طفل صغير لم يبلغ الثامنة من عمره، كما أخبرتني أمه لاحقاً، يجلس بجوارها في السيارة، ويبكي ويطلب منها شرب الماء، ولكنها ترفض. سألتها لماذا لا تجعله يشرب الماء، خاصةً أنه صغير على الصيام، فنظرت إليّ بضيقٍ، وقالت: "حتى يعتاد على الصيام. كلنا كنا مثله". لم تقتنع الأم مع استمرار نقاشي معها، وظلت تردد على أذنيّ الصغير بعض الآيات حتى تحببه بالصيام، وتجعله يرغب في الجنة ويصبر ويتحمل.
صيام الأطفال في سن صغيرة، أصبح ظاهرةً في مجتمعنا المصري، ويدّعي الأهل أن ذلك من مظاهر التقرب إلى الله، ولكنه في الحقيقة وسيلة للتباهي تجعل الأم والأب يتفاخران بابنهما الذي صام رمضان وهو في السادسة أو السابعة من عمره، مثلما يتباهون بحفظه القرآن أكثر من ذويه وممارسته الرياضة وغيرها.
أفكار متوارثة
لا ينظرون إلى كونهم أطفالاً، ولكنهم يفكرون في أن هذه عادات فعلها أهلهم معهم منذ الصغر، وحتى لا يعيب عليهم أحد إن وجدهم يسمحون لأطفالهم بالإفطار، ولا يشجعونهم على التعود على أداء الفريضة.
صيام الأطفال في سن صغيرة، أصبح ظاهرةً في مجتمعنا المصري، ويدّعي الأهل أن ذلك من مظاهر التقرب إلى الله.
سامية علي (30 سنةً)، من كفر الشيخ، تقول لرصيف22 عن ذلك: "الصيام جيد للصحة، وأرى أن الطفل يجب أن يعتاد على الصوم في سن مبكرة حتى يعرف فوائده وأهميته لدى الله سبحانه وتعالى. ابني الآن عمره 13 سنةً ويصوم رمضان منذ أن كان في السابعة، وذات مرة كان مريضاً ولم يسمح له والده بالإفطار حتى لا يستسهل الموضوع".
وعن الرخصة التي أعطاها الله للمرضى للإفطار، تقول سامية: "أنا شعرت بأنه يتدلل. يعني يريد أن يفطر من دون سبب قوي. لم يحلل الله الإفطار عند أي مرض".
بدوره يروي محمود حسان (38 سنةً)، من محافظة البحيرة: "ابني في السابعة من عمره. في العام الماضي كنت أحببه بالصيام بأن أقول له ‘لو صمت اليوم كله سأكافئك’، وبالفعل صام آخر عشرة أيام من رمضان كلها".
كذلك، يبلغ ابن نيفين محمود، وهي من الإسكندرية، ست سنوات، وهي تجعله يصوم حتى يعرف فروض الله في هذه السن وفق تعبيرها، وتضيف السيدة الأربعينية لرصيف22: "الصراحة أنا لا أجد في ذلك مشكلةً. في العام الماضي كان يصوم نصف اليوم وهذه السنة صام من أول يوم طوال النهار. أحياناً يبكي من الجوع ولكني أشجعه وأحثّه على الصيام أنا ووالده".
طاعة مؤقتة
خبيرة الإرشاد النفسي، الدكتورة سيهار صلاح، قالت في تصريح لرصيف22: "الأهل يعتقدون أن أولادهم بهذه الطريقة سيصبحون الأفضل، ويريدون أن يجعلوهم متدينين، ولكن هذه الطريقة خطأ، وهي التي عرفوها فقط من أهلهم ويكررونها مجدداً، ولكن هذا يأتي بنتيجة عكسية. التدين ليس فيه تعوّد وليس التعوّد تديناً. أي نوع من الإجبار خطأ، وعندما يزول الإجبار والضغط تسقط السلطة، فعندما يصل الطفل إلى سن المراهقة مثلاً لن يتحكم فيه أهله. القناعات أو المبادئ التي اكتسبها الشخص بالضغط تسقط عند أول اختبار، مثلما نرى عندما يسافر البعض إلى الخارج وتتغير تصرفاتهم".
الصيام فريضة للقادرين والبالغين، وحتى الآن أطلب من ابني أن يأكل في حال شعوره بأي دوخة أو تعب، حتى يكون محباً للصيام تقرّباً إلى الله وليس إرضاءً لأي شخص. كل ما يفعله الأهل من إجبار أطفالهم على الصيام هو تقليد أعمى من دون أي هدف ديني
لذلك، ترى طبيبة الصحة النفسية، أن الصيام في هذه السن يسبب أثراً عكسياً، وتشرح عن ذلك بالقول: "الارتباط الاشتراطي كارثة، وهذه عملية موجودة في علم النفس، فإن وُجد المثير تحدث الاستجابة. أي لو شعر الأطفال بأن الصيام مشقة سيكرهونه أو سيأخذون موقفاً منه، ولن يقدروا على رؤية أي جوانب إيجابية فيه".
لذلك من المهم كما تقول الخبيرة، وعند تقديم أي مفهوم جديد لأولادنا، أن نقدّمه بصورة إيجابية وجميلة، من دون أي ضغط اجتماعي. وتختم: "للأسف هوس الأهل بالتنافس أصبح كبيراً للغاية. نرغب دائماً بأن نشعر بأن أولادنا هم الأفضل والأشطر والأكثر تفوقاً، والأم للأسف تتعرض للضغط والانتقادات، لذلك تدخل في هذا الماراثون رغماً عنها".
معايرة المجتمع
"يا مفطر"، تلك الكلمة التي يعاير بها الطفل الذي لا يصوم، حتى لو كان مريضاً أو غير قادر، وتُلام الأم التي لا تسمح لابنها بالصيام، ولا تستطيع الوقوف في وجه المجتمع والأهل.
سلمى محمد (33 سنةً)، من الجيزة، قالت لرصيف22: "هذا الموضوع يستفزني كثيراً. في العام الماضي أجرى ابني عمليةً جراحيةً بسيطةً، وكان عمره عشر سنوات، وعندما أتى شهر رمضان لم أكن أرغب في أن يصوم. سمح له والده بالإفطار يومين فقط، ثم أمره بالصيام، وعندما كان يراه أولاد عمه وهو يفطر كانوا يضايقونه بكلامهم، ولذلك رفض أن يفطر بعد ذلك وطبعاً شجّعه زوجي الذي لم يقتنع بأنه فعلاً ما زال صغيراً".
وأضافت سلمى: "للأسف نحن في المجتمع نهتم بكلام الناس أكثر من أي شيء آخر. ربما نقول إننا نفعل ما نفعله تقرّباً إلى الله، ولكني أعرف أن الله لا يقول ذلك".
وبشكل مشابه تحدثت هدية عزت (35 سنةً)، بالقول: "في شهر رمضان أذهب أنا وزوجي إلى أهله، وهناك تتقابل ابنتي ذات الأعوام السبعة مع أولاد أعمامها وعماتها وهم في سن قريبة من سنّها، وتجدهم صائمين، ومن كثرة معايرتهم لها لأنها تفطر، تتأثر كثيراً نفسياً. لم أعد أحب أن أذهب إلى هناك وخاصةً في شهر رمضان، بسبب هذه العادة الغريبة على الإسلام. كيف أطلب من طفلة صغيرة ألا تأكل أو تشرب كل هذه الساعات؟".
نقول إننا نفعل ما نفعله تقرّباً إلى الله، ولكني أعرف أن الله لا يقول ذلك.
أما حسام محمود (42 عاماً)، فقد رفض أن يجعل ابنه وهو في الصف الثالث الابتدائي أن يصوم، لأنه ضعيف وما زال صغيراً جداً. "لكن للأسف من أول شهر رمضان يتنمر عليه زملاؤه لأنه يفطر، وهذا شيء مرفوض وغريب. ذهبت إلى المدير ولكن لا فائدة، تبدو مشكلةً ليس لها حل".
"تقليد أعمى"
في الوقت الذي يخضع فيه البعض لضغوط المجتمع، هناك آخرون لا يعيرون بالاً للأمر، ولا يهتمون إلا بصحة أطفالهم.
سعيدة فوزي (55 سنةً)، من محافظة الجيزة، قالت لرصيف22: "أوصيت ابني حتى لا يجعل أولاده الصغار يصومون. حفيدي الأكبر عمره ثماني سنوات والصغير خمس سنوات، ربّنا كتب الصيام على القادر والبالغ، ولا يجوز أن نفرض الصيام على الأطفال الصغار الضعاف".
ذات مرة حدثت مشكلة مع عزة عبد المنعم (38 سنةً)، عندما أرسلت مع ابنها ذي الأعوام العشرة "سندويتشات" إلى المدرسة. "للأسف رجع من دون أن يأكلها لأن غالبية أصدقائه صائمون. ذهبت إلى المدرسة حتى أحاسب المسؤول، وشعرت بذنب كبير. ما يحدث الآن وما تفعله الأمهات والآباء تخلّف وفهم خطأ للدين".
في العام الماضي أجرى ابني عمليةً جراحيةً بسيطةً، وكان عمره عشر سنوات، وعندما أتى شهر رمضان لم أكن أرغب في أن يصوم. سمح له والده بالإفطار يومين فقط، ثم أمره بالصيام، وعندما كان يراه أولاد عمه وهو يفطر كانوا يضايقونه بكلامهم
كذلك كان عماد عبد الله، وهو رجل أربعيني يقطن في القاهرة، يرفض صيام ابنه الذي أتمّ هذا العام 13 سنةً من عمره. ويقول لرصيف22: "في رأيي الصيام فريضة للقادرين والبالغين، وحتى الآن أطلب منه أن يأكل في حال شعوره بأي دوخة أو تعب، حتى يكون محباً للصيام تقرّباً إلى الله وليس إرضاءً لأي شخص. كل ما يفعله الأهل من إجبار أطفالهم على الصيام في سن السادسة أو السابعة هو تقليد أعمى وانجراف وراء الأهواء من دون أي هدف ديني".
الأخصائية النفسية شيماء العيسوي، فسّرت المشكلة التي يعاني منها المجتمع في هذا الإطار، وقالت في حوارها مع رصيف22: "إجبار الطفل على الصيام جزء من سعي الآباء المتواصل ليكون أبناؤهم وبناتهم متميزين في كل شيء، ويريدون أن يصوموا مثل أقاربهم، ويحفظوا القرآن في هذه السن، حتى يتباهوا بهم، بالرغم من أنه من الممكن ألا يمتلكوا أي ملكة للحفظ، فيتحول الأمر إلى معاناة بالنسبة إليهم".
وتشير الأخصائية إلى أن أموراً كهذه يمكن أن تؤثر على الشخص مستقبلاً. وتشرح عن ذلك بالقول: "هناك احتمالان: إما أن يصاب مستقبلاً بوسواس قهري فيتحول إلى شخص يريد كل شيء منضبطاً، وقد يكون على العكس مهملاً جداً ولا يملك أي رغبة في أي نشاط. أما من الناحية الدينية، فقد يتحول إلى متطرف للغاية، والتطرف الذي نتساءل دائماً عن مصدره يأتي من هذه الممارسات، وإما أن يصبح ملحداً من دون أي انتماء ديني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 10 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت