شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
من البروليتاريا إلى

من البروليتاريا إلى "الجورناليتاريا": تعميم الجمال بدل الاستهلاك

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 14 مايو 201902:31 م

في عالمٍ عنيفٍ، هل نحتاج الفنّ الصحفي؟ قد يتردّد قارئ السؤال لوهلةٍ عند التأثّر بشحنة كلمة "عنيف" فتسرع الغريزة إلى اختيار ردٍّ أعنف لتهدئة هذا العالم ولو لقرن من الزمن، ليلتقط أنفاسه بعد طول حرب، لكن بالركون إلى عزلةٍ فريدةٍ سوف لن نجد سوى هذا الفنّ طريقاً نحو الخلاص.. لكن أيّ فنٍّ لأيّ عنفٍ على وجه التحديد؟

سوف لن نخذل أصدقاءنا الفلاسفة في محاولة الإجابة عن السؤال، فقد اعتصر "صيادلة القيم" أقصى ما يمكن من رحيقهم على مرّ التاريخ، لإيجاد تفسيرٍ للعالم وبالتالي لعنفه، خاصّةً قرّاء الحداثة "وما بعدها"، لكن مع الاعتبار الجادّ لهذا الإسهام الفلسفي، فإن دور الكاتب الصحفي مهمّ أيضاً، وجدّاً، في الإسهام بوقف نزيف دنيانا الماثلة أمامنا، ككائنٍ ملوّنٍ مغشيٍّ عليه، بصدد التحلّل حيّاً.

لا يمكن التخلّي عن الصحافة، وإلا أصبح العالم أعمى، في حين أن صحافةً ما موجّهة بمكرٍ قد تصيب الجماهير بالعمى أيضاً.

لا يمكن التخلّي عن الصحافة، وإلا أصبح العالم أعمى، في حين أن صحافةً ما موجّهة بمكرٍ قد تصيب الجماهير بالعمى أيضاً. لن نعود إلى تعريفات الصحافة في هذا الصدد، فالتعريف، ضمن السياقات الحاليّة للصحافة، أصبح أمراً شائكاً ومعقّداً، وقد لا تحتمله مقالة واحدة أو حتى كتاب واحد، إلّا أن جيلاً جديداً من الكتّاب الصحفيين أصبح متوفّراً، ويمكن التعويل عليه لتكوين نظرةٍ حول دور الصحافة اليوم في المقاومة، مقاومة ذلك العنف المُشار إليه في بداية هذه المقالة.

البيوبوليتيك: فوكو يفكّك الشفرة

أيّ قارئ لميشيل فوكو سيتوقّف بالضرورة عند مفهوم الـ"بيوبولتيك biopolitique" الذي استعمله المفكّر والفيلسوف الفرنسي، ضمن رؤيته النقديّة لعلاقة السلطة بالمجتمع، هذه السلطة التي لم تترك مجالاً في حياة الإنسان إلّا وأخذت منه نصيباً، أو صادرته تماماً لصالح إجراءاتها، وبإلقاء نظرةٍ على المفهوم، نجد أن أشكال السلطة الجديدة اليوم أصبحت المتحكّم الأوحد في قدرات المجتمع والفرد، عبر التحكّم والتأثير والإخضاع والدعاية والتسويق، وذلك استجابةً لمنطق السوق الحديثة بكامل تفاصيلها المتوحّشة والعنيفة، والساعية إلى الربح أوّلاً وأخيراً، دون أي اعتباراتٍ إنسانيّةٍ أو ثقافيّةٍ أو حتى حقوقيّة.

البيوبوليتيك في هذا السياق هو تلك العملية المتمثّلة في شحن المجتمع برسائل مسعورةٍ للاستهلاك، والدفع بالفرد إلى تلك العلبة الجميلة البرّاقة التي تصنعها السلطة، كي تحصر تحرّكاته داخل مربّعٍ من الحاجيات التي يقضي الفرد عمره لتوفيرها، وتصوّر له الحياة على أنها جملة من الأهداف التي لا يمكن الوصول إليها خارج إطار السوق.

إن السلطة بذلك لا تكتفي بإنتاج نظامٍ سياسي، بل تتعدّى ذلك إلى التحكّم في كلّ ما هو ثقافي واجتماعي وحتى التحكّم في الأجساد والوعي، من هنا جاء مفهوم الـ "بيوبوليتيك" وهو وصول التحكّم السياسي إلى أقصاه أي حتى إلى البطون، وتُملي ما يجب أن يُستهلك وما لا يجب أن يُستهلك، طبعاً يحدث هذا لحساب السلطة وأصحابها على حساب الإنسان وحريتّه، بل وقضيّة تحرّره، حتى أنها، أي السلطة، أصبحت مدبّرة المنزل والمقرّر الأوحد للائحة الطعام لهذا الأسبوع.

ليس ميشيل فوكو الوحيد الذي سلك هذا النحو لنقد السلطة، مدرسة فرانكفورت أيضاً أنتجت أفكاراً في هذا الاتجاه، ولا يمكن عند الحديث عن مدرسة فرانكفورت في سياق نقد السلطة أن نتغافل عن هربرت ماركوز الذي أطلق صيحة فزعٍ بقوله "إنه الإنسان ذو البعد الواحد" أي الإنسان الخاضع لإرادة السلطة في تفاصيل حياته، عبر الإعلام الذي يصوّر طريق الاستهلاك كطريقٍ وحيدةٍ للعيش.

لقد تأسّس كلّ عنف العالم اليوم على مقولة التحكّم الأقصى للسلطة في كلّ شيء، إنها قوّة باحثة دوماً ودون توقّفٍ عن الإحاطة التامّة بالفرد: عاطفيّاً وسلوكيّاً وفكريّاً ودينيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وجنسيّاً، الحاجة المسعورة لهذا التحكّم لم تخلق طيلة تاريخ الإنسانيّة سوى الحرب، بكلّ ما في كلمة حربٍ من شحنات دمار وقتل وبشاعة.

الصحافة وفنّ الجموع

وجب التنبه إلى ضرورةٍ منهجيّةٍ ملحّة في هذا المستوى، استعمال مصطلح "الصحافة" هنا غير استعمال مصطلح "إعلام". الصحافة، على الأقلّ، هي ذلك العلم الصارم المرتكز إلى الإخبار، داخل منحى علائقي يجمع باثّاً بمُسْتَقْبِلٍ وبينهما قناة البثّ، أما الإعلام فهو مصطلح اختلط اليوم بالعديد من الأبعاد التقنية واللغويّة والسيميائيّة والماليّة، فتوّه الفرد بين "الدسائس" التي تُحاك في الكواليس، لصناعة الصورة المبثوثة، وهي صورة غير نقيّةٍ وغير بريئةٍ وغير مستقلّة عن ظروف صنعها والهدف منها. لذلك نركن إلى مصطلحٍ "صلبٍ وواضح" وهو الصحافة، على أن نتحدّث في مصطلحٍ ساهم مستثمروه، بشكلٍ أو بآخر، في موت ملايين الناس، على الأقلّ في القرن العشرين.

"فنّ الجموع".. أو ما جادت به أنامل أنطونيو نيغري، الإيطالي الذي انفجر غضباً جماليّاً أيام سجنه، يُعدّ أحد الإمكانات الملائمة كي نتسرّب إلى الجمهور وأن نحاول معه تأسيس أفقٍ مستقبلي آخر.

تتأسّس فكرة فنّ الجموع لدى نيغري على أن الفنّ مِلكٌ جماعيٌّ مشترك بين الجموع، وفي درجةٍ أولى، ودون الدخول عميقاً في هذا الطرح، فإن نيغري ههنا كأنما، بجعله الفنّ ملكاً للناس، يُعيد الحياة إلى تلك المحامل الفنيّة الجماهيريّة كي تقدّم الفكر للناس. يوفّر أنطونيو نيغري إمكانية جعل الصحافة محملاً فنيّاً للجماهير، وعلى اعتبار أن الفنّ اليوم يُعدّ أحد تلك الأسلحة الفتّاكة ضدّ الاستلاب والبؤس والحزن المزمن والتطبيع مع الموت، فإن الصحافة تُعدّ القناة الجماهيريّة بامتياز، لتحمل رسائل مقاومة الخراب دون شفرة.

الفكرة هنا هي أن الجموع تستهلك الخبر على أنه فعل واقع في التاريخ، ليكون لها علم بما يحدث حولها عبر الصحافة، فلماذا لا تكون الأداة ذاتها، أي الصحافة، محملاً لرسائل المقاومة بالفكر والفنّ والفلسفة والجمال؟ يمكن تخصيص مساحة كاملة للكتابة حول تداوليّة فكرة نيغري، فيما يتعلّق بفنّ الجموع واستنباط "صحافة الجموع" منها، لكن الأهمّ هو الإمكانيّة التي وفّرها نيغري في أن نحوّل آلة الصحافة الضخمة، من الإخبار والتثقيف والإمتاع، إلى آلةٍ ضخمةٍ وجماهيريّة للمقاومة أيضاً.

العالم مجرّد مساحةٍ للمرور نحو العدم، فإمّا أن يملأ الإنسانُ عدمَه بالضحك والجمال والأمل في السعادة، وإمّا أن يخضع لتلك الأيدي الخفية القاتلة والسائرة نحو العدم بدورها.

الإعلام مصطلح ساهم مستثمروه، بشكلٍ أو بآخر، في موت ملايين الناس، على الأقلّ في القرن العشرين

"كي لا يجوع عربي تائه في هذا العالم العنيف"

من هذا المنطلق، إمّا أن تكون الصحافة اليوم منخرطةً في أفقٍ مقاومٍ للاستلاب الذي يعيشه الإنسان ما بعد الحديث، وإمّا أن تبقى هذه الصحافة مجرّد آلياتٍ تقنيّةٍ وبشريّةٍ مُلحقة بإدارة الإعلام لأحد البنوك أو الشركات الاستثماريّة الكبرى، وهو ليس من تعريف أو من جينات مفهوم الصحافة تاريخيّاً، ولا أقدر، على مستوى الفعاليّة، من أن تكون وسائل الصحافة ملكاً للجماهير ولفنّها وجمالياتها ولتاريخها وعالميتها، فالعالم مجرّد مساحةٍ للمرور نحو العدم، فإمّا أن يملأ الإنسانُ عدمَه بالضحك والجمال والأمل في السعادة، وإمّا أن يخضع لتلك الأيدي الخفية القاتلة والسائرة نحو العدم بدورها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image