في تمام التاسعة صباحاً، كان يجلس بجوار أمه على كرسي صغير قلقاً متهيباً، وعندما نادت المسؤولة عن تنظيم مواعيد المقابلات والدته، انتابه خوف يشبه الخوف الذي يشعر به عندما تذكر الممرضة اسمه في عيادة الطبيب خشية أن يكون في الأمر "حقنة".
أمسك الطفل ذو السنوات الأربع بيد والدته أماني رمضان، وهي تدخل معه إلى مكتب لجنة الاختبار التي يحسم قرارها أمر قبول ابنها في المدرسة، لكن الاختبار لم يتم، قطعه سؤال عضوة بلجنة الاختبار وجهته لأم الطفل: "أين زوجك؟" رفع الطفل عينيه إلى أمه وهي ترد: "مطلقين ومعايا ولاية تعليمية"، لتصبح تلك الجملة عائقاً في طريق التحاقه بالمدرسة.
لم تعلم أماني رمضان أن انفصالها عن زوجها منذ ما يقرب من عامين سيكون عائقاً لها في رحلة البحث عن مدرسة لنجلها الوحيد، فرغم حصولها على حكم قضائي بأحقيتها في الولاية التعليمية، فإن تلك الورقة لم تساعدها: "قدمت في المدرسة القريبة من محل سكني من على الإنترنت، وذهبت للموعد المحدد لإجراء المقابلة مع ابني بعد أن أعددته جيداً للاختبار، وفوجئت بالمسؤولة تطلب مني الانتظار لسؤال مديرة المدرسة التي لا ترحب بأبناء المطلقات، منعاً للمشاكل’".
تواصل أماني البحث عن مدرسة ذات مستوى تعليمي جيد تقبل ابنها، وإن لاحظت أن حماسة ابنها للدراسة تتراجع مع كل رفض جديد، على العكس من قلقه وانطوائه اللذين يزدادان في كل مقابلة.
في تمام التاسعة صباحاً، كان يجلس بجوار أمه على كرسي صغير قلقاً متهيباً، وعندما نادت المسؤولة عن تنظيم مواعيد المقابلات والدته، انتابه خوف يشبه الخوف الذي يشعر به عندما تذكر الممرضة اسمه في عيادة الطبيب خشية أن يكون في الأمر "حقنة"
طموح الأمهات وتعنت المدارس
تنقسم المدارس في مصر إلى أربع فئات. الأولى هي المدارس الحكومية العادية، ويكون التقديم بها وفقاً لمحل الإقامة، ومصاريفها رمزية. الفئة الثانية هي المدارس التجريبية، وتؤهل الطفل لمستقبل دراسي ووظيفي أفضل كونها تدرس المواد العلمية باللغة الإنجليزية، وتبدأ المصاريف من ألف جنيه. وتماثلها المدارس القومية وهي تدرس كافة المواد (عدا اللغة العربية والدين) باللغات الاجنبية ولكن مقابل مصروفات منخفضة نسبياً.
والفئة الثالثة هي المدارس الخاصة، والتي تدرّس جميع المواد باللغة الإنجليزية، أو جميع المواد باللغة العربية، وتعتمد على المنهج التعليمي المصري. مصاريفها أغلى من المدارس التجريبية، وتأتي الفئة الرابعة وهي المدارس الدولية International، وتدرّس مناهج غير مصرية، وقد تصل مصاريفها لمئات الآلاف من الجنيهات في العام الواحد.
الحيرة أو رحلة البحث عن مدرسة تقبل أبناء المطلقات، لم تخضها أماني وحدها، فهناك العديد من الأمهات المصريات يعانين نفس الأزمة، في وقت بات الطلاق ظاهرة بين الأجيال الأصغر سناً، حتى وصل إلى ما يزيد على 20 ألف حالة طلاق في نهاية العام الماضي.
وكما أصبح الطلاق ظاهرة مجتمعية، بات رفض أبناء المطلقات في مقابلات المدارس الخاصة والقومية والدولية موضوعاً متكرراً، لا تصدر بصدده أية قرارات ملزمة تحفظ للأطفال حقوقهم في الحصول على الفرص التعليمية الجيدة. وهو ما تفسره نسويات ومحاميات، منهن لمياء لطفي، استشارية النوع الاجتماعي في مؤسسة المرأة الجديدة، بأنه "نوع من أنواع الوصاية المجتمعية والذكورية التي يروج لها المجتمع، انطلاقاً من الظن بأن المرأة لا يمكنها أن تكون بمفردها، لا بد أن يكون معها رجل للتحدث عنها".
تقول لطفي لرصيف22 إنها قابلت من خلال المؤسسة العديد من الحالات المشابهة، مضيفة أنه "يمكن تصور أن يظهر هذا الأمر في المدارس الخاصة والانترناشونال، ولكنه يمتد ليصل للمدارس الحكومية أيضاً".
وحكت لمياء تجربتها الشخصية في محاولة التقديم لنجلها بأحد المدارس التجريبية، والتي تتبع بطاقتها الشخصية، وحينها قدم الأب ورق الطفل، وتم رفضه لأن بطاقته لا تتبع نفس المنطقة، وبالرغم من تقديمه بطاقة زوجته لم يتم الاعتراف بها، وطلب منه في المدرسة تغيير محل سكنه في البطاقة، "حدث هذا قبل غلق موعد التقديم بـ48 ساعة. شرح الأب في المدرسة أننا منفصلان والطفل يعيش معي في محل إقامتي، ولكن كان هذا دون جدوى، فلم يتم الاعتراف ببطاقتي، برغم وجود زوجي وإعلانه موافقته على دخول نجله في المدرسة، وأصبح الحل أمام الأب إما تغيير محل إقامته في البطاقة، أو التحاق نجلي في مدرسة تتبع محل إقامة الأب، بالرغم من أنه يقيم معي".
أستاذة علم نفس معرفي: الحالة النفسية للطفل تتأثر بالرفض، أو تسجيله في سن متأخرة عن سن أقرانه، فيترتب على الأمر مشكلات نفسية، تصل إلى التبول الليلي والانطواء والعناد، وصعوبة التركيز أو التحصيل الدراسي
ومن الخاص للعام، تؤكد لطفي أن هذا الأمر مكرر. وبجانب تأكيده على تهميش دور النساء، واعتبار الطلاق جريمة تعاقب عليها الأم، يُحرم الأطفال من فرص تعليمية بسبب انفصال الأبوين، وهو ما أكدته الدكتورة مي الرخاوي، استشارية علم نفس الطفل، التي أوضحت أن "تبعات هذا الأمر قاسية على الطفل".
أطفال تحت المجهر
ترفض الرخاوي في حديثها لرصيف22 مقابلات المدارس من الأساس، كونها تضع الطفل تحت ضغط، كما أن تعرضه للرفض بسبب انفصال أبويه، يهدد علاقته بهما، ويصبح شعور الخوف والقلق عنده مركباً، فالخوف في البداية من تجربة المقابلة الشخصية، يزيد عليه الخوف والقلق من رفضه لدخول مدرسة لظروف لا دخل له بها.
وتؤكد الرخاوي أن تأثر الأطفال يرجع لسماتهم الشخصية، التي تختلف من طفل للأخر ومدى تأثرهم بالموقف، فهناك أطفال يعانون من السمات الانغلاقية كالخجل أو عدم الميل للاجتماعيات، وهم يتأثرون أكثر من غيرهم، وربما يصل الأمر لصدمة تصيبهم عقب تلك المواقف.
سمر علي* تعمل في إحدى مدارس الراهبات المعروفة، تقول لرصيف22 إنه لا توجد تعليمات كتابية برفض أطفال المطلقات، فمع وجود ولاية تعليمية أو حضور الأب والأم، يصبح الطفل مؤهلاً عند تجاوز المقابلة الشخصية للالتحاق بالمدرسة، ولكن ما يتم عكس ذلك، فهناك تعليمات شفاهية تصدرها مديرة المدرسة، برفض أطفال المطلقين، حتى مع وجود الولاية التعليمية أو وجود الوالدين إلا بنسب قليلة، مبررة الأمر "لأنها لا ترغب في المشاكل".
وبالرغم من أن المقابلة الشخصية في المدرسة التي تعمل بها سمر تتم على مرحلتين، الأولى للطفل، والثانية للأهل، إلا أن تجاوزها لا يشترط قبول الطفل "المديرة تخاف من الخلافات بين المطلقين، وتخشى من تأثير تلك الخلافات على المدرسة وعلى سمعتها، ولا يمكننا التصرف دون العودة لها أو موافقتها، وعلى مدار عملي منذ أربع سنوات في المدرسة، لا تتعدى نسبة الأطفال المقبولين لوالدين منفصلين بالمدرسة سوى 10%".
وبجانب الخوف من الشجار مثل رغبة الأب في رؤية الطفل في غياب الأم أو العكس، تخشى المدارس الخاصة من عدم استطاعة الأسر المنفصلة استكمال المصاريف، وفقاً لما أكدته سمر لرصيف22.
في عام 2017، أصدر وزير التربية والتعليم طارق شوقي الكتاب الدوري رقم (29) بشأن الضوابط الحاكمة في حال وجود نزاع بين الوالدين خاص بالولاية التعليمية، وأشار الكتاب إلى أن الولاية التعليمية تكون للأب في حال قيام العلاقة الزوجية، وتظل له في حال وجود نزاع على الحضانة أو الولاية التعليمية، وفي "حال انقضاء العلاقة الزوجية، تكون الولاية التعليمية للحاضن، دون حاجة لصدور حكم قضائي بذلك، حيث إن الولاية التعليمية ثابتة بقوة القانون"، كما أنه "لا يسري حق الحاضن في الولاية التعليمية إلا بعد تمام إعلان المدرسة أو الإدارة أو المديرية التعليمية المختصة، بانتهاء العلاقة الزوجية وإرفاق ما يفيد ذلك. وعلى مدير الإدارة التعليمية المختص إصدار قرار بتمكين الحاضن من الولاية التعليمية، بمجرد ورورد الإعلان بذلك".
لكن الواقع العملي يحرم الطفل من فرص التعلم في مدارس ربما تكون قريبة من مربعه السكني، أو مناسبة لمستواه الاجتماعي، ولكن تلك الشروط التي تتم شفاهة دون تعليمات من وزارة التربية والتعليم، تحرم الأطفال من الفرص التعليمية، وتجعل الأسر تبحث عن فرص أخرى ربما تكبد الطفل صعاباً أكثر.
ترى الدكتورة مي الرخاوي أن لجوء الأسر إلى إلحاق أبنائها في مدارس بعيدة عن النطاق السكني، بعد رفض المدارس القريبة، يؤثر على الطفل بدنياً وذهنياً.
وتتفق معها دينا محمود، أستاذة علم النفس المعرفي في جامعة القاهرة، التي تؤكد أن الحالة النفسية للطفل تتأثر بالرفض، أو تسجيله في سن متأخرة عن سن أقرانه، فيترتب على الأمر مشكلات نفسية، تصل إلى التبول الليلي والانطواء والعناد، وصعوبة التركيز أو التحصيل الدراسي.
-----------------
(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...