عاشت الآثار المصرية آلاف السنين تحافظ على وجودها، وتحمل بين جدرانها عبقرية المصري القديم، الذي ربما لم يضع في حساباته مقدار قدرة ما شيّده على الصمود دائماً، خاصةً أمام موجة التغيرات المناخية المفاجئة، التي تضع اليوم تراث العديد من البلدان، وبينها مصر، أمام تهديدات خطيرة سواء بالانهيار أو التلف الذي يمكنه أن يتخطى حدود الزمان والمكان.
فما هي المعالم الأثرية المهددة في مصر؟ وما هي الجهود التي تبذلها مختلف الجهات لحماية الآثار؟
تهديدات تواجه الآثار المصرية
يقول علي يحيى، باحث أثري ومحاضر في متحف الإسكندرية القومي، لرصيف22، إنه خلال المئة عام القادمة، ستشهد الآثار المصرية أسوأ مرحلة، بفعل ارتفاع درجات الحرارة في جميع فصول السنة، لتكون آثار محافظات الجنوب المتضرر الأول من موجة التغيرات المناخية.
خلال المئة عام القادمة، ستشهد الآثار المصرية أسوأ مرحلة، بفعل ارتفاع درجات الحرارة.
وضرب المتحدث مثالاً على تأثير التغير المناخي في تآكل أحجار مقبرة طيبة على الضفة الغربية للنيل، كما أشار إلى تآكل بعض المصاطب العليا لأهرامات الجيزة، ومن ضمن المناطق الأثرية المهددة منطقة صان الحجر في محافظة الشرقية، ومنطقة تل بسطة في محافظة المنوفية، ومنطقة بهبيت الحجارة في محافظة الغربية.
ويضيف: "نحن الآن نعمل وفق إستراتيجية التصدي للتغيرات المناخية، ووزارة السياحة والآثار المصرية مهتمة بهذا الملف، لكننا بحاجة إلى الاستعانة بخبراء في هذه الأمور، بحيث تكون نتائج التعاون مثمرةً في الحفاظ على هويتنا المصرية إزاء ظاهرة طبيعية تواجه كل دول العالم".
وتُعتبر كل محافظات إقليم الدلتا الذي يتكون من الغربية والدقهلية ودمياط وكفر الشيخ والمنوفية الإسكندرية والبحيرة والقليوبية وبورسعيد والشرقية، عرضةً لتهديدات عوامل التغيرات المناخية التي قد تتسبب في غرق الدلتا تحت سطح البحر أو غرقها بمياه الأمطار، وذلك يعود إلى ذوبان الجليد، وما يترتب عليه من زيادة منسوب مياه البحار.
وبحسب دراسة علمية قدمها عبد العزيز سالم، أستاذ الآثار الإسلامية في جامعة القاهرة، استعرض فيها أبرز المخاطر التي تهدد بقاء الآثار المصرية باختلاف جميع العصور التي تنتمي إليها، لفت إلى تلف المواقع الأثرية القديمة بفعل زيادة نسبة الرطوبة في التربة وزيادة تجمع الأملاح، بالإضافة إلى تدمير المدن التاريخية بسبب ضعف شبكات تصريف مياه الأمطار.
كما أكدت الدراسة أن محافظات صعيد مصر الواقعة بالقرب من نهر النيل والمدن الساحلية جميعها عرضة للمخاطر، إلى جانب تعرض المواقع الأثرية الموجودة في باطن الأرض، أي غير المكتشفة، إلى التآكل والتدمير، خلال فترات الجفاف المتوقع حدوثها في دورات الفترات المطيرة.
تُعتبر كل محافظات إقليم الدلتا الذي يتكون من الغربية والدقهلية ودمياط وكفر الشيخ والمنوفية الإسكندرية والبحيرة والقليوبية وبورسعيد والشرقية، عرضةً لتهديدات عوامل التغيرات المناخية التي قد تتسبب في غرق الدلتا تحت سطح البحر أو غرقها بمياه الأمطار
تكيّف منذ القدم
"تأثرت الحضارة المصرية القديمة بالتغيرات المناخية، ولعبت العوامل البيئية دوراً مهماً في تطور حياة المصري القديم الذي عاش فوق الهضبة الشرقية هرباً من الأمطار، وعندما بدأت تجفّ ويتوقف معها نمو النباتات، هبط إلى الوادي بحثاً عن الطعام وعمل في الزراعة. لم تكن في مصر غابات، لذا كانت تخوض الحروب للسيطرة على منابع الأخشاب في الدول المجاورة. لعب التغير المناخي دوراً بالغاً في شكل الاقتصاد المصري، وفي نظام الحكم وحتى في ملابس القدماء المصريين".
بهذه الكلمات بدأ الدكتور مجدي شاكر، كبير الآثاريين في مصر، حديثه إلى رصيف22، مضيفاً أن المصري القديم كان يراعي المناخ والتغيرات الخاصة به عند بناء بيته، لذا صنعه من مواد صديقة للبيئة، سواء الطوب اللبن أو الخشب أو جذوع النخيل، وقد بنى مقابره في الصحراء بعيداً عن الرقعة الزراعية للمحافظة عليها، وحتى يحافظ على النيل، كما أن التغيرات المناخية التي كانت تحدث في بلاد الشرق الأوسط وآسيا سببت هجرات ومحاولات غزو بسبب الجفاف، مما دفع بالمصري القديم إلى الدخول في حروب لطرد الغزاة.
وتناول كبير الآثاريين موجات الجفاف العديدة التي تعرّض لها نهر النيل، ووُثّقت في "لوحة المجاعة" في جزيرة سهيل غرب أسوان، وقد نتج عنها انخفاض في منسوب المياه مما أحدث ثورات اجتماعيةً بعد وفاة كثيرين، وتغير النظرة إلى الحاكم والمعبود بسبب عدم قدرتهم على فعل أي شيء عندما جفّ النيل، وفي عهد سونسرت الثالث شرعت مصر في تأسيس نقاط تفتيش لتحسين عملية توزيع المياه بعد حدوث مجاعة جديدة تمت السيطرة عليها من خلال بناء سد اللاهون في الفيوم، وفي عهد الملك أحمس حدثت تغيرات مناخية سيئة مسجلة في لوحة العاصفة، والتي توضح أن النيل تحول إلى اللون الأحمر.
يؤكد كبير الآثاريين أن عوامل التغير المناخي أثّرت على مدن المصريين القدماء وعواصمهم التي بنوها بالطوب واللبن، مثل مدينة اللاهون في الفيوم ومدينة العمارنة في المنيا، ومدينة بر رمسيس التي بناها الملك رمسيس الثاني لزوجته الملكة نفرتاري، وقد أنشأها على الفرع البيلوزي لنهر النيل، لكن بفعل التغيرات المناخية اختفى هذا الفرع وجفت المياه وفقدت العاصمة دورها، ثم جاء اختفاء مدينة الواحات بسبب الجفاف وقلة الأمطار والرياح الشديدة وارتفاع درجة الحرارة.
لعبت العوامل البيئية دوراً مهماً في تطور حياة المصري القديم.
خسائر ومكاسب
تكلم الدكتور أحمد بدران، أستاذ الآثار المصرية في جامعة القاهرة، عن أثر التغيرات المناخية والعوامل البيئية على الآثار المكشوفة، مستشهداً بالنحر الذي حدث لتمثال أبو الهول في عنقه، وإن كان اكتشاف التمثال نفسه الذي حدث عام 1905 قد وقع نتيجة العوامل الجوية إذ أزالت الرياح جزءاً من الرمال التي كانت تغطي وجهه، وأكمل بعد ذلك الآثاريون مهمتهم في الكشف الكامل عن التمثال.
كما أشار بدران لرصيف22، إلى تأثر التكوين المعماري في قلعة قايتباي في الإسكندرية بسبب ارتفاع منسوب المياه في البحر المتوسط، ما أدى إلى سقوط بعض الكتل الحجرية في البحر، ولهذا بُنيت مصدّات للأمواج وارتفاع المياه، ورُممت القلعة.
وكانت العوامل البيئية قد تسببت في خسارة مصر لمدينة هيرقليون القديمة التي تأسست على الحجر الجيري في الإسكندرية، وتعرضت لزلزال شديد أشبه بإعصار تسونامي، كان سبباً في غرق المدينة بالكامل، ولهذا نسمع دوماً عبارة أن "نصف الإسكندرية تحت المياه".
جهود لحماية الآثار المصرية
تحدث بدران عن الجهود التي تبذلها وزارة السياحة والآثار، والتي تتمثل في صيانةٍ وترميمٍ دوريَين للأماكن الأثرية المصابة، فيما أشار إلى مؤتمر المناخ الذي تستضيفه مصر في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، ليناقش التغيرات المناخية، بما فيها تأثيرها على الآثار والتراث، وفيه يأمل بدران بوضع حلول لكافة المشكلات التي تتعرض لها الآثار بفعل التغير المناخي أو التي قد تتعرض لها مستقبلاً. ويضيف: "ربما يصاحب هذا المؤتمر افتتاح المتحف المصري الكبير، ليتزامن مع الذكرى المئوية لاكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون، ومرور 200 عام على فك رموز اللغة المصرية القديمة".
يحاول مسؤولو ترميم الآثار في مصر بشكل مستمر مواكبة أحدث التقنيات، مما يدفعهم إلى استخدام مواد وتقنيات ترميم حديثة، ومن ضمنها تقنية النانو وتقنية الليزر وتقنيات الأنزيمات في عمليات التنظيف
بدوره، تحدث عويس عبده، رئيس قسم الترميم في إدارة ترميم آثار الأقصر، إلى رصيف22، عن عوامل التغير المناخي التي تؤثر سلباً على الآثار المصرية، وأكد أن الترميمات والصيانة للمناطق والمواقع والقطع الأثرية تندرج ضمن جهود الدولة للحفاظ على الآثار.
ويقول: "يحاول مسؤولو ترميم الآثار في مصر بشكل مستمر مواكبة أحدث التقنيات، مما يدفعهم إلى استخدام مواد وتقنيات ترميم حديثة، ومن ضمنها تقنية النانو وتقنية الليزر وتقنيات الأنزيمات في عمليات التنظيف".
وبحسب عبده، فإن مظاهر التلف التي قد يتعرض لها الأثر بفعل التغيرات المناخية تتمثل في الشروخ والتفكك، وانفصال طبقات اللون، وهنا تكون مهمة المرمم الأثري محاولة تقوية قشرة اللون وإعادتها إلى الأصل مرةً أخرى حتى لا تسقط.
ويؤكد أن الآثار الفرعونية لها مواثيق دولية في عمليات الترميم والصيانة مثل ميثاق فينيسيا 1964، ولها ضوابط محددة في الترميم: "يمكن التدخل من أجل التجميل في حالة واحدة، وهي عند حدوث انهيار كامل للأثر"، لافتاً إلى إمكانية التجميل عند ترميم الآثار الإسلامية أو القبطية.
مظاهر التلف التي قد يتعرض لها الأثر بفعل التغيرات المناخية تتمثل في الشروخ والتفكك وانفصال طبقات اللون.
كما يُعدّ معبد إيزيس الواقع على جزيرة فيلة في أسوان، أحد المعابد التي كانت مهددةً بالانهيار، بسبب تكوينه من الحجر الرملي وانخفاضه عن سطح الأرض، فتراكمت المياه الجوفية في داخله وظهرت تأثيرات واضحة على السور المحيط به، مما جعله عرضةً للانهيار، وبفضل عمليات الصيانة أُنقذ المعبد وافتُتح أمام الزوار في منتصف كانون الثاني/ يناير من العام الماضي.
ومن الجهود المبذولة أيضاً للحفاظ على الآثار المصرية من التأثيرات السلبية للمناخ الموازي الذي يسببه البشر، مثل الانبعاث الحراري وعوادم السيارات والتزاحم المسبب لتزايد غاز ثاني أكسيد الكربون، يتحدث ماجد الراهب، وهو رئيس جمعية "المحافظة على التراث المصري"، لرصيف22، عن تحديد عدد زوار قاعات المتاحف بحدود معيّنة، مثل قاعة توت عنخ آمون في المتحف المصري، ومنع دخول السيارات التي تُخرج عادماً، والسماح فقط بدخول السيارات الكهربائية، ويضرب مثالاً منطقة الهرم التي تأثرت بشكل سلبي بسبب عوادم السيارات إذ نجد الكثير من الأجزاء داخل منطقة الأهرامات تتعرض للتآكل.
وتعمل جمعية المحافظة على التراث المصري، التي تأسست عام 2006، على إطلاق رحلات مختلفة داخل محافظات مصر خاصةً ضمن الأماكن الأثرية، وعند ملاحظة أي علامة تلف يتم الإبلاغ عنها على الفور للجهات المسؤولة، كذلك عند ملاحظة منطقة أثرية معرضة لعوادم السيارات والأتربة يتم الإبلاغ عنها.
مثلما كانت التغيرات المناخية سر اكتشاف المصري القديم للحياة وقيام حضارته، كانت أيضاً سبباً في نهايته وربما تكون سبباً في نهاية تراثه، إذا لم يتم الحفاظ عليه من أضرار العوامل المناخية. فهل يستطيع الحفيد المصري حماية إرث أجداده القدماء؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...