لا أتذكر عدد المرات التي كانت أمي تقسّم فيها طعامها لتعطينا إياه، وتأكل هي المتبقّي، أو تقسّم الطعام لكل الأفراد وتكون آخر من يأكل.
في أحد مشاهد فيلم بين القصرين، المأخوذ عن رواية الأديب نجيب محفوظ، يجلس الأب على مائدة الطعام، أو "الطبلية"، بمفرده، والأولاد والبنات وأمهم يقفون ليشاهدونه، ويتضور الابن الأصغر جوعاً، ثم يأذن الأب للأبناء الذكور فقط ليجلسوا معه ليتناولوا الإفطار، وتقف البنات ليشاهدنهم حتى ينتهوا من الأكل، ثم يأكلن المتبقي من الطعام.
لا أتذكر عدد المرات التي كانت أمي تقسّم فيها طعامها لتعطينا إياه، وتأكل هي المتبقّي، أو تقسّم الطعام لكل الأفراد وتكون آخر من يأكل.
والجدير بالذكر أن أحداث هذا الفيلم كانت قبيل ثورة 1919، لكن ما قد لا تعرفونه هو أن هذا المشهد يتكرر حتى هذه اللحظة بتنويعات مختلفة. ففي الأيام الأخيرة، اشتكت بعض السيدات على موقع فيسبوك من أن أزواجهن يأكلن نصيبهن، ونصيب الأولاد، من الطعام، ويتركون لهم الفُتات. هذه الحكاية ليست فرديةً، بل من كلاسيكيات الذكورية. شخصياً سمعتها من أشخاص في طبقات مختلفة، إذ يأكل الأب بمفرده حصةً أكبر من الأم والأبناء، ويأكل الابن بدوره حصةً أكثر من البنت، وهو ما يصيب كثيرات من الفتيات بسوء التغذية، وذلك لأن الرجل أو الذكر يكدّ ويتعب في العمل، ويحتاج إلى الغذاء لبناء العضلات، وربما للحفاظ على قوته الجنسية، أكثر من المرأة القابعة في المنزل، لأنها لا تعمل، وهنا يجادل الاقتصاد النسوي هذا الأمر، فالعمل المنزلي الذي يستغرق الكثير من الوقت لا يُرى على أنه عمل من الأساس، حتى أن علم الاقتصاد الكلاسيكي لا يحتسبه، لأنه لا يسبب تراكم الثروة مثل النماذج الاقتصادية المعيارية.
وقد ذكرت الكاتبة النسوية، كاترين ماركيل، في كتاب "من قام بطهي عشاء آدم سميث": "في الوقت الذي كتب فيه آدم سميث ما كتبه، وحتى يتمكن الجزار والخباز وصانع الجعة من الذهاب إلى عملهم، كان على زوجاتهم أو أمهاتهم أو شقيقاتهم أن يقضين الساعة بعد الساعة، واليوم بعد اليوم، في رعاية أطفالهم، وتنظيف منازلهم، وطهي طعامهم وغسل ملابسهم، وتخفيف دموع من يبكي والتشاجر مع جيرانهم. فمهما كانت نظرتك إلى السوق فإنه يعتمد دائماً على اقتصاد آخر، اقتصاد نادراً ما نتناوله بالحديث والنقاش".
فيما ذكرت إحدى الدراسات التي ناقشت إمكانية تعويض الزوجة عن الأعمال المنزلية، أن القيمة الزمنية لأعمال الرعاية التي تقوم بها النساء في العالم، تُقدَّر بـ12 مليار ساعة ونصف المليار. هذا عن المرأة القابعة في المنزل، لكن ماذا عن النساء اللواتي يقع عليهن عبء مضاعف، عبء العمل المنزلي، وعبء العمل خارج المنزل، أليس من المفترض أن تكون حصتهن من الطعام على قدر حاجتهن؟
في العرف الاجتماعي، يأكل الرجال إجمالاً أكثر من النساء، فالشكل الأنثوي يفرض على المرأة أن تأكل كميات صغيرةً، برقّة، ويا حبذا لو ظل حجمها صغيراً وضئيلاً، وفي المقابل الرجل لا بد أن يكون "طولاً بعرض"
هل يمكن أن يكون للمجتمع الأبوي تأثير على الطريقة التي نأكل بها؟
بالطبع الأبوية تتحكم بأجسادنا، والطريقة التي نراها بها، وبهواجسنا عنها، وتتجلى الفروقات الجندرية، وعدم المساواة، في سلوكيات الطعام؛ فإحدى الدراسات التي نُشرت في دورية هيلث سايكولوجي، ترى أن النساء رُوِّضن اجتماعياً ليأكلن بطريقة أكثر "أنوثةً"، وحسب الدراسة نفسها، يضع المجتمع ضغوطاً على الفتيات في سن المراهقة ليحافظن على نحافتهن، وتتسبب العوامل الاجتماعية، والثقافية، والنفسية أيضاً في الإصابة باضطراب الأكل، وتصيب النساء بشكل أكبر.
العلاقة بين أكل اللحوم والذكورية
في العرف الاجتماعي، يأكل الرجال إجمالاً أكثر من النساء، فالشكل الأنثوي يفرض على المرأة أن تأكل كميات صغيرةً، برقّة، ويا حبذا لو ظل حجمها صغيراً وضئيلاً، وفي المقابل الرجل لا بد أن يكون "طولاً بعرض".
بالرغم من عملي في الصحافة العلمية، لم أعلم بأن هناك علاقةً بين الذكورية وأكل اللحم، وأن الغذاء وسيلة للتعبير عن الذكورية، إلا بعد البحث عن سلوكيات الطعام من منظور جندري. فقد ارتبط اللحم تاريخياً بالقوة، والذكورة، والسلطة، حتى أنه في الحرب العالمية الأولى كانت النساء يتخلين عن أكل اللحم، لصالح المقاتلين الذكور. ويذهب البعض أبعد من ذلك، فيرون اللحوم رمزاً للنظام البطريركي كما هو مدوَّن في الثقافات الأوروبية، والأفريقية، والآسيوية. وقد وجدت بعض الأبحاث أن الرجال النباتيين يُنظر إليهم على أنهم أقل ذكورةً.
بالطبع الأبوية تتحكم بأجسادنا، والطريقة التي نراها بها، وبهواجسنا عنها، وتتجلى الفروقات الجندرية، وعدم المساواة، في سلوكيات الطعام
وإحدى الدراسات التي كانت بعنوان "كيف يؤثر الامتثال لمعايير الذكورة المهيمنة على استهلاك الطعام للرجال والنساء؟"، ترى أن هناك أكلات "ذكريةً"، أو مرتبطة بالذكور، وأكلات نسائية، وبينت أن الرجال يميلون إلى تناول اللحوم أكثر من النساء، بينما تتناول النساء الخضروات، والفواكه بشكل أكبر، وقد عدّت الفواكه والخضروات والحلويات أكلات نسائيةً.
لا أريدك أن تعتقد أنه ينبغي أن يأكل كل الأفراد بالتساوي. بالتأكيد ليس هذا المقصود، وبالطبع لا تتجاهل المساواة الاحتياجات والفروق البيولوجية، فبالتأكيد يحتاج الرجال إلى البروتين أكثر من النساء، لكن الفرق ليس كبيراً جداً، إذ يحتاج الرجل إلى مقدار 56 غراماً من البروتين يومياً، بينما تحتاج المرأة إلى 46 غراماً. هذا عن الفرق البيولوجي، لكن التفرقة التي تحدث هي مجتمعية بحتة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 12 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين