في روايته "تغريبة بني حتحوت" يحكي الكاتب المصري مجيد طوبيا قصة المراكبي الصعيدي الذي يهرب من محاولة قتله في عصر المماليك، ويركب النهر ويتجه مرة للشمال وأخرى للجنوب، ويقوده القدر لاستكشاف مصر بدءاً من منابع النيل وبحيرة "أكروي" العظيمة، التي أطلق عليها الانجليز اسم ملكتهم "فيكتوريا".
ويصبح في النهاية بطل روايته، أول رحالة يكتشف منابع النهر.
الرواية خيالية بالطبع، لكن في الحقيقة أن أول رحالة مصري يذكره التاريخ هو حرخوف من الأسرة السادسة الفرعونية، الذي استطاع أن يحفر اسمه في التاريخ الإنساني، بكونه من أوائل المصريين الذين اكتشفوا عوالم إفريقيا المجهولة، ومن بعده جال آلاف الرحالة في أرض مصر ومدنها وسواحلها وصحرائها.
حكاية "الرسول"
مكنت السوشال ميديا حديثاً مصريين آخرين من أن يؤدوا دورهم كرحالة ومستكشفين لبلادهم، هكذا حلم ياسر مصطفى الرسول (المستكشف المصري كما يلقب) لنفسه، فحقق كثيراً مما طمح إليه.
"اسمي ياسر مصطفى الرسول، أوشكت على نهاية الأربعينات، التي قضيت أكثرها في السفر والترحال في أرض مصر الساحرة، وأخلصت للسفر والاستكشاف، ولم أشبع منه قط، ومن يشبع من الجمال والسحر؟". هكذا قدم ياسر نفسه ويحب اسم "الرسول"، إذ يراه معبراً عن شخصيته، التي آثرت أن تكون مبشرة بـ"جمال وسحر مصر"، أسوة بحرخوف والمراكبي الصعيدي.
يقود ياسر مجموعة من محبي الاستكشاف والمغامرة في مصر وسيناء، يقول: "صار للاستكشاف والمغامرة عشاق بين الشباب".
عن بداياته، يحكي: "كنت أحمل حقيبتي وأنتظر وحدي في القطار المتجه إلى أسوان، في ليلة شتوية على رصيف محطة قطار رمسيس، أتسلح فقط بكاميرتي العتيقة والفضول اللذيذ. لا أعرف ما سينتظرني وإلى أين سيأخذني فضولي والنصيب، في رحلتي الاستكشافية الأولى إلى بلاد النوبة".
ويتابع: "لم أكن أطيق الانتظار طوال أربع عشرة ساعة، حتى أصل أقصى جنوب مصر، "بلاد الذهب" التي عشقتها من خلال أغنيات أحمد منيب، وأثق في طيبة أهلها وأرضها ونخيلها. كان ذلك منذ أكثر من ربع قرن، قبل وجود الهواتف المحمولة أو الإنترنت وأجهزة تحديد الموقع GPS، لكني تركت المغامرة تحدد وجهتي، قادتني قدماي إلى بحيرة ناصر، و"جزيرة النباتات"، وحضرت فرحاً نوبياً في إحدى جزر النيل، وتعرفت على جزء أصيل من شعب مصر، والتقطت بعض الصور، لا يمكن نسيان متعة ودهشة أول رحلة لك".
أقسى ما كان يواجهه كرحالة مصري مستكشف في بلاده ليس الطقس، والمخاطرة الجسدية، ولكن تعامل السكان المحليين مع "الغرباء"، والتضييقات الأمنية، التي وصفها بـ"العبء الأكبر"
قبل تسعينيات القرن الماضي، لم يكن أحد من المصريين يعرف شيئاً تقريباً عن المحافظات الحدودية والواحات وصحرائها شرقاً وغرباً، سوى ما تقدمه وسائل الإعلام الرسمية، أو أفلام السينما القديمة، أماكن مثل نويبع، وحلايب وشلاتين، وسيوة، والصحراء البيضاء، كان يعرفها المستكشفون والمغامرون الأجانب فقط.
حتى ثورة الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011 كان يصعب السفر بحرية إلى الأماكن الحدودية المصرية، إن لم تكن في مهمة عمل، ما عدا ذلك غير مسموح لك بدخول بعض المحافظات والمدن.
كانت الإجراءات الأمنية معقدة، ويلزمك تصاريح خاصة لدخول مناطق مثل واحة سيوة، أو حلايب وشلاتين، أو حتى شرم الشيخ، التي كانت تفصلها عن المصريين أيام حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك عدة كمائن أمنية مشددة، وفي الغالب سيوقفك أحدها، ويمنعك من تكملة الطريق، ويعيدك من حيث جئت.
وقد تفاجأ المصريون بعد الثورة بجمال بلادهم وسواحلها وصحرائها وواحاتها، وسمعوا عن أماكن لم يسمعوا عنها.
يقول المستكشف ياسر لرصيف22: "كان من ضمن مكاسب الثورة حرية تنقل وسفر المصريين والتعرف على بلادهم، وزيادة الإقبال على السياحة الداخلية لأماكن جديدة. وأذكر انتشار صور وادي الوشواش بنويبع جنوب سيناء، وتعليقات المصريين عليها، كذلك صور قرية الشخلوبة في بحيرة البرلس، التي أفخر بكوني أول من وضع تلك القرية الصغيرة على خريطة السياحة المصرية، وقد اكتشفتها بالصدفة وأنا أتجول بمنطقة بحيرة البرلس، فرأيت من بعيد قرية صغيرة، وعرفت أنها قرية صيادين وفيها جزيرتان. لم يكن أحد من الغرباء يزورها، ولا يعرفون عادات أهلها وتقاليدهم، علماً أن حياتهم كلها مرتبطة بالبحيرة والصيد فقط، وقد نظمت لها ثلاث عشرة رحلة، ثم تكلمت كل وسائل الإعلام عنها".
كهف السباحين
منذ مئة عام كان أمير مصري شاب يجوب الصحراء الغربية في سيارته المجنزرة "ستروين"، لعدة أيام، يخيم في عرائها، ويصارع طقس الصحراء وحيواناتها البرية وزواحفها الخطيرة على حدود ليبيا، يدعمه فيها 500 جمل لحمل المؤن والوقود، لاستكشاف جزء مبهم من الأراضي المصرية، وفي النهاية وجد نفسه في مكان لم تدسه قدم، ربما لآلاف السنين.
يقول محمود عز الدين (39 عاماً)، مستكشف مصري آخر يعمل في سياحة الاستكشاف والمغامرة: "في كل مرة أصل فيها إلى هنا، أتذكر رحلة الأمير كمال الدين حسين لاستكشاف الصحراء الغربية، وكتابة اسمه في التاريخ باكتشاف هضبة الجلف الكبير في منطقة هضبة الجلف الكبير، وبحر الرمال الأعظم في جنوب شرقي الصحراء الغربية في مصر".
ويضيف: "أدخل كهف السباحين الذي شهد قصة الرواية الشهيرة 'المريض الإنجليزي' وأرى نقوش أجدادي منذ آلاف السنين. وفي وادي صورة وكف المستكاوي أكثر من ألفي صورة ونقش من إنسان ما قبل التاريخ".
ويتابع: "أحاول كل مرة تخيل إحساس الأمير المصري وهو يتجول آلاف الأميال في الصحراء ليصل إلى هنا، بالتأكيد مغامرته كانت ساحرة، وشاهد ما لم يشاهده أحد".
ويكمل عز الدين: "في 2006 اكتشف بريطانيان كهفاً جديداً في نفس المنطقة، أطلقا عليه اسم كهف الوحوش يقع على بعد عشرة كيلومترات من كهف السباحين، ووجد المستكشفان بقايا عظام وجماجم، ونقوشاً بدائية على جدران الكهف، يرجع عمرها إلى تسعة آلاف عام تقريباً".
كهف الوحوش
بدأ عز الدين رحلته وحيداً، وبعد سنوات عدة تبعه آخرون، حتى صاروا "حفنة مستكشفين في الرحلة الواحدة"، بحسب قوله.
عن مصر التي لا يزال يتعرف عليها أكثر، يقول: "مصر رائعة وخلابة لمن يعرفها، مصر أحد أهم معابر هجرة الطيور في العالم، وهي سياحة مهمة، عندنا سياحة المعابد والآثار الفرعونية، عندنا عيون مياه ورمال طبية، وتسلق جبال، واحات ووديان وصحارى وغطس وشعاب مرجانية، وسفاري".
أما "الرسول" فيعرب عن سعادته بازدهار السياحة الداخلية، وتوهج حالة الاستكشاف عند الشباب، يقول: "هي تربط أواصر الثقافة والود بين المصريين، وتعرفهم ببلادهم وشعبهم العريق، وتساهم في خلق وعي بيئي وصحي للسكان المحليين في القرى والأماكن النائية، يجعلهم يحافظون على بيئتهم، ويشجع صناعاتهم المحلية".
البسطاء والغرباء
كان "الرسول" يعرف منذ البداية أن رحلته ليست مغامرة سهلة، أو نزوة، ولكن أقسى ما كان يواجهه ليس الطقس والمخاطرة الجسدية، بل تعامل السكان المحليين مع "الغرباء"، والتضييقات الأمنية، التي وصفها بـ"العبء الأكبر". يقول: "الصعاب التي يواجها أي مستكشف في مصر، لها علاقة بقلة وعي البعض، لا سيما كبار السن من السكان المحليين البسطاء، وخوفهم من الكاميرات والغرباء".
"لا يمكن التخييم والمبيت في أي مكان على طول سواحل مصر والصحارى والجبال الحدودية إلا بتصاريح خاصة من المخابرات المصرية، وينقص أفراد الأمن الوعي بالسياحة الاستكشافية"
ويضيف: "يمثل التضييق الأمني العبء الأكبر على سياحة التخييم والاستكشاف في طول سواحل مصر، والصحارى والجبال الحدودية، التي لا يمكن المبيت فيها، إلا بتصاريح خاصة من المخابرات المصرية، والقوات المسلحة، في اجراءات معقدة، رغم تأمين تلك الأماكن جيداً من قبل الدولة، ولا تنقصنا الدعاية لتلك الأماكن فهي أصبحت معروفة عالمياً. ينقصنا وعي أفراد الأمن بالسياحة الاستكشافية، لأنهم حتى اليوم يتعاملون مع كاميرا الزائر لأماكن سياحية في الأصل بشك وريبة، ويمكن لأصغر فرد منهم مصادرة الكاميرا ومسح الصور من ذاكرتها، وهو أمر يدعو للإحباط أحياناً".
أما أكثر ما يزعج عز الدين فهو التغير المناخي، والتلوث، والزحف العمراني، وتأثير كل ذلك على الحياة البرية في صحارى ووديان مصر، ويتذكر بأسى ما كانت عليه الطبيعة قبل ربع قرن، يقول: "أشهر طائر في مصر هو الكيس النايلون".
ويتابع: "للأسف هناك أزمة كبرى في التعامل مع النظام البيئي في المحميات الطبيعية، ويجب التوعية بخطورة البلاستيك ومخلفاته على الحيوانات والطيور والأسماك، وفي النهاية على الإنسان".
كذلك يشعر عز الدين بالأسى حيال التضييقات الأمنية، مثل إغلاق بعض الأماكن في الصحراء الغربية أمام المستكشفين، ومنعهم من التجول بحرية والتخييم منذ سبع سنوات، بسبب سوء الاوضاع الأمنية في ليبيا، وتسلل بعض العناصر الإرهابية إلى الأراضي المصرية لتنفيذ عمليات إرهابية في السنوات الأخيرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع