شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
استغلال وشللية و

استغلال وشللية و"احتفاء بالعادي"... الوسط الثقافي كما ترصده الروايات المصرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 12 يوليو 202206:07 م

ربما لم يتصور مثقف أو مدعي ثقافة أن جلسة قضاها في أحد مقاهي "وسط البلد" في القاهرة، ستحيله إلى شخصية روائية تخلدها أعمال كاتب مثل نجيب محفوظ، أو مادة لكتابة ساخرة كاشفة قي مقال يكتبه قاص لصحيفة أخبار الأدب، وربما لا ينتبه المشاركون في إحدى جلسات النميمية الحميمية، أن تفاصيلها ستروى في إحدى قصص مكاوي سعيد في "مقتنيات وسط البلد"، أو بعد بضع سنين ضمن قصص "الجو العام" لإبراهيم داود، أو غيرهم من الكتاب.

ربما تدون الحكايات على ألسنة مجهولين، أو مع إشارات تكشف عن حقيقة شخصيات بعض الحضور الحقيقيين، لكن يبقى الوسط الثقافي كنزاً لا يتوقف عن إمداد المبدعين بتصورات ومشاهدات إنسانية ثرية، ابتداء من روايات نجيب محفوظ مثل "المرايا" و "اللص والكلاب" و"ثرثرة فوق النيل" وغيرها، وصولاً إلى الأعمال الأخيرة لوحيد الطويلة وطارق إمام وغيرهما من مبدعين، هم أنفسهم ارتبطوا بوسط البلد، وصاروا جزءاً من مقتنياتها.

وحيد الطويلة: "المصيبة أن ما أورده محفوظ (عن فساد وانتهازية مجتمع الكتاب والمثقفين) يكاد يتكرر أحياناً بالحقارة ذاتها، بالسلوك ذاته الذي كتبه، الفرق فقط في التنوع في مستويات الرداءة"

وسط جذاب

ينظر للمثقفين والمبدعين عالمياً باعتبارهم "قادة رأي". فهم من ينتظر منهم التحليل والفهم والتنظير وإنتاج الأفكار، وكتاب الرواية منهم هم المتنبئون وراصدو أحوال المجتمع وحركة المعرفة وتفاعلات البشر عليها، وفي كل ذلك حاولت الرواية العربية عموماً، والمصرية خصوصاً، أن تلقي الضوء على ما سمي بـ"الوسط الثقافي" عبر رصد حالات فردية أو مجموعات من المثقفين.

"عُمد" وسط البلد

وكما أن للوسط الثقافي بوجه عام اشتباكاته؛ فإن لمنطقة وسط البلد بالقاهرة "عُمَدها" من المثقفين والكتاب، باعتبار وسط البلد نواة الحركة الثقافية بحكم انفتاحها الفكري وكونها - تاريخياً- قلب لقاء الثقافات المحلية والأجنبية وتلاقحها. ولكل "عُمدة" من هؤلاء جلسته وطقوسه ودائرته المقربة، ومن هؤلاء الكاتب الراحل مكاوي سعيد صاحب "تغريدة البجعة" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في حينها.

تحكي الكاتبة المصرية نهلة كرم التي كانت من دائرة اصدقائه القريبة: "بعد قراءتي لتغريدة البجعة، أعدت استكشاف وسط البلد من جديد، لكن تلك المرة من العمق، وهذا ما كان يفعله دوماً مكاوي؛ يخدعك في البداية ببساطة أسلوبه السلس، مثلما يخدعك صمته وأنت تجلس معه، فتظن أنه ليس لديه ما يقوله، ثم تكتشف بمجرد أن يتحدث أنه يعرف كل شيء، كل تفصيلة. كان يحلل كل شيء أثناء سكوته، ثم يفاجىء الجالسين بجملة تكشف لهم أنه كان منتبهاً لما وراء الكلام".

 "هكذا كان يفعل مع كتاباته أيضاً عن وسط البلد"، تقول نهلة التي كانت تربطها علاقة بنوة مع الكاتب الراحل.

تحكي كرم أن صاحب "مقتنيات وسط البلد" كان يجلس كل يوم في مقهى زهرة البستان في مواعيد ثابتة، "وكأن التأمل والصمت كانا يساعدانه على اختراق ما وراء الجدران والبيوت، وكذلك ما وراء الظاهر على سطح نفوس البشر ومجتمع وسط البلد"، ويظهر ذلك في كتاباته عن وسط البلد والمجتمع الثقافي.

في "زهرة البستان" أيضاً، يمكنك أن تلمح عُمدة آخر من عُمد وسط البلد، وهو الروائي وحيد الطويلة، أحد مؤسسي "لقاء الجمعة" وهو جلسة تجمع مثقفين وفنانين كل جمعة في مقهى بوسط القاهرة. للطويلة رأي حاد لا يخفيه في مجتمع وسط البلد، يقول: "المصيبة أن ما أورده محفوظ (عن فساد وانتهازية مجتمع الكتاب والمثقفين) يكاد يتكرر أحياناً بالحقارة ذاتها، بالسلوك ذاته الذي كتبه، الفرق فقط في التنوع في مستويات الرداءة".

لم يخطط الطويلة للكتابة عن الوسط الثقافي، وفق حديثه، لكنه في روايته "كاتيوشا"، وبطلاها كاتب وكاتبة، استطاع عبر المزج بين شخصيته الحقيقية وشخصية بطل روايته أن يرصد بعض الممارسات الفردية الدالة على عمق الفساد الذي يراه في ذلك المجتمع.

يحكي الطويلة عن ذلك "إغواء اللحظة في الرواية وعرامتها بتعبير إدوار الخراط سمحا لي أن أبتعد، اللهم إلا في مشهدين، كان فيهما الكُتاب يحكون ساق البطلة الكاتبة، بينما صديقهم الكاتب ينام في غيبوبته، المشهد الموجع بالنسبة للبطل، هو ما حدث معي شخصيا حين سقطت مريضاً بالقلب!".

هناك مشهداً ثقافياً عاماً، تتكاثر داخله جيوب ثقافية، إلى الدرجة التي تجعل الكثيرين يعيشون في جزر منعزلة، للأسف، تتصارع فيما بينها، وقد يتوقع أن يكون لهذا الصراع نتائج ثقافية بديعة، لكن على العكس، أنتجت أدباً للمزاج الشللي.

ويضيف أن النماذج التي أوردها خالد إسماعيل في "زهرة البستان" كانت "أكثر إيلاماً وأكثر دلالة على وساخة الواقع الثقافي".

ويواصل: "وهو في نظري - أي خالد إسماعيل- أحد الذين امتلكوا جرأة نقل الدناءة بكل طزاجتها وليس صحيحاً أنه قد بالغ، أو أن موقفاً شخصياً قد ملأه مرارة انتقلت إلى الكتابة. فالشخصيات التي كتب عنها تملك حقارة في الواقع، يصعب كثيراً أن تتحملها أية رواية تكتب عن قفا الواقع مهما كانت متسربلة به".

"لكنني لست متشائماً"؛ هكذا أنهى صاحب "حذاء فيلليني" حديثه إلى رصيف22. رغم أنه يقرر أن "الواقع الثقافي مملوء بالنماذج التي لم تُكتب بعد، وربما يتجاوز الكتاب عنها لأسباب عديدة، منها أن الواقع والخيال بهما ما هو أهم من هذا الوسط. وهو وسط قد لا يعني القارىء كثيراً، وبخاصة أن نماذجه تتشابه في الرداءة".

مرآة الواقع

الروائي المصري مختار شحاتة يلفت إلى أن "النزعة الكتابية الآن صارت أكثر ذاتية" ما يجعل الوسط الثقافي الذي غالباً ما ينتمي إليه الكتاب أو يمرون به بالضرورة، محوراً رئيساً في كتاباتهم، مدللاً على ذلك برواية طارق إمام "ماكيت القاهرة" الصادرة عام 2021 -والتي أثارت جدلاً في الوسط الثقافي المصري بشأن استحقاقها البوكر-.

يرى شحاتة أنها "قدمت نقداً رائعا لحالات من المثقفين والفنانين"، وتذكره برواية "القاهرة 30" لنجيب محفوظ التي "قدمت نموذجاً أيقونياً للمثقفين".

وأرجع مختار إغراق هذه الأعمال في الذاتية إلى كونها نتائج الواقع الثقافي "المتهم بالشللية والتدجين". مضيفاً أن هناك مشهداً ثقافياً عاماً، "تتكاثر داخله جيوب ثقافية، إلى الدرجة التي تجعل الكثيرين يعيشون في جزر منعزلة، للأسف، تتصارع فيما بينها، وقد يتوقع أن يكون لهذا الصراع نتائج ثقافية بديعة، لكن على العكس، أنتجت أدباً للمزاج الشللي".

ويضيف مختار فيما يخص تناول أعماله هو شخصياً للواقع الثقافي المصري "في تغريية بني صابر وفي عصافرة قبلي، كانت هناك مشاهد ظلالها تنبني على ما أراه من التشظي والذاتية، كما أكدت على لسان أحد أبطال روايتي مكاكي دي أفريكا حول وسط القاهرة، وربما هناك بعض الجمل الصادمة، لكنها كانت نقلاً أميناً لمشاهد رأيتها بأم عيني وسمعتها، وكانت محركي لكتابة هذه المشاهد".

وفي النهاية فإن شحاتة الحاصل على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات، قرر أنه يميل في تناول الوسط الثقافي إلى الإشارات والتلميحات، أكثر من المباشرة "التي تفسد نقدنا وتحوله إلى زعيق لا طائل منه".

وللناشرين نصيب

أما الكاتب المصري مصطفى منير فقد أفرد في روايته الأخيرة "تلاوات المحو" مساحة لنقد الواقع الكتابي والثقافي معاً عبر حبكة تساقط الكتب من السماء، وظن الناس أنها القيامة، فحاربوا كل حرامٍ من وجهة نظرهم، وكانتِ الكتب من ضمن الموبقات.

يقول منير: "عرضتُ رؤيتي الخاصة لقتل بعض دور النشر للإبداع، والتأكيد على تقديم الأعمال الخالية من أي مناقشات بخصوص الدين/السياسة/الجنس، الثالوث المُحرم في كل وقتٍ وليس في كل مكانٍ. وغضبي من كاتبٍ قد يتخلى عن إبداعه وحريته مقابل التوقيع مع دور نشر كبرى، وغير ذلك من الظواهر التي ضمنتها الفصل الخاص بنقد الواقع الثقافي في روايتي الأخيرة".

ينتمي منير إلى جيل حديث نسبياً من الكتاب، لا يقرأ عادة الروايات التي تفرد مساحاتٍ واسعةً لنقد الواقع الثقافي حسب تعبيره، وفي المقابل فإنه يهتم أكثر بقراءة الكتب النقدية أو الدراسات التي تقدم لمحاتٍ نقدية استثنائية، مثل كتاب "في جو من الندم الفكري" لعبدالفتاح كيليطو و"الكتابة بالقفز والوثب" لعبدالسلام بنعبد العالي، وحفرة الأعمى لخليل صويلح.

وعدد الكاتب المصري الشاب في حديثه لرصيف22 عناصر ما يصفه بـ"الصورة النمطية المعروفة لدى كل متابعٍ للوسط الثقافي" من "تردي أوضاع النشر، والشللية، والاحتفاء بالكتابة العادية، المحاصصة في توزيع الجوائز، والاكتفاء بالموجود والابتعاد عن التجريب، وقراءة المفروض على القراء من قبل المكتبات وغروبات القراءة، وألتراس الكُتّاب، وغياب دعم المواهب الشابة أو الأقلام الجادة التي تكافح منذ سنين".

أما الروائي محمد إسماعيل عمر فكان مهتماً بالتفريق بين واقعنا الثقافي وبين التحدث عن الواقع الأدبي، من خلال مثالين "القديم وهو "اللص والكلاب" التي تتحدث عن انفصال المثقف، رئيس التحرير، عن واقعه في كتاباته. وهي حقيقة تغلب على كثير من أمثال رؤوف علوان وإن أنكرناها أو استنكرناها. والرواية الحديثة ممر بهلر التي لم ترَ النور إلا لساعات قبل مصادرتها في يناير/ كانون الأول الماضي، والتي تتحدث عن الوسط الأدبي بشخصيات متباينة وبتضييق الأمن على بعضهم، حتى أتت مصادرتها لتبرز الفكرة، فتتحول الرواية لنبوءة ذاتية التحقق".

ويحكي إسماعيل عن تجربة نقده للواقع الثقافي: "حاولت في روايتين عرض واقع ثقافي مغاير للمألوف، بهدف حث القارئ على التفكير فيما ورثه من معارف، فبدلاً من تناول الوسط بالنقد، ذهبت مباشرة لعقل المتلقي وحاولت دغدغته بما قد لا يتفق معه كدعوة شخصية لمراجعة ما نعتقد".

ويرى عمر أن "المشهد في حاجة إلى أن نفهمه قبل أن نتناوله بالتحليل؛ فالاعتراض على محتوى مقدم رغم شعبية انتشاره يمنعك من التفكير في أسباب هذا الانتشار، عندها تبني بيدك سداً يمنع وصول أفكارك للفئة التي اعتمدت هذا المحتوى كرافد ثقافي".

فالوسط "النخبوي" حالياً ينتقد أغاني المهرجانات والراب ومحتوى اليوتيوب ويعتبر الأدب هو المصدر الثقافي الوحيد المعتمد "حتى أصبحنا لا نتحدث إلا مع أنفسنا".



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image