياة. كنت أرغب في تأسيس أسرة، لكن الله لم يكتب لي ذلك. أنا اليوم وحيد. أسكن وحدي ويهتم بي الجيران والأصحاب من وقت إلى آخر.
لا سياسة صحية واضحة
مدير العناية الطبية في وزارة الصحة العامة، د. جوزف حلو، يشرح لرصيف22 أنه حتى اليوم، ما زالت ميزانية وزارة الصحة تقارب الـ475 مليار ليرة، أي نحو 16 إلى 17 مليون دولار، بحسب سعر صرف الليرة اللبنانية الحالي، علماً أن نسبة الاستفادة من خدمات الوزارة ارتفعت من 42% إلى 70% من الشعب اللبناني، وذلك بعد أن أقفلت مؤسسات عدة، ونُقل مرضاها من الضمان إلى الوزارة.
عند سؤاله عن عدد مرضى السرطان في لبنان، يجيب حلو بأن لا عدد واضحاً لدى الوزارة بسبب عدم وجود سجل وطني لمرضى السرطان، وتوزع المرضى بين الجهات الضامنة. فمثلاً، لدى وزارة الصحة، يترواح عدد الموافقات للعلاج بين 5،414 و6،320 موافقةً في السنوات الخمس الأخيرة، علماً أن الوزارة أعطت 2،630 موافقةً حتى الشهر الخامس من العام الجاري. ويرى حلو أنه من الأفضل أن يكون لدينا صندوق ضامن واحد، أو أن يكون لدينا مستودع أدوية واحد، مثل الكرنتينا، لكل الصناديق الضامنة، وأن ترتفع تغطية الجهات الضامنة لأنها ما زالت على سعر الصرف الرسمي، أي 1،500 ليرة لبنانية، فيما الدولار في السوق السوداء يلامس الـ27 ألف ليرة.
المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، د. محمد كركي، يقول لرصيف22 إن الضمان كان يغطي 90% من الفاتورة الاستشفائية، لكن مع انهيار العملة باتت قيمة الفرق أعلى بكثير، لذا عليهم أن يزيدوا اشتراكات المضمونين بصندوق الضمان بنسبة 66%، كي يتساووا في التغطية مع وزارة الصحة. ويقدّر كركي العدد الإجمالي لمرضى السرطان في لبنان، بما بين 25 و30 ألف مريض. ويقول إن نحو ثلاثة إلى أربعة آلاف حالة جديدة سنوياً، تُسجَّل على حساب الضمان. وعلى اعتبار أن الضمان يغطي ثلث الشعب اللبناني، إذاً فعدد الحالات الجديدة على مستوى لبنان، قد يصل إلى 12 ألف حالة.
عن هذا الضياع في الأعداد، يقول كركي إن التنسيق بين الجهات الضامنة يحدّ من مشكلة تهريب الدواء المدعوم، وتالياً من أزمة فقدان الدواء. ويسهّل كذلك عملية طلب دعم من صناديق مانحة لتأمين أدوية السرطان. والحل الآخر يكون في توحيد بروتوكولات العلاج واعتماد علاجات فعالة ومضمونة، لكن بكلفة أقل. ويختم كركي بالقول: "لا يمكننا أن نتابع التصرف وكأننا دولة غنية".
حول توحيد بروتوكولات العلاج واستخدام دواء الجنريك، يرى نقيب الصيادلة جو سلوم أنه "ليست لدينا مشكلة في مصدر إنتاج الدواء، إنما لدينا مشكلة في نوعيته وجودته وفي أن يكون مستوفياً معايير الجودة والمطابقة"، ويضيف لرصيف22: "نفضل اليوم الجنريك اللبناني المصنَّع محلياً، وهو الأكثر جودةً، واليوم لدينا كل الثقة بأن يستحوذ الدواء اللبناني كل معايير الجودة والمطابقة ويصدَّر إلى الخارج".
يشرح سلوم أن في لبنان 14 مختبراً مرجعاً يمكن فحص الدواء فيها، مشدداً على ضرورة تطبيق المطلب المزمن بإنشاء المختبر المركزي "حتى نكفل نوعية الدواء وجودته قبل طرحه في السوق". ويتابع: "أي دواء ليس مستحوذاً على معايير الجودة والمطابقة، لا يمكننا أن نقبل به. لكن لا يمكننا أن نلغي وجوده لأن هذه الأدوية تدخل بطريقة غير شرعية، وهي متوفرة في بعض المستوصفات".
ويشير إلى أنه بناءً على هذه المعايير، رفض تشريع عملية الاستيراد السريع للدواء، لأن ذلك يلغي دور الصيدلي في الرقابة على الدواء، ويصبح بإمكان أي مواطن عادي أن يستورد الدواء من دون أي محاسبة أو مسؤولية. ويؤكد أن السبب الأساسي لانقطاع دواء السرطان، مالي، بالإضافة إلى عدم وجود إستراتيجية معيّنة أو سياسة دوائية صحيحة، فضلاً عن موضوع تهريب الأدوية المدعومة.
طابور من المرضى
رافقت المحامية لمى الأمين والدتها المصابة بالسرطان في جولتَيْن، الأولى بين عامي 2016 و2017، والثانية منذ عام 2020. تقول لرصيف22 إن أمها مصابة بسرطان الثدي، وانتقل المرض اليوم إلى كبدها.
كانت والدة لمى تتلقى العلاج في المرحلة الأولى في مدينة صيدا، جنوبي لبنان، واليوم انتقلت إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، حيث طبيبها المعالج. رحلة الطريق من صيدا إلى بيروت ليست مهمةً بالنسبة إليها، فالأهم أن تتبع الطبيب المعالج.
واكبت المحامية الشابة معاناة مرضى السرطان قبل الأزمة الاقتصادية وبعدها، ولمست الفرق الذي يزيد من حدة هذه المعاناة مع استفحال الأزمة الاقتصادية. لكن ما لم يتغير بين الفترتين هو مشهد المرضى الكبار في العمر الذين يقفون في صفوف طويلة في مستودع الأدوية التابع لوزارة الصحة في الكرنتينا.
تقول إن "المشهد مؤلم جداً، فهؤلاء الأشخاص ليس لديهم أي قريب من الممكن أن يتّكلوا عليه لتحصيل دوائهم، وأولادهم هاجروا وهم هنا وحيدون والنظام المعتمد من قبل وزارة الصحة يمنع تسليم أدوية الأمراض السرطانية والمزمنة إلا لأصحاب العلاقة مباشرةً أو لأحد أقاربهم"، وتضيف: "يجب أن تذهب الخدمة إلى مريض السرطان، لا أن يضطر هو إلى أن يبحث عنها، فنحن نتحدث عن صفوف للمرضى وليس عن صف للخبز أو للبنزين".
هذه "الثغرة" التي تعلّق عليها لمى، لها انعكاس على النظام الصحي عموماً. وهنا تسأل: "لماذا لا يتم توزيع الأدوية وفق أسماء المرضى على المراكز الصحية؟ لماذا ليس لدينا نظام تتبّع مركزي لمرضى السرطان والأدوية التي يحتاجونها لدى كافة الجهات الضامنة؟".
تشرح الأمين أن "الاستفادة من تغطية وزارة الصحة تتطلب تقديم طلب إلى اللجنة الطبية التي تعطي موافقات بناءً على تقرير الطبيب المعالج، وتأكيد عدم استفادة المريض من أي جهة ضامنة أخرى".
ففي لبنان هناك أربع طرائق للوصول إلى العلاج بالنسبة إلى مرضى السرطان تبعاً للمى: "إما عبر التغطية الشاملة لوزارة الصحة، أو عبر تغطية تصل إلى 90% للمنتسبين إلى صندوق الضمان الاجتماعي أو ما يوازيه من جهات ضامنة مثل تعاونية الموظفين أو الأساتذة أو الجيش والقوى الأمنية، أو عبر التغطية الكاملة من قبل شركات التأمين أو تغطيتها فرق الضمان الاجتماعي، أو عبر تسديد الكلفة نقداً".
قبل الأزمة الاقتصادية، كانت فروقات الأسعار مقبولةً، ولكن مع انهيار العملة وارتفاع أسعار الأدوية، بات فرق السعر الذي يدفعه مَن يستفيد من تغطية الجهات الضامنة كبيراً جداً، فيما لا يمكنه الاستفادة من تغطية وزارة الصحة. وهنا تسأل لمى: "لماذا لا يمكن أن نعطي استثناءً لمرضى السرطان المضمونين، ونؤمّن لهم فرق تغطية كاملة من وزارة الصحة؟".
المشكلة الأخرى بحسب لمى هي فقدان الأدوية ودخول أدوية جنريك غير حائزة على موافقة وزارة الصحة. هذه الأدوية تباع في السوق، مثل الأدوية الإيرانية والهندية والتركية، وهي غير حائزة على موافقة إدارة الأغذية والدواء الأمريكية (FDA). بحسب لمى، فإن أسعار هذه الأدوية غير مقنعة، فهي إما مرتفعة جداً أو منخفضة جداً. وتقول إن الطبيب المعالج وافق على استخدام الدواء الجنريك لأن الدواء حامل العلامة التجارية brand، غير موجود في لبنان.
وتقول لمى: "إذا كان هناك دواء مفقود، على المريض أن يوقف العلاج أو أن يشتريه من الخارج، كما أفعل لكي أؤمن الدواء لأمي. فأنا أشتري حالياً دواء العلاج الكيميائي من تركيا، ومن حسن الحظ أنه لا يحتاج إلى براد لحفظه خلال عملية النقل".
وتكشف لمى أن بعض الصيدليات الكبيرة باتت تؤمّن خدمة شراء الأدوية من الخارج، مع إضافة مبالغ لتأمين الربح وعملية النقل. وتختم بأن المنتج الوحيد الذي خزّنته هو دواء السرطان، بعد أن انقطعت أمها لمدة أربعة أسابيع من الدواء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينعظيم