حمام سباحة يتوسط حديقة علوية "روف جاردن"، لمبنى ذي واجهة فخمة تُحيط مدخله مساحات خضراء. ليس هذا وصفاً لمول في مجمع سكني، أو إعلاناً لأحد الفنادق الفاخرة المُطلّة على النيل. بل هي الصورة الجديدة لذلك المكان القديم، الذي ظل منذ نشأته علامة على الدولة وحضورها في كافة التفاصيل المتصلة بحياة الساكنين على أرضها، في قلب أكبر وأهم ميادينها، إنه مجمع التحرير .
هذه الصورة الجديدة كشفت عنها وزارة التخطيط، في إطار الإعلان عن تحول المجمع إلى فندق فاخر يضاف إلى مجموعة الفنادق الفاخرة في وسط القاهرة، بعد عمليات تجميل استثمارية تجري وفق اتفاقيات انعقدت في ديسمبر/ كانون الأول 2021؛ كي يليق المجمع القديم بسياسات جديدة، أزالت عنه صفة "النفع العام" لصالح ربح سيؤول إلى صندوق مصر السيادي.
لكن، على الرغم من تحولاته، يبقى المجمع كما كان دوماً: نموذجاً مُصغراً لمصر في مختلف عصورها، وما تشهده من تحولات في أنماط السيطرة وعلاقات القوة بين الدولة ومواطنيها، والباحثين عن مزيد من الثروة فيها. والتاريخ حي، يشهد ويوثّق...
على الرغم من تحولاته العديدة، يبقى مجمع التحرير كما كان دوماً: نموذجاً مُصغراً لمصر في مختلف عصورها، وما تشهده من تحولات في أنماط السيطرة وعلاقات القوة بين الدولة ومواطنيها، والباحثين عن مزيد من الثروة فيها. والتاريخ حي، يشهد ويوثّق...
من الملك إلى ناصر
بدأ المُجمّع بقرار من الملك فاروق في أواخر الأربعينيات؛ واختير المهندس كمال إسماعيل مدير مصلحة المباني الأميرية العائد بدكتوراة في العمارة الإسلامية من فرنسا، ليصمم المبنى على مساحة تكفي مصالح مصر الحكومية التي تجاورت داخله، وقد اتخذ شكل قوس، بلا زوايا أو أطراف حادة، ما يتفق مع عمارة الميادين، لكن الشكل المختار سرعان ما ارتبط بطبيعة العمل داخل المجمع: ملتف وغير واضح أو مُحدد البداية والنهاية.
في ذلك العصر، كانت جغرافيا المكان مختلفة. ففي الميدان الذي حمل اسم الخديوي إسماعيل، كان موضع سرايا "الإسماعيلية الصغرى"، التي أراد الملك فاروق استغلالها بعد جلاء الجيش الإنجليزي عنها؛ فصارت من نصيب الحكومة، وبدأ بناء المجمّع عليها في العام 1951، بإشراف المهندس كمال إسماعيل وتنفيذ شركة إيجيكو المصرية.
كانت التكلفة كبيرة بأرقام ذلك العهد، إذ بلغت 2 مليون جنيه، امتد المجمع بها على مساحة 28 ألف متر، بارتفاع 55 متراً مُقسّمة إلى 14 طابقاً، يضموا 1356 حجرة، تضم بدورها مكاتب لـ27 جهة حكومية.
لكن، بعد 1952، انتهى حكم فاروق لمصر الملكية وزال اسم إسماعيل عن قلب عاصمة "الجمهورية"، وتشارك المبنى والميدان اسم جديد هو "التحرير"؛ وآل إنجازه إلى مَن افتتحه بعد يوليو 1952، وهو جمال عبد الناصر؛ لينضم إلى ما ارتبط بحقبته من "إنجازات".
وعلى امتداد السنوات التالية، سواء في عهده أو عهد خلفه، السادات، خطا المجمّع - الذي احتسب خطاً على إنجازات عبدالناصر- سنواته الأولى بموظفين بدأ عددهم يتكاثر بتكاثر ما حواه من إدارات، باتت علامة على الترهل الإداري والتعقيد البيروقراطي الذي بات يسم الجمهورية الوليدة. ومع الوقت، أصبح المجمع جهة حيوية، ليس فقط لطبيعة العمل به أو للميدان الذي يُطّل عليه، بل ولما جاوره من مبانى كان أحدها مقرّ جسم السيطرة الاجتماعية للحكم، الاتحاد الاشتراكي الذي بات بعد سنوات قليلة "الحزب الوطني الديمقراطي".
على امتداد السنوات التالية، خطا المجمّع - الذي احتسب خطاً على إنجازات عبدالناصر- سنواته الأولى بموظفين بدأ عددهم يتكاثر بتكاثر ما حواه من إدارات، باتت علامة على الترهل الإداري والتعقيد البيروقراطي الذي بات يسم الجمهورية الوليدة
عقود الثبات
خلف السادات رئيس آخر هو محمد حسني مبارك، لتبدأ اعتباراً من أوائل الثمانينات ثلاث عقود من الثبات، الذي انعكس على العديد من المسؤولين والسياسات، بل وطال حتى المؤسسات ومنها المجمّع؛ فصارت له سمعة بيروقراطية، عززها ما يتردد عنه، شعبياً، بل وفنياً.
أسماء مكتوبة بطريق عشوائية وخط غير منمّق على خلفية مبهمة إلّا من بعض ملامح لأجساد تجري يمين وشمال، هكذا بدأ فيلم الإرهاب والكباب بتتر عشوائي، تماماً كالمُجمّع وازدحامه وغموض دهاليزه، بين الغرف التي تتطلب توجيه عشرات الأسئلة حتى تصل مقصدك بينها.
أنتج الفيلم في بدايات التسعينات، وقد ثبّت مبارك أقدامه، واستطاع صُنَّاعه أن يرسموا صورة لحال المجمّع، ومن الباطن مصر، وما أصابهما من ثبات حدّ الشلل، بدا ذلك من أول المشاهد بطابور طويل لمواطنين يمهّد لما هو آت من قصص وحكايات بين زحام يخنق البطل، تماماً كالروتين الذي يواجهه، أثناء محاولاته إنهاء معاملات حكومية ظن أنها بسيطة.
في مجمّع الفيلم، كما في مجمّع الحقيقة، كان الوضع كما في مصر التي رآها المؤلف وحيد حامد: موظفون يحيل كل منهم المواطن للآخر، ينقسمون بين البرود ونفاذ الصبر والتدين الكاذب وعدم احترام قيمة العمل، كما لخّص أهمية ومركزية هذا المبنى في ردّ فعل الشرطي على "استيلاء إرهابيين عليه"، والذي بدا في قوله "ده المجمع فيه الحكومة والدولة كلها!".
وكان القول حقاً، في المركزية والثبات، حتى جاء الدور على الاثنين، مصر والمجمع، بثورة 25 يناير التي لم تخلع الحاكم من ثباته فحسب؛ بل وأنعشت الثابت الآخر- المجمّع- بدور جديد، حين صار شبه خالٍ من الموظفين أيام المظاهرات، لاسيما المصحوبة باشتباكات استمرت لسنوات، وتعرّض خلالها المبني الجاثم على صدر الميدان لآثار جانبية؛ انتهى بعضها إلى إجراء عمليات ترميم لواجهته عام 2012، بصفته "مبنى ذي طبيعة معمارية خاصة".
هوية ثورية
بدءً من 25 يناير 2011، حين ازدحم ميدان التحرير، كون ماجد*، أحد شباب الثورة، ذكريات خاصة مع المُجمّع، وقد صار بالنسبة له أحد معالمها، عكس ما شاهد في الفيلم أو كان يسمع من المحيطين. فأمام بوابته كان وأصدقائه يلتقون، وفي أيام الاعتصامات، كانت ساحته مقراً للمبيت.
لهذا، ينتاب الشاب الآن حزن ممزوج بغضب، وهو يرى ما سيحدث للمجمّع، باعتباره "استمرار في طمس تاريخ وهوية يناير وما ارتبط بها من ملامح، ومحو ذاكرة شعب، كما كان بمسح جرافيتي شارع محمد محمود"، وهو الأمر الذي تلاه الإعلان عن تجديد ميدان التحرير.
حزن ماجد ينصب على "الرمز" الذي بات في مخيلته للمجمع، وإن كان هو نفسه مَن تعامل معه- كمبنى حكومي- مرتين فقط بين عامي 2016 و2017، واصطدم مباشرة مع البيروقراطية والترهل اللذان لم يبدلهما "التحول الرقمي".
في المرّة الأولى، وكما يذكر الشاب "لم تأخذ مصلحتي 3 دقائق وانتهت، لكنني استغرقت قبلها 3 ساعات في البحث عن مكاتب وشبابيك أقف في طوابير أمامها، من دون السماح لي بالتقدم للسؤال، لأكتشف عندما يحين دوري- ولأكثر من مرّة- أنني أمام الشباك الخطأ".
كان قرار ماجد بعدها عدم دخول هذا المكان مرّة أخرى، وهو ما اضُطر للتراجع عنه لتأدية خدمة لصديق عربي رحل عن مصر. وحسبما يروي "طبق الأصل زي المرّة الأولى. وفي النهاية اتقال لي إن المعاملة مش هتخلص في المجمّع. وعلشان صديقي مايعتقدش إني بتهرّب أو ماروحتش المُجمّع؛ صوّرت له نفسي وسط الزحمة"، وهذه الأخيرة صار يرى أنه ممكن تجنّبها من الآن فصاعداً بفضل التطبيقات.
نظرة إماراتية
"مجمع التحرير... من عتم الأوراق إلى نور الحياة"، هكذا اختار موقع العين الإماراتي الاحتفاء بصفقة المجمّع، التي يتم الإشارة للفائز بها في غالبية وسائل الإعلام باعتباره: "تحالف أمريكي"، تشير المعلومات إلى أن شركة إماراتية لها نصيب الأسد فيه.
في تغطيتها، تحدّث العين الإماراتية عن المجمّع باعتباره أحد أسباب "العبء" على وسط القاهرة، مُشيراً إلى أنه "قد حان موعد تعميره وإحيائه"؛ وذلك "ليجلب بضائع استراتيجية عصرية"، وهذه الأخيرة هي التي وصفها بأنها "تزيد الربح، وتسرّ أعين الناظرين".
ويبدو أن هذه "البضائع الاستراتيجية" التي تحدّث عنها الموقع الإماراتي، هي ما تصبو إليه الحكومة المصرية، كما ظهر في حديث رئيسها المهندس مصطفى مدبولي، الذي أبدى تطلعه أثناء التوقيع لأن يكون هذا المشروع "نقطة البداية لمزيد من أعمال التحالف في مصر. باعتبار أن نجاح إعادة تأهيل واستغلال المجمّع؛ سيسرّع تنفيذ الخطة الحكومية الطموحة لتطوير واستغلال المباني الحكومية والتاريخية بالقاهرة".
إذن، هناك صفقات محتملة لمواقع أخرى، ربما يكون أحدها "المقرّ القديم لوزارة الداخلية، أو مقرّ الحزب الوطني المنحلّ"، أو غيرهما من ممتلكات للدولة، التي آلت إلى صندوق مصر السيادي بموجب القرار نفسه الذي أزال عنها جميعاً صفة النفع العام. هذا الطموح الخاص بسياسات ملكية الدولة، والذي تأسس عام 2018، وصار يستهدف "عقد كيانات اقتصادية عالمية".
ذاكرة بصرية
على الرغم من ضيقه ببيروقراطية المجمع التي اختبرها، إلا أن ماجد غير راض عن "خطة تطوير" المجمع ، مبرراً ضيقه بقوله: "ده مبنى له طابع معين. وكان ممكن الدولة تتعامل معاه بطريقة أفضل"، مستدركاً "لكن التعامل تم بمنطق المنفعة اللحظية". لكن شابة أخرى هي رضوى محمد*، سعت عندما قادتها الظروف إلى التعامل مع المجمع، إلى استئجار خدمات شركة خاصة تقيها "شر التعامل مع الطوابير"، تنظر إلى المجمع من بُعد آخر، وتقول "لما قريت الخبر فرحت إنه مش هيتهد. لأن أي مكان بيكون فيه كلام عن تطويره، غالباً بيبقى هيتهد؛ وده كان هيزعلني، لأنه جزء مهم من الذاكرة البصرية لوسط البلد".
الذاكرة البصرية بوسط البلد كما تدعوها رضوى، تشهد تغييرات كثيرة، لم تبدأ بالمجمّع الذي تعترف المواقع الإخبارية- وفي قلب خبر الصفقة نفسه- بأنه "تاريخي"، فقبله كان هناك المعلم الأبرز لوسط البلد وثورة يناير، ميدان التحرير، الذي أُدخلت عليه تعديلات كانت محلّ انتقادات لم يرض عنها حتى مؤيدو السلطات، وهم أنفسهم مَن يتعامل بعضهم الآن مع مشروع المجمّع باعتباره "يخلق قيمة مضافة لأصول الدولة".
تحفّظ الرئيس السيسي على الصورة التي رسمها "الإرهاب والكباب" لمكاتب المجمع وأروقته؛ تلك الصورة التي "جعلت المواطن والدولة خصمان" حسبما يرى. والآن، تختار الجمهورية الجديدة صورة جديدة تليق بها للمبنى العجوز، تستغل من خلالها إمكانياته في استخدامات "فندقية، وتجارية، وثقافية"؛ يودّع بها المجمع المواطنين، على أمل أن يصبح مقصداً سياحياً، ووجهة للمستثمرين.
--------
(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...