شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الفارسية هي اللغة الرسمية في إيران... ماذا عن اللغات الأخرى؟

الفارسية هي اللغة الرسمية في إيران... ماذا عن اللغات الأخرى؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والفئات المهمشة

الخميس 25 أغسطس 202204:58 م


حين تحدث صديقي العربي معي، قبل أعوام، عن قصة رسوبه في الصف الأول الابتدائي، كنت وكأنني أقف لأول مرة وجهاً لوجه أمام قضية لغة الأم، وذلك عبر قصة طفل لا يتجاوز عمره السبع سنوات يجلس في صف أمام سبورة كَتب عليها مدرّس الفارسية مفرداتٍ لا يفك الطفل طلاسمها؛ معضلة لم أواجهها أبداً كمواطنة فارسية في إيران.

تدمير اللغة، تحطيم الثقافات

تعيش في إيران قوميات عديدة بلغات مختلفة لكنها تتعامل جميعاً باللغة الفارسية. حسب الإحصائيات، عدد اللغات الحية في إيران 76، وحسب أطلس لغات العالم أكثر من 20 لغة منها معرضة للاندثار، ويزيد هذا الرقم وفق اليونسكو ليصبح ما يقارب 25 لغة، وترى بعض المصادر أن نصفها وقعت في دائرة خطر الاندثار.

في الماضي كان المواطنون من غير الفرس يقضون حياتهم اليومية بعيداً عن اللغة الفارسية، ولكن مع دخول البلادِ المرحلةَ الصناعية في بداية القرن العشرين، بدأت موجة الهجرة إلى العاصمة ونمت رغبة بين المواطنين في الحياة في المركز (العاصمة)، حيث لم يعد للغة الأم مجال للاستخدام، ومن كان يرغب في الحصول على عمل والتقدم في حياته كان عليه التحدث بالفارسية. وشيئاً فشيئاً بات التحدث بالفارسية شرطاً للدلالة على المكانة الاجتماعية.

دفع نظام التعليم في البلاد أيضاً القومياتِ الإيرانيةَ إلى اللغة الرسمية، وذلك عبر تجاهله للغات الأخرى الموجودة في إيران وإصراره على تدريس اللغة الرسمية. ومع ظهور مشاكل التعليم عند أطفال القوميات المختلفة في المدارس، فضّلت العوائل غير الفارسية الساكنة في المدن أن تتحدث الفارسيةَ في البيت، فلم يعد الطفل، مثلما كان في السابق، يسمع لغته الأم. وفي الحقيقة، أصبحت لغة الطفل فارسيةً من أبوين لغتهما الأمّ غير الفارسية.

يرى الكثير من النشطاء الثقافيين والحقوقيين أنه ليس ثمة لغة أفضل من لغة أخرى، ويجب ألا نجبر الطفل على التحدث بلغتين، كما لا ينبغي أن يدرس اللغة الفارسية منذ يومه الأول في المدرسة

سمكو (36 عاماً)، كُردي من مدينة كِرمانشاه المحاذية للحدود العراقية، يقول عن أجواء عائلته في طفولته: "كان أبي وأمّي يتحدثان معنا بالغة الفارسية، بالرغم من أن الجميع يتحدث اللغة الكُردية في الشوارع وداخل البيوت. كانت أكثر مدارسنا أيضاً تتقن الكُردية. شعرتُ بالعزلة. لذلك حين بلغتُ ثلاثة عشر عاماً تمردتُ، وأخذتُ أجيب أبي وأمي بالكردية علاى الرغم من أنهما يتحدثان معي بالفارسية، حتى استسلما".

يرى الكثير من النشطاء الثقافيين والحقوقيين أنه ليس ثمة لغة أفضل من لغة أخرى، ويجب ألا نجبر الطفل على التحدث بلغتين، كما لا ينبغي أن يدرس اللغة الفارسية منذ يومه الأول في المدرسة. أيّ لغة في العالم هي ممثلة وسفيرة لثقافة وهوية، ويجب ألا نسخر منها ونستحقرها. حين تتغير نظرة الطفل بالنسبة لهذا الموضوع لن يشعر أمام الآخرين بالضعف، ولن يرغب في تغيير لغته الأم.

يذكر سمكو عن تجربته مع الازدراء بسبب اللغة قائلاً: "تزوج أحد أخوالي من امرأة فارسية من المدينة، وكانت تنظر على أنها أعلى مستوى من عائلتنا. أرعبتهم حركتها المتبخترة، وللوصل إلى مستواها حاولوا تغيير أنفسهم، وقد بدأ هذا التغيير عبر التحدث بالفارسية".

مطالبة الكمالية للفرس

يطرح الدستور الإيراني قضية لغة الأم في المادة الـ15: "لغة الحديث والكتابة الرسمية للشعب الإيراني هي الفارسية. يجب أن تكتب النصوص الرسمية والكتب المدرسية بهذه اللغة. أما استخدام اللغات المحلية والقومية في الصحف والإعلام وتدريس آدابها في المدارس، فمسموح به إلى جانب اللغة الفارسية". ولكن لماذا لا تبادر وزارة التعليم والتربية بحل معضلة التلاميذ ثنائيي اللغة؟

أخرج المخرج محمد رضا فرطوسي المنحدر من مدينة المحمرة في محافظة خوزستان جنوب غرب إيران في عام 2001 فيلماً بعنوان "ذلك الرجل لديه حصان" (وهي الجملة الأولى التي يتعلمها الأطفال في المدارس الإيرانية: آن مرْدْ اَسبْ دارَد)، وهو يروي اليوم الأول لتلميذ في قرية عربية في محافظة خوزستان، حيث ولأنه لا يتقن الفارسية لا يستطيع فتح نافذة حوار مع معلمه أو فهم ما يقوله.

ويصف لنا فرطوسي أسباب تطرقه إلى هذا الموضوع: "عادة ما تشعر الأقليات اللغوية أو حتى الأقليات الدينية والقومية طوال حياتها، وفي مرات عديدة، باختلافها عن الأكثرية. أنا أيضاً جزء من أقلية عربية في إيران، ومررتُ بهذه التجربة مراتٍ عديدة. لذلك حين دخلت عالم الفنّ، اعتقدتُ أن هذه القضية يمكن أن تكون جزءاً من نتاجات الفن أو حتى الإعلام. خاصة أن مثل هذه القضية لا تُرى، لأنها محدودة في إطار مجتمعات الأقليات ولا تتعداها، ويبقى أصحاب القرار غير عالمين بها أو أنهم لا يجدون ضرورة لحل هذه الأزمة".

أحد عقبات تطبيق المادة الـ15 من الدستور الإيراني هو ممانعة المسؤولين والأدباء الإيرانيين، إذ يعقتدون أنّ هذه الخطوة هي تهديد للغة الفارسية.

يتحدث فرطوسي عن العقبات الأخرى قائلاً: "أهمّ عقبة هي جهل الناس. الأشخاص الذين لغتهم الأمّ هي الفارسية، ولأنهم لم يواجهوا قضية ثنائية اللغة، لا يمكنهم التطرق لها. العقبة الثانية هي القوى الحاكمة، حيث يربطون قضية اللغة بالقضايا السياسية ووحدة البلاد، ويجعلون من قضية اللغة قضية معقدة. بينما، وفي الحققة، السياسيون أنفسهم هم مَن يسيسون اللغة، وليس المطالبون بها. لقد رأينا طوال سنين عديدة أن المطالبات بالدراسة بلغة الأمّ ليست إلا شعارت انتخابية يُهتف بها لانتخابات رئاسة الجمهورية والبرلمان".

ويشير إلى دور العالم الافتراضي في تحسين الأوضاع قائلاً: "مع الانتشار الواسع في الأعوام الأخيرة لشبكات التواصل الاجتماعي، تطرق الكثيرُ من أصحاب اللغتين إلى تجاربهم التي تتعلق بمواجهة اللغة المسيطرة في البلاد. هذا ما جعل الفرس يدركون أن الكثير من أفراد المجتمع لم يتحدثوا اللغة الفارسية منذ ولادتهم، بل تعلموها في مرحلة ما، وهم يستخدمونها في أماكن وظروف خاصة فقط. وحتى في عام 2009، اعترف وزير التعليم حينها بأن 70 بالمائة من التلاميذ في إيران ثنائيو  اللغة".

"في عام 2015، أُعدّت كتب صغيرة للمرحلة المتوسطة باللغة الكُردية والتركية، بصورة تجريبية، وفي عام 2016، أُضيف الأدب الكُردي والتركي لبعض فروع الجامعات. قد تمنح هذه الإجراءات أملاً، ولكنها ليست كافية"

ويجيب نفس المخرج على تساؤل حول توقعاته لمستقبل الإجراءات التي سيتخذها نظام التعليم في البلاد لحل هذه المشكلة: "أعتقد أن ضغوط شبكات التواصل الاجتماعي وطرح مطالبات الأقليات فيها، ستؤدي إلى استجابة الحكومات لهم، وإن كانت هذه الاستجابات شحيحةً. مثلاً في عام 2015، أُعدّت كتبٌ صغيرة للمرحلة المتوسطة باللغة الكُردية والتركية،  بصورة تجريبية، وفي عام 2016، أُضيف الأدب الكُردي والتركي لبعض فروع الجامعات. قد تمنح هذه الإجراءات أملاً، ولكنها ليست كافية. وحتى تحقيق هذه المطالبات أمامنا طريق طويل".

القمع، طريقة لتحريف الأذهان

بالرغم من وجود ترخيص لطباعة الكتب والمطبوعات باللغات المحلية في العقود الأربعة الماضية، والإجراءات للتربية والتعليم المذكورة سابقاً، ما زالت قضية لغة الأمّ بالنسبة للحكومة الإيرانية ملفاً أمنياً، وفي كل عام، خاصة على عتبة يوم لغة الأم العالمي (21 شباط/فبراير) تتم اعتقالات عشوائية لنشطاء في هذا المجال.

يعتقد نشطاء حقوق الانسان في إيران أن الحكومة الإيرانية تلقّن الرأيَ العام بأن أي نشاط مدني في مجال لغة الأم نابع من المطالبة بالتجزئة، ويبقى النشاط في حقل تعليم لغة الأم خارج نطاق السلطة المعترف به، حجةً مستمرة لتشكيل ملف أمني ضد النشطاء المدنيين. كما أن الإجراءات التي اتخذتها الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مجال تعليم اللغة الكُردية والتركية في الأعوام الأخيرة ليست إلا درعاً أرادت استغلاله في المجامع الدولية لحماية نفسها.

يقول سمكو: "تنقسم قضية لغة الأم إلى قبل وبعد الإنترنت. في كرمانشاه، مع دخول الإنترنت ونمو اللغة الكُردية في العالم الافتراضي، أسست السلطة، وللسيطرة على هذا الفضاء، مؤسساتٍ لتعليم اللغة الكردية. بيد أن هذه المؤسسات يديرها أفراد مقربون من الحكومة. لا تتحمل السلطة أبداً نشاط القادة الحقيقيين في هذا المجال، بل يتم اعتقالهم عبر توجيه اتهامات مثل التجسس والتعاون مع كُردستان العراق، لشلّ حركتهم، وأيضاً لخلق حالة رعب وخوف. ئاكو جليليان، أحد أهم الشخصيات الكُردية قد زُج في السجن بتهمة جمع معجم لغوي كُردي، لأن عمله يُعتبر بنية تحتية عظيمة للغة الكُردية".

هذا القمع وإلصاق التهم الأمنية والسياسية الواقعة على النشطاء المدنيين في مجال اللغة، حرف تعليم لغة الأم وحفظها، وأبعد النشاطات عن مداها الإنساني والتثقيفي. وهو أسلوب وقف عقبة دون إيجاد البنى التحتية اللازمة لتعليم وتدريس "لغة الأم" أو التعليم "بلغة الأم"، وما زلنا نواجه كل سنة في إيران، الكثير من ثنائيي اللغة، ممن يتركون الدراسة، لأنه ليس أمامهم فرصة لمنافسة التلاميذ الفُرس أو "المستفرسين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image