شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
جوائز البيروقراطية المصرية العتيقة... مَن لا يعرف يمنح مَن لا يستحق جوائز الدولة

جوائز البيروقراطية المصرية العتيقة... مَن لا يعرف يمنح مَن لا يستحق جوائز الدولة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 8 يونيو 202201:45 م

في السابع من حزيران/ يونيو، أعلنت وزيرة الثقافة المصرية أسماء الفائزين بجوائز الدولة: التفوق والتقديرية وجائزة النيل، في مجالات الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، إلى جانب جوائز تشجيعية تُعطى لأسماء كثيرة خاصة في مجال الفنون، في تخصصات فرعية، مثل الحفاظ المعماري والعمراني، التأليف السينمائي (السيناريو)، النحت في الخامات الصلبة، التصوير، رسم كتاب لطفل ما قبل المدرسة، التأليف المسرحي، الموال الشعبي (جمع وتوثيق)، والعزف على آلات النفخ الخشبي.

ومن أبرز الفائزين هذا العام بجائزة النيل الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد والمخرج داود عبد السيد، ونقيب المحامين الراحل رجائي عطية، ود. قيس العزاوي من العراق عن المبدعين العرب، وفي التقديرية: د. سعيد إسماعيل ود. يوسف نوفل ود. محمد أبو الفضل بدران، وفي التفوق الروائية ريم بسيوني، والمستشارة الراحلة تهاني الجبالي.

ومما يستوقفنا هنا أن جائزتين ذهبتا إلى شخصيتين فارقتا الحياة، وحُجبت جائزتان تشجيعيتان في كتابة السيناريو وعلوم الإدارة، وربما يكون لهذا الحجب دلالته الكبرى عمّا تعانيه مصر في الإنتاج السينمائي من حيث عدد الأفلام وقيمتها الفنية، وعمّا تعانيه في مجال الإدارة، وأولها هذا التشكيل الغريب للمجلس الذي يمنح هذه الجوائز نفسها.

مَن يمنح جوائز الدولة؟

تشكل المجلس الأعلى للثقافة في مصر بالقانون الذي أصدره رئيس الجمهورية برقم 138 لسنة 2017 بتاريخ 22/ 7/ 2017 بشأن إعادة تنظيم المجلس الأعلى للثقافة. وهو برئاسة وزير الثقافة، وعضوية وزراء: السياحة والتربية والتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي والآثار والشباب والرياضة، وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة، إلى جانب ممثلين عن وزارة الخارجية ووزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري والمجلس الأعلى للجامعات ورئيس اتحاد الكتاب ونقباء التشكيليين والمهن التمثيلية والمهن السينمائية والمهن الموسيقية، ورؤساء الهيئات الثقافية التابعة لوزارة الثقافة، ورؤساء القطاعات والبيوت الفنية التابعة للمجلس الأعلى للثقافة، بالإضافة إلى عدد من الأعضاء لا يزيد على 32 عضواً، يُختارون من بين المشتغلين بالثقافة والفنون والآداب، ويمثلون مختلف الأنشطة الثقافية.

ويُعَدّ المجلس هيئة عامة، تتمتع بالشخصية الاعتبارية، تتبع الوزير المختص بشؤون الثقافة، ومن ضمن مهامه: إصدار القرارات واللوائح الداخلية، والقرارات المتعلقة بالشؤون المالية والإدارية والفنية للهيئة، ووضع اللوائح المتعلقة بتعيين العاملين في الهيئة وترقيتهم ونقلهم وفصلهم وتحديد مرتباتهم وأجورهم ومكافآتهم، وذلك كله دون التقيد بالقواعد واللوائح الحكومية.

وإلى جانب الشخصيات الموجودة بحسب مواقعها الإدارية، يضم التشكيل الحالي للمجلس كلّاً من: أحمد عبد المعطي حجازي، د. أحمد مرسي، د. إسماعيل سراج الدين، السفير عبد الرؤوف الريدي، المخرج داوود عبد السيد، د. راجح داود، د. سيد التوني، د. صلاح فضل، د. علي الدين هلال، الشاعر فاروق جويدة، د. ليلى تكلا، الكاتب المسرحي محمد سلماوي، د. صبري الشبراوي، د. مراد وهبه، د. مصطفى الفقي، د. مجدى حجازي، د. سعد الدين هلالي، د. فتحي أبو عيانة، السفيرة مشيرة خطاب، نبيل عبد الفتاح، د. ممدوح الدماطي، د. نبال منيب، د. مصطفى الرزاز، والروائي يوسف القعيد.

جميع أعضاء المجلس –بأسمائهم وبمناصبهم- كان لهم حق التصويت قبل إصدار قانون عام 2017، وهو الأمر الذي كان يجعل كل المثقفين يشتكون من أن وزير الثقافة يوجه نتيجة الجائزة بأن يوعز لموظفيه -من رؤساء الهيئات والقطاعات- للتصويت للأسماء التي يريدها، لذلك راعى القانون الجديد منعهم، إلى جانب الوزراء ما عدا وزير الثقافة، من التصويت، والاكتفاء بالأعضاء بأسمائهم، والنقباء، وممثلي الوزارات الأخرى.

تصويت المجاملة

مبدئيّاً، فإن النقباء وممثلي الوزارات والهيئات الأعضاء، الذين تختارهم جهاتهم، ليسوا أفضل مَن في مجالاتهم، فالبيروقراطية المصرية العتيقة تلعب دوراً أساسيّاً في اختيار المرضي عنهم، أو –في أفضل الحالات- تدوير المرشحين باعتبار أن حضور الجلسات له مقابل مادي يسعى كثيرون للحصول عليه، بصرف النظر عن نوعية مهام المجلس واحتياجه إلى مؤهلين للقيام بها. وهذا التدوير يحدث مثله في اختيار المستشارين الثقافيين في السفارات المصرية في الخارج، الذين يُختارون من بين أساتذة الجامعات بصرف النظر عن اهتمامهم بالثقافة.

"حال جوائز الدولة في مصر تعكس واقعاً أليماً... يحدث هذا بينما نجحت دول عربية أخرى، أهمها دول الخليج، في إقامة فعاليات مهمة، تُدار بطرق احتفالية مصاحَبَة بتغطيات إعلامية ضخمة، ساحبةً البساط من مصر"

النقطة الثانية التي لا تقل أهمية أن هذا التنوع الكبير يجعل عدد أعضاء المجلس الذين لهم علاقة مباشرة بالإنتاج الأدبي –على سبيل المثال، من شعر وقصة ونقد أدبي- قليلين جدّاً، لا يتجاوز أربعة أو خمسة أعضاء، وبالتالي فحين تُطرح أسماء المرشحين لنيل جوائز الأدب، تستعين الغالبية الكاسحة من أعضاء المجلس بهؤلاء الأربعة، الذين لهم انتماءاتهم بالتأكيد، ولهم مصالحهم أيضاً. فمثلاً سيسعى رئيس اتحاد الكتاب للتصويت لمصلحة الأعضاء الذين رشحهم الاتحاد نفسه، وسيعمل على استمالة الآخرين بقدر الإمكان للتصويت لهم، وقد ينجح بالفعل، بصرف النظر عن جدارة مرشح الاتحاد وأحقيته عن منافسيه.

الشيء نفسه يحدث في مجالات الفنون، فنقيب السينمائيين سيعمل على إنجاح مرشحي نقابته، وكذلك نقيب الموسيقيين والتشكيليين، إلخ. ولا نعرف في هذه "الهيصة" ما الذي يمكن أن يفعله ممثلو الوزارات، والشخصيات العامة التي لا علاقة لها بالفنون والآداب.

النقطة الأخيرة التي لا يجب أن تفوت المتابع أن نسبة ليست ضئيلة من هذه الجوائز تُمنح لاعتبارات ليس لها علاقة بالكفاءة، كأن تمنح لمريض يحتاج إلى القيمة المالية للعلاج، في دولة لا توفّر الحد الأدنى من الرعاية الصحية المحترمة، أو تمنح لمُتوفَّى، كالاسمين اللذين ذكرتهما، أو تمنح لأحد أعضاء المجلس نفسه بسيف الحياء، وفي هذه الحالة يخرج المرشح أثناء التصويت "كده وكده" بعد أن يربِّط مع زملائه.

لكن أغرب حالات منح الجائزة بالواسطة كانت حين حصل د. محمد صابر عرب (1948، أستاذ تاريخ العرب الحديث في جامعة الأزهر) على الجائزة التقديرية عام 2012، في العلوم الاجتماعية. فقد كان عرب وزيراً للثقافة وبالتالي رئيساً للمجلس الذي يمنح الجائزة، لذلك تقدم باستقالته لرئيس الوزراء –حينها- كمال الجنزوري، قبل موعد الاجتماع بأيام قليلة، فأصدر الجنزوري قراراً بتكليف د. محمد إبراهيم وزير الآثار بتسيير أعمال وزارة الثقافة، وبعد أن مُنح الجائزة، عاد وزيراً للثقافة (عادي!) في التشكيل الجديد.

الجوائز الأدبية ومركزية الثقافة العربية

هذا الواقع الأليم الذي يعكس حال جوائز الدولة في مصر ليس سوى مثال للإدارة الثقافية بشكل عام. يمكن ملاحظة شبيهه أو أسوأ منه في النشاطات الثقافية الأخرى، سواء التي تقيمها وزارة الثقافة أو المؤسسات الثقافية شبه الرسمية والخاصة، مثل النشر والمؤتمرات والمهرجانات الشعرية والسينمائية والفنون الشعبية... يحدث هذا في مصر بينما نجحت دول عربية أخرى، أهمها دول الخليج، في إقامة فعاليات مهمة، تُدار بطرق احتفالية مصاحَبَة بتغطيات إعلامية ضخمة، ساحبةً البساط من مصر، التي ظلت مركزاً للثقافة العربية سنوات طوال.

"لا يليق على الإطلاق أن يكون العمل الثقافي واقعاً تحت ضغط العمل البيروقراطي بكل مشكلاته المعروفة"

ففي مجال الجوائز –فقط- نجد أن دولة الإمارات تمنح الجائزة العالمية للرواية العربية بوصفها "جائزة البوكر العربية"، وجائزة الشيخ زايد للكتاب، وتمنح دولة قطر جائزة كتارا للرواية العربية. وفضلاً عن القيمة المالية الضخمة لهذه الجوائز، فإن الدولتين تشكل لكل منها مجلس أمناء مصغر ومتخصص، ثم تُصدر قائمة طويلة من 15 رواية، ثم قائمة قصيرة من خمس أو ست روايات، تمهيداً لإعلان الفائز كل عام، وهذا يجعل الصحافة الثقافية العربية مشغولة بهذه الأحداث، والعيون معلقة بالمؤسسات والدول المانحة.

وإلى جانب هذه الجوائز الرسمية، هناك جوائز خاصة مثل العويس والبابطين، وغيرهما، وكلها تجلب متخصصين بالكامل لأعمال التحكيم. وإنْ كان الأمر لا يخلو من تلاعب أحياناً، إلا أن ما يهمني التركيز عليه هنا هو أن هذه الجوائز ربطت المبدعين العرب في كل مكان بها، وأصبح التنافس عليها كبيراً بين المتميزين منهم ودور النشر العامة والخاصة.

إنشاء جائزة مصرية مستقلة

ولأنه لا يليق بدولة كبيرة في محيطها، مثل مصر، أن تتراجع ثقافيّاً بهذا الشكل، بحيث لا يمكن مقارنة جائزة الرواية التي تمنحها كل عامين لمصري وعربي بالتبادل، بجوائز الإمارات وقطر، من حيث القيمة والأهمية والتركيز الإعلامي والتنافس، إلخ، ولأن مصر تستطيع، أقترح على وزيرة الثقافة المصرية الدكتورة إيناس عبد الدايم إنشاء جائزة كبرى، للرواية مثلاً، أو للرواية والشعر معاً، أو بالتبادل، قيمتها 50 ألف دولار، على أن يُشكَّل لها مجلس أمناء مصغر، من خمسة أدباء ونقاد معتبرين، يكون مستقلاً عن الوزارة نفسها، ولا عمل له إلا تلقي الأعمال وتشكيل لجان الفحص وإعلان الجائزة، على أن تتولى الوزارة تغطية النفقات.

أدرك أن البيروقراطية المصرية العتيقة تعيق استقلال أي مؤسسة عن الدولاب الحكومي، وأدرك أيضاً أن المثقف المصري يَرْسَخُ في يقينه أنه جزء من كيان الدولة يصعب أن يستقل هو نفسه عنها بالشكل المأمول، لكن لا بأس من المحاولة، وإصدار قانون يحصِّن هذا المجلس المصغر، ويعطيه صلاحيات الاستعانة بمَن يريد وقتما يشاء، وأثق أن النتيجة ستكون ممتازة ودافعة للثقافة المصرية، بحيث تحتل المكان الذي يليق بها وبتاريخها، وهو مثال يمكن تعميمه في المجالات الأخرى، فلا يليق على الإطلاق أن يكون العمل الثقافي واقعاً تحت ضغط العمل البيروقراطي بكل مشكلاته المعروفة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image