لا تزال الدهور، التي أطلت على صفحات روايات نجيب محفوظ التاريخية، وعلى شخوص أعماله الواقعية والنفسية والفانتازية، وهي تضرب كفّاً بكفّ، تعلن اندهاشها وحيرتها في يومنا هذا، إزاء مطالعة آثار أديب نوبل المحنك (11 ديسمبر 1911- 30 أغسطس 2006)، بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على رحيله.
وهناك طرق شتى معلنة، وأنفاق أخرى مجهولة، لسبر أغوار الظاهر، والمسكوت عنه في كتابات "شيخ الروائيين" المصريين والعرب، والتسلل إلى خزانته الملأى بالكنوز، ومحاولة قراءة كفّه المنطوية على أسرار وطوالع تقود إلى حاضرنا الذي نحياه، وغدنا القريب. فبين الحين والآخر يتكشف عمل له لم يسبق نشره، أو يتجلى تأويل جديد لما قاله قبيل وفاته في حلم عجائبي أو أقصوصة أو مقال أو حوار، فإذ بالسارد المخضرم يحتل بؤرة الضوء، التي لم يغب عنها أصلاً، مفسرًا وشارحًا ما تعج به حركة الحياة من حولنا، وما يجود به واقعنا الآني، وما تنتهي إليه غايات الأحداث، ومصائر البشر.
وثمة مدخلان شفيفان، أو سردابان خفيّان، يقودان إلى دهاليز عوالم نجيب محفوظ، وفضاءات ذاته الثرية وروحه الخصبة، ليتجلى للقراء أن "عرّاف الأدب" كان قادراً في أحوال كثيرة على التنبؤ بمستجدات الواقع، في مصر، والوطن العربي، والعالم بأسره، وأنه لمس ببراعة أعمق المشكلات والأزمات والقضايا، وطرح العديد من الحلول والروشتات العلاجية، للخلاص من أزمات العصر، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها.
حواراته ومقالاته وفضفضاته المنشورة قبيل رحيله، وعقب وفاته، في صحيفته المفضلة "الأهرام"، هي الخيط الأول في منسوجات محفوظ الاستشرافية الكاشفة. "أحلام فترة النقاهة"، أقاصيصه الأخيرة، بتجلياتها وخيالاتها ومقدرتها الاستبصارية، هي الخيط الثاني، كمفتاح لاستكناه الشخصية المحفوظية بامتياز، وإعادة النظر إلى نتاجه الثري، ورؤاه الثاقبة.
في الأشهر القليلة قبيل رحيل محفوظ، لم يكن بقادر على الكتابة، لكنه كان يملي خواطره وأحاديثه على المقربين والخلصاء، وكانت ملخصات أحاديثه تنشر في "الأهرام" وبعض الصحف. ومن تجليات حواراته وفضفضاته الأخيرة، يأخذنا محفوظ إلى إسهامات تنويرية يتبلور فيها كيف أنه سبق عصره. فقبل عهد الثورات والحروب التي تنبني على "الإعلام"، يتحدث محفوظ في ديسمبر 2004 عن أن الإعلام الصادق حين ينسحب من الساحة, فهو يترك مكانه للشائعات التي يتناقلها الناس, والناس لا يصح أن يكونوا ضحايا للشائعات. ورأى محفوظ آنذاك أن الطريق لا يزال طويلاً، ولا يزال هناك الكثير مما يجب إنجازه كي يصبح إعلامنا هو المصدر الأول والموثوق به للأخبار، مشيراً إلى أن التليفزيون ظل طويلاً يفتقر إلى الفكر والثقافة.
وفي الشهر ذاته، ديسمبر 2014، يلتقط نجيب محفوظ الشرارة الأكثر خطورة في القضية الفلسطينية، موضحاً أنها الخلافات الداخلية، التي ربما لا تزال تشعل الأزمة حتى يومنا هذا. ويشير محفوظ إلى أن الانتخابات العادلة الحرة، والرضا بنتائجها أيّاً كانت، يجب أن تكون وسيلة الشعب الفلسطيني الوحيدة لإدارة أموره.
على خلاف ما كانت تتشدق به القيادات السياسية العربية آنذاك، بشأن التقارب العربي, جاءت رؤية نجيب محفوظ في نوفمبر 2006 متحدثة عما سيذهب إليه المستقبل من صراعات وتشرذمات، إذ قال بوضوح إن الوحدة السياسية ما زالت بعيدة المنال
ويتعرض محفوظ إلى الإرهاب الدولي، وتردّي الأوضاع الأمنية في العالم كله، حتى في قلب الولايات المتحدة، مشيراً في فضفضة له في نوفمبر 2004، إلى أن الشعب الأمريكي في ذلك الوقت، صار لا يهمه أمر أكثر من مشكلة الأمن, فثمة تهديد يحدق بالعالم الغربي، وبالمجتمع الأمريكي، يتطلب التعامل معه بشكل حاسم وبلا تردد, ولقد جاء الشريط المصور لأسامة بن لادن الذي أذيع قبل أيام معدودة من الانتخابات في ذلك الوقت، ليثبت للشعب الأمريكي أن الخطر ما زال ماثلاً, وأنه يمكن أن ينقض عليه في أي وقت. فقد أصبحت القضية المطروحة بإلحاح هي قضية الدفاع عن النفس ودرء الخطر، ولعل هذا السيناريو، الذي قرأه نجيب محفوظ مبكراً، هو الذي يمتد إلى يومنا هذا، لكن بحدة أكبر، وتشظيات أكثر توغلاً، لاسيما مع سقوط كابول الأخير في قبضة طالبان.
وعلى خلاف ما كانت تتشدق به القيادات السياسية العربية آنذاك، بشأن التقارب العربي، وإعادة بعث الأحلام القديمة حول صيغ الوحدة والقومية العربية وما إلى ذلك, جاءت رؤية نجيب محفوظ في نوفمبر 2006 متحدثة عما سيذهب إليه المستقبل من صراعات وتشرذمات، إذ قال بوضوح إن الوحدة السياسية ما زالت بعيدة المنال, على الرغم من الوحدة الثقافية التي تكاد تبدو متحققة بالفعل، لكن بدون إطار قوي فعال يعبر عنها ويخطو بها خطوات إلى الأمام.
وإلى نافذة الحرية، الاختيار العربي الأهم والأصعب، إذ يتطرق العم نجيب محفوظ إلى أهمية صياغة دساتير جديدة في مصر والعالم العربي، تحترم حقوق الإنسان، وتفسح مجالاً لحرية الرأي والتعبير، ويقول في حديث له قبل رحيله بشهر واحد إن قضية الحبس في قضايا النشر من أهم القضايا، لأنها تتعلق بصميم الديمقراطية. فماذا إذا كان أديب نوبل قد عاين ما شهده العالم العربي في الفترة الأخيرة من عصف بالحريات، وحبس للكثيرين من حملة الأقلام، تحت دعاوى: خدش الحياء العام، وازدراء الأديان، وإهانة الرموز، وما نحو ذلك؟!
وعن انتشار نزعات التطرف في العالم، وكيفية التصدي لها، أشار محفوظ في فضفضة له قبل رحيله بأسابيع قليلة إلى أنه حين تسود قيم العدل بين الناس، فإن هذا الاتجاه سيخفت وتقل حدته, لأنه يتغذى على إحساس الشعوب بالظلم.
ولعل الفضفضة المحفوظية الأكثر إثارة للشجون وكشفاً لفيوضات ذاته المشحونة بالرمز والفلسفة، هي تلك التي أذيعت بعد رحيله بخمسة أيام فقط، إذ قال في أيامه الأخيرة بالمستشفى لزواره: "عايز أروّح بقى!" وتصوروا جميعاً أنه يريد العودة إلى منزله, لكن بمزيد من التحليل وجدوا أن كلماته، كما في روائعه الأدبية، كانت تتعدى دلالاتها المباشرة، لترمز إلى معنى أبعد، هو مغادرة الدنيا.
ومن حدة الآراء والفضفضات المحفوظية المباشرة، التي نشرت كمقالات أو حوارات معه، إلى الإبداع هذه المرة، الذي يقودنا إلى السرداب السري الثاني، المنفتح على دهاليز عوالم نجيب محفوظ، حيث "أحلام فترة النقاهة"، آخر أعماله القصصية، المنشورة في كتابين، ثانيهما صدر بعد قرابة عشر سنوات على رحيله، عن دار "الشروق" المصرية. ولم يكن صدور هذا الكتاب الثاني المفاجأة الوحيدة المتعلقة بهذا العمل القصصي، إذ انطوى محتوى تلك الأحلام على مفاجأة أبرز في حقيقة الأمر.
إن تلك الأحلام المحفوظية، أو القصص القصيرة جدًّا، التي لم تُكتشف في أثناء حياته، تتوخى في مجملها ملامح تقلبات الواقع في مصر والمنطقة العربية، ومصائر البشر وأحوالهم، في مرحلة الثورات وما بعدها، وترصد على نحو فني، بصورة تنبؤية كشفية، الكثير من المستجدات التي طرأت على المنطقة العربية، وربما العالم بأسره، على الأصعدة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وغيرها من أوجه الحياة.
على سبيل المثال، لم تكن عبارات ولا مفاهيم من قبيل "الثورات"، "إسقاط النظام"، "زوال الحكومات"، بالدارجة ولا الشائعة في المنطقة العربية حتى رحيل نجيب محفوظ في عام 2006، لكن ها هو الكاتب المتعمق يرسم سيناريو "ثورة الفول السوداني"، التي شهدت خروج حشود المتظاهرين، وانهزام قوات الأمن، وتهاوي النظام، وسقوط الحكومة. ولا يدرك أحد، هل يبدو السارد هنا جادًّا في تعاطفه مع تلك الثورة، ووصفه لها بالمباركة، أم أن ثمة سخرية تحكم إطار المشهد كله؟ يقول محفوظ في "الحلم رقم 250": "انتشر الفول السودانى إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، وأصبح رجاله قوة في الوطن، وضاقت الحكومة بذلك، فأصدرت قانوناً يحرم إنتاج الفول وتوزيعه واستهلاكه، وكان رد الفعل شديداً، فخرجت جموع المتظاهرين وعجزت قوات الأمن عن تفريقها فسقطت الحكومة وهوى النظام".
قال في أيامه الأخيرة بالمستشفى لزواره: "عايز أروّح بقى!" وتصوروا جميعاً أنه يريد العودة إلى منزله, لكن بمزيد من التحليل وجدوا أن كلماته، كما في روائعه الأدبية، كانت تتعدى دلالاتها المباشرة، لترمز إلى معنى أبعد، هو مغادرة الدنيا.
أما الذي يجري أثناء المظاهرات، من مواجهات ومصادمات بين الثوار وقوات الأمن، وما يحدث أحياناً من عنف، يمكن أن تنجم عنه حالات وفاة، وسقوط ضحايا من فئات الشعب المختلفة، ومنهم طلاب الجامعات والمدارس، فيقول عنه نجيب محفوظ في "الحلم رقم 248"، مستحضراً روح الزعيم مصطفى النحاس من خندق، واصفاً ما شهده فضاء المستقبل: "رأيتني بين الجموع التي تزور المعرض الزراعي الصناعي السنوي وتشاهد معروضاته، وإذا بالزعيم مصطفى النحاس يزور المعرض، فالتفت الجماهير حوله وهتفت باسمه، فاقتحمت قوة من الأمن المعرض وانهالت بالعصي على الجماهير، ثم أطلقت بعض الطلقات النارية. وقد استُشهد في ذلك اليوم طالبان، وكان أحدهما ابن رئيس القوة، وظل ذلك حديث الجماهير".
ومن المدهش واللافت، أن الخيال المحفوظي، في أحلام فترة النقاهة، يتسلل إلى أمور كان يصعب تصورها في مصر والعالم العربي قبل رحيل محفوظ في عام 2006، منها تلك الحشود، والمسيرات الكبرى، والتظاهرات، التي خرجت فيها الجماهير في مواجهة الحكّام، وقوات الأمن، مستبشرة بالنصر، ومطالبة بكتابة دستور جديد، واستحداث آليات حكم معاصرة. يقول في "الحلم رقم 217": "تعالت الهتافات تنادي بدستور جديد، يناسب العصر، ولم تستطع قوات الأمن تفريقها، وبدت كأنها مصممة على النصر".
كما يتطرق نجيب محفوظ في "الحلم رقم 272"، إلى "عودة الفاشية والنازية"، هكذا صراحة، ولعله هنا يوسع دائرة الرؤية، لتشمل العالم بأسره، وليس المنطقة العربية وحدها، فثمة انتكاسة مرصودة في مجال الحريات، وحقوق الإنسان، وثمة مرشحون رئاسيون، في عهدنا هذا، يراهنون على العنصرية والفاشية كسلاح انتخابي في دول ديموقراطية عظمى، كما فعل ترامب مثلاً في انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية التي خسرها في 2020.
ويرى السارد الكبير نجيب محفوظ، في نبوءاته وتجلياته المثيرة للدهشة، أن حركة الواقع، في العالم كله، على ذلك الشكل من الخنق وتقييد الحريات، ستقود إلى كوارث حتمية، مهما بدا أن الأمم والشعوب، ظاهريًّا، تسير في موكب التعددية والديمقراطية، وتحترم المخالفين والمعارضين. يقول محفوظ في الحلم رقم 239: "وجدتني أسيراً بين الجموع الغفيرة؛ فهذا يوم الانتخابات العالمية التي تشارك فيها جميع الأمم، ورأيت الملوك والرؤساء والصفوة متنكرين في زي فتيات ريفيات ينشدن أجمل الأناشيد وأسماها، وأدليت بصوتي ورحت أتساءل عما ستسفر عنه الانتخابات غداً، وأثر ذلك في بلاد العالم وبلادي، أما مراكز البحوث فقد تنبأت بوقوع كوارث".
وثمة قضايا حقوقية تعج بها المحاكم في الوقت الراهن، في مصر وعدد غير هين من الدول العربية، هي المعروفة بقضايا "إهانة الرموز"، و"ازدراء الأديان"، و"خدش الحياء العام"، وما نحوها، وقد برزت هذه القضايا كذلك في نبوءات أحلام النقاهة المحفوظية، لكن الكاتب في هذه المرة، يبدو أنه كان يحلم، ولا يتوقع، فهو رأى، فيما يرى النائم، أن السلطة ستناصر ذات يوم حرية التعبير ضد المتزمتين والمتشددين. يقول في الحلم رقم 395: "وجدتني في حفل لتكريم رموز الثقافة والعلم، ووقف الرئيس وتحدث عن (أولاد حارتنا)، فنفى عنها أي شبهة إلحاد، ونوه عما فيها من تسامح واستنارة"!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...