"يكاد لا يوجد سمك، وما نصطاده ملوّث. إذا فتحتم خياشيم السمك، بإمكانكم أن تلاحظوا أنّ داخلها أسود"، هذا ما كشفه سمير سديري لصحيفة الغارديان البريطانية، متحدّثاً عن حجم التلوث الهائل الذي وصلت إليه شواطئ تونس.
والحقيقة أنّ المشهد "الصيفي" في تونس حزين: الشواطئ تكاد تبدو خالية نسبياً في حين أن قوارب الصيد مقلوبة، مع العلم أنه في العادة يصعب التعرّف على هذه الشواطئ في الصيف، إذ تبدأ العائلات في مختلف أنحاء تونس بركوب القطار الذي يمرّ ببحيرة العاصمة والموانئ بمدينة رادس الصناعية، قاصدةً شواطئ المدينة، فتتنافس خيام الهاربين من الحرارة المرتفعة للتمتّع بمساحةٍ على الرمال المزدحمة.
مخاطر تهدّد صحة الإنسان
يُثير خليج تونس بأكمله غضب الناشطين/ات، بحيث تشقّ النفايات المنزلية والصناعية القادمة من العاصمة، بالإضافة إلى نفايات الموانئ والمدن الصناعية المحاذية للخليج، طريقَها إلى مياه البحر خارج تونس، الأمر الذي يؤثر سلباً على عدد الأسماك ويشكّل خطراً واضحاً على صحة الإنسان.
ليست قضية التلوث في تونس مسألة مستجدّة حديثاً، إذ تؤثر الصناعات الثقيلة على جودة المياه منذ سنوات، غير أنه منذ الثورة في العام 2011، أصبح الحديث عن التأثير البيئي لهذه الصناعات على الأقل أمراً ممكناً، حتى وإن كانت الإجراءات التي يطالب بها النشطاء لا تزال بعيدة المنال.
يُثير خليج تونس بأكمله غضب الناشطين/ات، بحيث تشقّ النفايات المنزلية والصناعية القادمة من العاصمة، بالإضافة إلى نفايات الموانئ والمدن الصناعية المحاذية للخليج، طريقَها إلى مياه البحر ، الأمر الذي يؤثر سلباً على عدد الأسماك ويشكّل خطراً واضحاً على صحة الإنسان
يوضّح الناشط التونسي، حسام حمدي، لرصيف22، أن حجم التلوث في الشواطئ التونسية كارثي: " 96% من نفاياتنا وجهتها النهائية الطبيعة، وبخاصة البحر"، مشيراً إلى أن أسباب تلوث البحر تعود بشكلٍ خاص إلى مصبّات النفايات العشوائية والقريبة من البحر، المياه المستعملة التي تصبّ مباشرةً في عرض البحر، طَرْح العديد من المواد الاستهلاكيّة (البلاستيكيّة بالأخص) في السوق التونسيّة، هذا بالإضافة إلى أنشطة المؤسّسات الصناعيّة.
وكان لتلوث البحر في تونس وقع كبير على حياة الناس وتأثير سلبي على الثروة السمكية، بحسب ما يؤكّده حمدي: "التأثير كان واضحاً وملموساً، إذ لاحظنا في السنوات الماضية نفوق عددٍ كبيرٍ من الأسماك والسلاحف البحرية جرّاء النفايات البلاستيكية، ما ساهم في انتشار قناديل البحر الضارة، كما أن بعض الأسماك تقتات من الجزيئيات البلاستيكية ما يشكل خطراً كبيراً عليها وعلى حياة الإنسان"، من هنا دعا الناشط التونسي إلى منع أو تقليل استعمال المواد البلاستيكية (الأكياس بالخصوص) وإرساء نظام فعلي وواضح لتدوير النفايات، هذا بالإضافة إلى معالجة المياه المستعملة وعدم صبّها بشكلٍ عشوائي في البحر.
بحسب البيانات الرسمية، تعالج تونس نحو ربع كمية مياه الصرف بغية استخدامها لريّ الأراضي الزراعية بالإضافة إلى استخداماتٍ أخرى، أما بقية المياه، التي يبلغ حجمها نحو 247 مليون متر مكعب في السنة، فتذهب من محطات المعالجة الحكومية مباشرة إلى البحر والمجاري المائية الداخلية، في حين أن التشريعات البيئية تشدّد على وجوب معالجة مياه الصرف الصناعي في البداية من المصدر قبل نقلها إلى مكان آخر لمزيد من المعالجة، هذا ويشكّك الناشطون في مدى دقة وحسن تطبيق هذه التشريعات.
التهرّب من المسؤولية
هناك ثلاث محطات ضخمة لمعالجة مياه الصرف، وهي تخدم السكان في جميع أنحاء خليج تونس، ويدير جميع محطات المعالجة الديوان الوطني للتطهير Office national de l'assainissement (ONAS)، وهي مؤسسة تابعة لوزارة البيئة والتنمية المستدامة والتي، بحسب النشطاء، تتلقّى دعماً كبيراً على شكل قروض من الهيئات الدولية.
في حديثه لصحيفة الغارديان، يقول "مرشد غربوج"، رئيس جمعية الضغط البيئيةSOS BIA : "لقد اختبرنا المياه المتدفقة من مداخل المحطات وخارجها بين عامي 2016 و2017 وكانت النتائج متوافقة. وجدنا مستويات متزايدة من النترات وجزيئات المنغنيز والفوسفات، بالإضافة إلى القولونيات البرازية والمكوّرات العقدية -كلتاهما موجودتان في فضلات الإنسان- بالإضافة إلى مواد أخرى تتسبب كلها في أضرارٍ صحية".
ويوضح "غربوج" أن معالجة مياه الصرف الصحي في تونس مركزية بالكامل، بحيث يمرّ كل شيءٍ عبر الديوان الوطني للتطهير، بما في ذلك قروض التنمية من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وبنك التنمية الألماني: "لقد أطلعناهم على نتائج اختباراتنا. إنهم يدركون ما يحدث. لكنهم فقط غير مهتمين".
التلوث يضرب شواطئ الشرق الأوسط
ليست تونس وحدها المتضررة من حجم التلوث، إذ أن العديد من الدول العربية تعاني بدورها من أزمات بيئية خطيرة، نتيجة اليد البشرية وغياب الوعي واللهاث وراء جبروت الصناعة وهاجس كسب الأموال.
فنتيجة أطماع المستثمرين، يهدّد التلوث البترولي شواطئ الإسكندرية، بحيث تواجه العديدُ من الأسماك النادرة خطر الانقراض خلال السنوات القليلة المقبلة.
تعاني العديد من الدول العربية من أزمات بيئية خطيرة، نتيجة اليد البشرية وغياب الوعي واللهاث وراء جبروت الصناعة وهاجس كسب الأموال
أما وضع بحر لبنان فمن سيء إلى أسوأ، إذ تُعتبر مياه لبنان بمعظمها ملوثة بنسب متفاوتة (تلوّث جرثومي وكيميائي وبالمعادن الثقيلة)، فقد وصلت نسبة التلوث في بعض الشواطئ اللبنانية الى 100%، ومنها بيروت وعكار وبعض مناطق الجبل والبقاع، وفق ما أظهرته نتائج الدراسة التي أعدّتها مصلحة الأبحاث الزراعية.
وفي يونيو 2019، أعلن المجلس الوطني للبحوث العلمية عن نتائج المسوحات البحرية السنوية للشاطئ اللبناني، وأظهر التقرير أن 14 موقعاً في الشمال وجبل لبنان والشوف والجنوب هي مناطق نظيفة وتصلح للسباحة ولا تشكّل خطراً على صحة المواطنين، من بينها صور، الناقورة، البترون، جبيل، الفيدار، طبرجا، العقيبة، أنفه والمعاملتين، في حين أن هناك مواقع ملوّثة بشكلٍ خطير، على غرار شاطئ الرملة البيضاء والمنارة، ضبيه مارينا، الشاطئ الرملي قرب انطلياس، شاطئ طرابلس العام، شاطئ سلعاتا، شاطئ قليعات عكار وشاطئ جزيرة عبد الوهاب طرابلس.
بمعنى آخر بات العديد من شواطئ لبنان غير صالح للسباحة، وسط عجز السلطات الرسمية عن التوصّل إلى خطة واضحة للتخفيف من التدهور البيئي، وهو أمرٌ يُضاف إلى قائمة الهموم الحياتية التي يعاني منها المواطن اللبناني.
"حتّى البحر حرمونا منّو المسؤولين"، بهذه الصرخة النابعة من القلب، تحدّث "حسام"، وهو رجل خمسيني يعشق البحر، لرصيف 22، عن الوضع المأساوي الذي يلحق بمياه البحر وشواطئه: "بقول المتل: عمول منيح وكبّ بالبحر...بس يلي اخترع المتل ما كان عارف انو رح يبطل في محل فاضي بالبحر تنكب في شي...الزبالة أكلتنا وقضت على رزقنا وعلى كل شي".
أما "ندى" (42 عاماً) فقد ضاقت ذرعاً بحجم التلوث، فقرّرت منذ قرابة السنتين أن تبيع منزلها القريب من البحر وتنتقل للعيش مع عائلتها في منزلٍ جبلي، هرباً من تلوث البحر و"رائحته التي لا تطاق"، على حدّ وصفها: "منظر البحر بوجع القلب، قناني بلاستيك وأكياس زبالة مرمية وين ما كان...ما بقا في الواحد يسبح أو حتى يتشمّس من الريحة البشعة...عالقليلة بالجبل بيضل فينا نتنفس هوا نضيف".
أزمة تلوث البحر تعود إلى عدة أسباب من بينها: الصرف الصحي، المكبات، النفايات الصناعية، المبيدات الحشرية ونفايات الأنهار التي تصبّ بدورها في البحر.
من هنا تحاول العديد من المنظمات البيئية والجمعيات اللبنانية التحرك للحفاظ على الحياة البحرية، وهو حال جمعية يوميات المحيط (Diaries of The Ocean) التي تأسست في العام 2018، بهدف نشر العلم والتوعية حيال الحياة البحرية والتهديدات التي تطالها.
في حديثها لرصيف22، تشرح مؤسسة الجمعية، جينا تلج، عن تأثير التلوث على حياة الناس بالقول: "هناك علاقة متينة تجمع الإنسان بالبحر، فنحن نأكل من خيرات البحر، نلقي أجسادنا على شواطئه ونسبح في مياهه، كما أننا نُمتع نظرنا برؤية البحر وأمواجه، وعليه فإن البحر الملوث يزعج حواسنا...".
وبالرغم من حجم التلوث الذي يطال بحر لبنان وشواطئه، إلا أن جينا تلج تستعين بالتقرير الصادر عن المجلس الوطني للبحوث العلمية، لتؤكد بأن البحر ليس ملوثاً بالكامل، نظراً لوجود بعض الأماكن النظيفة والصالحة للسباحة، هذا وتعرب تلج عن امتعاضها من فكرة توجّه اللبنانيين إلى قبرص وغيرها من البلدان للاستفادة من البحر: "هذا عار وتصرّفٌ مخجلٌ بحقنا، الدول الأجنبية بتعاني من تلوث البحر متلنا تماماً".
أما بالنسبة إلى الحلول التي من شأنها الحدّ من تلوث البحر، تؤكّد جينا تلج على ضرورة تفعيل محطات معالجة مياه الصرف الصحي وإزالة مكبات النفايات على وجه السرعة، هذا بالإضافة إلى محاسبة كل جهةٍ أو شخص يتضح أنه مسؤول عن تلوث البحر، سواء كان الأمر يتعلق بالنفايات الشخصية أو تلك التي تخلّفها الأنشطة الصناعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين