شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
الموضة لا ديمقراطية ولا أخلاقية...

الموضة لا ديمقراطية ولا أخلاقية...

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 14 مايو 202004:28 م

يوحّد العالم اليوم نسق ثقافي استهلاكي، ينتج رموزاً عابرة للثقافات المحلية والقومية، وقابلة للظهور في حيز جميع أفراد المجتمعات. هي سلع الموضة الاستهلاكية، التي تظهر من أجل أن تختفي، مفسحة المجال لشكل جديد من السلع بوصفها رمزاً ثقافياً، لتعزز الاستمرارية بمنع نفسها من التكرار.

الموضة نوع من وهم الهوية، تسبب لحاملها ضرباً من الثقة بالنفس، مستمدة من أن العيون مركزة عليه، جاهزة للقائه ومترقبة للتفاعل مع ملامحه العصرية، فهي لغة تكسب صاحبها ظناً أنه مرحّب به من جميع الفئات الاجتماعية، لكونه منتمياً لفئة الموضة، أكثر الفئات تفاعلاً مع التجديد

تمثل الموضة إحدى أهم دعائم مشروع العولمة: مصانع تفتح في بلاد العالم الثالث، مثل تركيا وبنغلادش، تصنع للسوق البلاد الغربية أزياء رخيصة لرخص أجور اليد العاملة، وفي الحقيقة، فأن صناعة الموضة ككل الصناعات، تستهلك الوقود الأحفوري وترمي فضلات الإنتاج للطبيعة، ما يعني أننا كلما استهلكنا أكثر من سلع الأزياء الجديدة كلما ساهمنا في التلوث البيئي وعواقبه. وبالفعل فإن للموضة إنتاجاً كثيفاً مستنداً على طلب سوق المستهلك، لكن قيمة السلع المطلوبة في سوق الأزياء ليست مؤشراً على القيمة الاستخدامية لها، أي حاجة المستهلك للسلعة، إنما في هذا السياق هي القيمة الرمزية التي تحملها، فالموضة هنا مؤشر على التجديد والمعاصرة، مدلول على اليوم والآن، وهذا المدلول هو سر ارتفاع طلبها في السوق.

الموضة كرمز: بين هوية المستهلك وسلطة المصمم

لا تقتصر الموضة على كونها عاملاً في التفاوت الطبقي العالمي في عملية الصناعة، بل تمتد لتكون سمة ثقافية في المجتمعات. يمكن قراءة الموضة على أنها رأسمال ثقافي، حسب تعبير بير بوردو، لغة غير محكية يتواصل الأفراد عبرها، علامة تعبر عن الشخص ومدى كونه ابن العصر الراهن، وفي حقيقة الأمر، تحمل سلع الموضة قيمة رمزية في كونها "براند" أو ماركة مسجلة، دالة على انتماء مستهلكها إلى ثقافة معينة، غالباً ما تكون الثقافة الأرفع أو الأكثر تحضراً، أو تكون قناعاً يخبئ الانتماء الطبقي إذا كان متدنياً وتخفي التفاوت الطبقي عبر المظهر، هي بمثابة تمويه المستوى الطبقي وتحوير حدوده عبر استهلاك ذات منتج الأزياء.

لذا تكون الموضة نوعاً من وهم الهوية، تسبب لحاملها ضرباً من الثقة بالنفس، مستمدة من أن العيون مركزة عليه، جاهزة للقائه ومترقبة للتفاعل مع ملامحه العصرية، فهي لغة تكسب صاحبها ظناً أنه مرحّب به من جميع الفئات الاجتماعية، لكونه منتمياً لفئة الموضة، أكثر الفئات تفاعلاً مع التجديد.

لكن هذا ما يعزز نظام من الإقصاء عند هوية صاحب الموضة، فبكونها تشمل فئة معينة من المجتمع، هي بشكل تلقائي، تقصي غير المنتمي لهذه الهوية، مشابهة لتفوق بعض الهويات العرقية والقومية المتميزة بنفسها عن الآخر. أي أنها تنفي خارجها من لا يتكلم لغة الموضة، من لا يهتم لترميزها أو يعتنق صيحاتها الأخيرة. أولئك غير المستهلكين للجديد، الزاهدون عن الجديد وحلته، يتم نفيهم خارج مجموعات الموضة لعدم توظيف أجسادهم كحامل رموز ومدلولات العصرية.

في كل مرة نستهلك السلعة ورمزها نساهم في تدمير بيئي وعبث بالطبيعة، ونوافق على الإنتاج المكثف لسموم تبعث في المياه والهواء، كل ذلك من أجل ضمان تواجدنا في المجاز الرمزي المُشخص و المُشكل لهويتنا ككائنات معاصرة


في صدد هذه الهوية، قد تكون الموضة مانحة لهوية سائلة، معبرة عن ذات راضية عن صورتها بين الأفراد المحيطين، لكن في جانب آخر، هي تسلب الذات سلطة القرار والاختيار، وتمارس السلطة على الشخص بتحديد خياراته. المقصود في السلطة هنا، أن الموضة تُفرض علينا ولا تأتي من خلال عملية تصويت، بل أنها لا تحمل أياً من الديمقراطية في تواجدها.

من فرضها في ظروف عمل جهنمية على العمال في العالم الثالث، إلى كونها تفرض على المستهلكين في مجتمعات العالم الأول، أو حتى عالمنا العربي المُقحم في استهلاك الموضة. دائماً ما نسمع أن الموضة في كل فصل سنوي تقترح علينا عدد ألوان محدد، وعدد أشكال محدد، نسمع في هذا الصدد من يقول بأن "الموضة لهذه السنة.. حذاء عال، لون بني، وخصور بناطيل عالية..." وكأنها فرض من جهة ما، سلطة أو سيد، يقومان بإصدار مرسوم علينا اتباعه ودورنا هو الطاعة. تقوم علاقة الفرد بالموضة على نفوذ المُنتِج وضعف المستهلك، هي علاقة هرمية بين صاحب القرار بشأن الجديد من اللون أو الشكل، والمستهلك المنفذ للقرار، المثابر على الاستهلاك، غير مهتم بالقيمة الاستخدامية أو الجانب الوظيفي من السلعة، معوضاً ذلك بهوس الجديد واستعراض العصرية.

الموضة تسلب الذات سلطة القرار والاختيار، وتمارس السلطة على الشخص بتحديد خياراته، فالموضة تُفرض علينا ولا تحمل أياً من الديمقراطية في تواجدها. من فرضها في ظروف عمل جهنمية على العمال في العالم الثالث، إلى كونها تفرض على المستهلكين في مجتمعات العالم الأول، أو حتى عالمنا العربي المُقحم في استهلاك الموضة

الموضة بين اختفاء الحديث وظهور الأحدث

يشرف المنتج على الإنتاج وتغير سلع الموضة في شكل مستمر، المنتج في هذا السياق ليس العامل في المصنع، بل صاحب رأس المال في مدن النصف الشمالي ومصممي الأزياء في تلك الدول. يكمن استهلاك الموضة في سر رغبتنا الدائمة في الجديد، فحسب زيغمون باومان، فإن الاستهلاك تطور في طور الرأسمالية الحديثة، ما طوّر النزعة للاستهلاك إلى أقصاها، يرى باومان الاستهلاك قديماً كان يتمثل بالحاجة، مثل الحاجة إلى قميص جديد بسبب اهتراء القديم، أما اليوم انتقل الاستهلاك لتخطي ثنائية القديم والجديد، لتمسي الرغبة الدائمة في الجديد، ليس لقيمته الاستخدامية بل لمجرد كونه جديداً.

يتجلى هذا الجديد كسلعة في عالم فنتازيا المستهلك غير القابلة للتحقيق لأنها متجددة دائماً، خالقة المستهلك المستحيل، العاجز عن تحصيل نهاية في مسيرته الاستهلاكية. هنا يكمن سر آخر للموضة، بظهورها واختفائها، ففي حين يظهر الجديد تبطل موضة القديم، بغض النظر عن قدرته الوظيفية، فعلى القديم أن يختفي ليسير الجديد في مسار السوق والمربح، خالقاً بدوره الإنسان المعاصر وعالميته، المنتجة لصورته عن نفسه، من رمزية السلعة المصنفة على أنها آخر ما أنتجته الموضة.

تطورت هذه العملية لتقتحم أسلوب استهلاك الطعام، ليكون على وجبة الطعام الظهور والاختفاء، ليس عبر أكل الوجبة، بل عبر خاصية "الستوري" في الإنستغرام أو الفيسبوك. نرى أحدنا بحال ذهابه إلى المطاعم، يسرع إلى تصوير الوجبة قبل أكلها، وتحميلها على "الستوري"، هناك تظهر صورة الوجبة التي ستتلاشى تلقائياً، كأسلوب تواصل مع الأصحاب، فالغرض هنا ليس بالصورة وحدها، بل ترميز الصورة، وغالباً ما يكون الترميز لماركة المطعم أو شكل الطبق، لا طعمه المُشكل لقيمته المادية.

أما اختفاؤها عقب ظهورها هو ما يُستمد من الرغبة باستهلاك الموضة، التي ما تلبث أن تظهر سلعة منها حتى تختفي، مفسحة الفضاء الاستهلاكي للسلعة التالية، أي لاستمرار وتجديد الرمز/ الماركة المسجلة.

دائماً ما نسمع أن الموضة في كل فصل سنوي تقترح علينا عدد ألوان محدد، وعدد أشكال محدد، نسمع في هذا الصدد من يقول بأن "الموضة لهذه السنة.. حذاء عال، لون بني، وخصور بناطيل عالية..." وكأنها فرض من جهة ما، سلطة أو سيد، يقومان بإصدار مرسوم علينا اتباعه ودورنا هو الطاعة

عن استهلاك الرمز مقابل استنزاف الطبيعة

يمتد موضوع الموضة اليوم ليدخل في أزمة العالم الأكثر جدلاً، التغير المناخي وتبعياته الكارثية. فلا يقتصر إنتاج صناعة الموضة اليوم على استغلال اليد العاملة الفقيرة في دول العالم الجنوبي، لكن تعمل على استنزاف الطبيعة، ما يسبب خللاً في النظام البيئي. فوحدها مادة البولستر مصنوعة من الوقود الأحفوري وغير القابلة للتحلل، ينتهي بها المطاف بتلويث البيئة كتركيب بلاستيكي مُصغر، وكما صرحت الأمم المتحدة، إن عملية صناعة الأزياء وحدها تستهلك من الطاقة والوقود أكثر من استهلاك صناعة الطيران والشحن مجتمعة سنوياً، كما يقدر نمو الانبعاثات الملوثة لصناعة الموضة إلى 36% بحلول عام 2030.

لا يقتصر إنتاج صناعة الموضة اليوم على استغلال اليد العاملة الفقيرة في دول العالم الجنوبي، لكن تعمل على استنزاف الطبيعة، ما يسبب خللاً في النظام البيئي

إذن، تشكل هذه الصناعة الرمز للنسق الثقافي الاستهلاكي، اعتماد كامل على استهلاك البيئة بطرق غير مستدامة تساهم في أزمة المناخ، ثم تقوم هذه الصناعة بما يتجاوز الحاجة والقيمة الاستخدامية للسلع، بل تتصدر على أنها مصدر لتكوين الذات المعاصرة، رغم أنها تحطم ذوات وأجساد آلاف العمال في ظروف عمل استغلالية.

كلما استهلكنا أكثر من سلع الأزياء الجديدة كلما ساهمنا في التلوث البيئي وعواقبه

في صيغة جدلية مكثفة، يمكن القول بأن استهلاكنا لسلع الموضة هو في الحقيقة رغبتنا باستهلاك الرمز أساساً، بالتالي هو استنزافنا للطبيعة بشكل طوعي، فعملية الشراء مماثلة لعملية التصويت، إذا كنا لا نصوت لآخر صيحة في الموضة، بل تفرض علينا خياراتها لكل فصل، فعلى نحو معاكس، بشرائنا للسلع نصوت على استمرارية الإنتاج، ونوافق على طاعتنا لكل ما سينتج من أصحاب القرار، كما أننا موافقون على أساليب الإنتاج المستنزفة للعامل والطبيعة، ونساهم في إعادة إنتاج طبقية هذا العالم، ضمن إشباع رغبة استهلاك الرمز، في كل مرة نستهلك السلعة ورمزها نساهم في تدمير بيئي وعبث بالطبيعة، ونوافق على الإنتاج المكثف لسموم تبعث في المياه والهواء، كل ذلك من أجل ضمان تواجدنا في المجاز الرمزي المُشخص و المُشكل لهويتنا ككائنات معاصرة.

نشكر Noah Buscher على صورة المقال. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image