رمضان بالنسبة لي هو ليل الاحتفالات المُبهجة، حيث هواء المُعز النقي، وساحة الحُسين، وضحكات الصغار، وحكاوى الكبار، ومواسم الدراما التي لا تنضب، وفي الخلفية أغاني التراث مثل: "وحوي يا وحوي".
الأجواء الرمضانية في مصر لا تملك أمامها إلا الوقوع في غرام تفاصيلها الصغيرة.
ومن المتعارف عليه أن الحالة الإبداعية لأغلب الكتاب المصريين تتأثر بالطقوس الرمضانية بشكل كبير، خاصة عند غير المسلمين، مثل الأقباط، وهو ما يرويه لنا القاص والروائي عصام راسم، مؤلّف "الحكروب"، و"رقص إفريقي"، و"ضجيج الذاكرة"، و"كان يشبهني بالضبط".
التحول إلى كائن ليلي
في البدء، يعرف راسم نفسه لنا، قائلاً: "أنا كاتب مصري، مهموم بالقضايا الإنسانية بشكل عام، وقد يكون لي تكوين ثقافي له سمات محددة الملامح، كقبطي مصري له تراثه وموروثه الثقافي الخاص، إلى جانب الموروث المصري والإنساني الذي يضمنا جميعاً".
"يلفت نظري في رمضان الجوّ الاحتفالي الجميل، وتلك الأجواء التي تعكس بوجه الخصوص روح مصر عبر العصور وتكوينها الوجداني، وتوق المصري إلى الاحتفال وإذكاء روح الفرح والبهجة في كل ما يحيط به من مناسبات".
يعرف راسم الحالة الاحتفالية ذات الخصوصية المصرية بأنها "حالة شعبية عابرة للزمن، تبدأ من أصعب الأزمات وهو الموت، إلى أن تصل إلى الأعياد والمناسبات المبهجة، والتي منها بالطبع شهر رمضان، والذي يقابله المصريون بالذات بروح احتفالية كبيرة".
يمتلك راسم تجربة ثرية وذكريات عريضة، غائرة بتفاصيلها في تكوينه هو والمصريين، خاصة بشهر رمضان، وذلك يعود إلى "أننا أبناء ثقافة عربية ومصرية واحدة، تختلط بها الاحتفالات، سواءً كانت تلك التي تخصّ هذا الفريق أو ذاك". يتذكر راسم طفولته، عندما كان هو وأصدقاؤه يتلهفون على الكنافة وحلويات رمضان، "وكل يوم ننتظر انطلاق مدفع الإفطار بمنتهى اللهفة والترقب، مثلنا مثل أقراننا المسلمين، وكأن انطلاق المدفع عند المغرب إيذاناً بالعودة لاستلام مفاتيح حريتك من يد الله، الذي أجبرنا على التقيد بطقوس معينة حتى فترة الغروب".
يتحول راسم إلى كائن ليلي في رمضان، فلا يخرج إلا بعد غروب الشمس، حتى لا يتصادم مع طقوس الصيام، يقول: "ولا أتصادم أيضاً مع بعض السطحيين الذين يأخذون مظاهر رمضان كنوع من التقوى المزيفة، ويحاولون فرض تعاليمهم الدينية السطحية على الآخرين، وقد تصل الي حدود النزاع وفرض الوصايا أحياناً، خصوصاً بعد صعود النعرة الوهابية المتشدّدة في المجتمع، والتي سعت بدورها إلى تفريغ كل الأمور والمعاني من مضمونها العميق والجميل، واكتفت بالتشدّد والتعصب، ومحاولة نفى هذه الروح المتسامحة الاحتفالية من المشهد".
"وكل يوم ننتظر انطلاق مدفع الإفطار بمنتهى اللهفة والترقب، مثلنا مثل أقراننا المسلمين، وكأن انطلاق المدفع عند المغرب إيذاناً بالعودة لاستلام مفاتيح حريتك من يد الله، الذي أجبرنا على التقيد بطقوس معينة حتى فترة الغروب"
استلهم عصام راسم الطقس الرمضاني في أعماله القصصية، مثل مجموعته التي لم تنشر بعد "حكايات قديمة من خندق الذاكرة"، والتي نالت جائزة في مجال أدب الحرب، ومنها قصة قصيرة بعنوان "مدفع رمضان".
وعن التفاصيل الرمضانية التي تجذبه كقاص، يقول: "هناك مشاهد كثيرة تشد الانتباه، جاءت في سياقها في بعض الكتابات الروائية التي تخص رمضان، فمثلاً فراغ الشوارع والميادين من الناس لحظة انطلاق المدفع، لحظة مشوبة بالجلال، وتلك السكينة التي تعقب انطلاق أذان المغرب، لحظات استثنائية ولها جلال وفرادة محببة".
"موائد الرحمن وصعود روح التآخي والتراحم والترابط الأسري في هذا الشهر الكريم، شيء جميل وملفت".
وحين سألته عن أهم الأفلام التي ترد على خاطره عندما يُذكر شهر رمضان، ابتسم، وقال: "فيلم "في بيتنا رجل" للمخرج العظيم هنري بركات، وكاتب السيناريو الأديب الكبير إحسان عبد القدوس، فيلم رغم بعده السياسي، إلا أنه يحمل لغة سينمائية راقية، ولغة حوار واعية جداً، وحركة كاميرا عبقرية، وفي نفس الوقت يعكس تلك الأجواء الرمضانية المتسامحة، وروح الأسرة المصرية، وخصوصاً العائلة التي تنتمي للطبقة المتوسطة في ذاك العهد، ومدى الترابط والروحانية والإيمان الحقيقي للشخصية المصرية، والتي لا تشبه الإصدار المتشدد الذي ينتجه الفكر الوهابي المتشدد في زماننا هذا".
ويعرب راسم عن انزعاجه من فرض الآخرين قناعاتهم الدينية عليه، فهو لا يزعج الآخرين بخصوصياته الدينية، أو طقوسه، وينتقد صعود حالة من التشدّد والتعصب عند البعض، "تصل إلى حد مهاجمة الآخر المختلف معهم في الديانة أحياناً، وفرض جو مشحون بالتربص حتى لو جاء بأي تصرف عفوي غير مقصود، والكل يقع تحت طائلة مفهوم الصيام والإفطار، وكأننا أصبحنا وكلاء الله على الارض نحاسب من نشاء ونعفو عن من نشاء".
أجواء الخمول السحري
أما بالنسبة إلى الروائي الشاب مارك أمجد، مؤلّف "نشيد الچنرال"، و"البطريركية"، و"القبودان"، فرمضان بالنسبة له "حالة من الخمول السحري تسيطر على هواء المدينة وشوارعها".
يقول: "ربما الساعة الذهبية في يومي الرمضاني هي قبل إطلاق المدفع بساعة، تنمحي أبواق السيارات، يعمّ صمت موحش في الشارع، لكنه حاني وحميمي كحُمرة الشفق، عندها أشغل لائحة موسيقاي، الإيطالية على الأغلب، وأنهمك في القراءة والتحضير لكتابي القادم".
"في هذه اللحظة على وجه التحديد يخيَّل للمرء أنه ساكن القاهرة الأوحد، كأن المدينة أُنهكت وراحت أخيراً في سبات عميق، لذا أعتبر هذا الشهر مُهلة جيدة لمراجعة مشاريعي العالقة".
استلهم مارك الأجواء الرمضانية في رواية "القبودان"، والتي تدور حول حرب تخوضها البحرية المصرية لمحاربة الأسطول الروسي خلال القرن التاسع عشر، لكن توقيت الإبحار للهجوم يقع خلال شهر رمضان، ما يشكّل تجربة قاسية للجيش، فعليهم الموازنة بين صومهم وتنفيذ المناورات العسكرية في الوقت ذاته، يضيف مارك: "الحقيقة أني استمتعت أثناء تخيّل هذه المشاهد وكتابتها، خاصةً أني عاصرت أجواء مشابهة وسط زملائي الجنود خلال شهر رمضان، حين أديت خدمتي العسكرية بسلاح القوات البحرية".
ينزعج مارك هو الآخر من أجواء التشدد الديني في رمضان، ويحلم بيوم لا يهتم الناس فيه بمن صام ومن لم يصم، "وبالأخص المسيحيين العرب الذين يجدون أنفسهم مضطرين لتغيير عاداتهم اليومية حتى لا يتعرضون لمضايقات، فمثلاً هناك صور منتشرة هذه الأيام لمسلمين يصلّون في وسط شوارع الولايات المتحدة، قابلتها حالة احتفاء محمومة على صفحات التواصل الاجتماعي، وهذا شيء ليس عجيباً من الغرب الذي تجاوز عدة مراحل في مسائل الآخر والمثليين والملونين ومهام النساء، لكن هل من حق عربي، أياً كانت ديانته، أن يأكل في أحد شوارع بلده في وضح النهار إذا جاع أو إذا لم يكن متديّناً؟".
التربية الإبداعية
"شهر رمضان له فضل كبير في تربيتي إبداعياً وفنياً"، يقول الروائي ملاك رزق، صاحب "الراهبة الغجرية"، و"سلالات منقرضة".
يوضح: "الذي جذبني لعالم الحكايات هو الكاتب أسامة أنور عكاشة، حيث كان له مسلسل سنوي في رمضان، وكان وقتاً مقدساً لي، مسلسلات مثل: (أهالينا)، (امرأة من زمن الحب) وغيرها".
عشق ملاك منذ طفولته الخروج من المنزل مع أصدقائه وقت الإفطار، حيث الشوارع الخالية، وحيث يُقدم لهم فواكه وعصائر جوافة، موز، وأطباق القطايف، وحين بلغ مرحلة الثانوية كان الفضول يأخده للجلوس على موائد الرحمن، يقول: "أجلس بين الناس من مختلف الطبقات والأعمار والثقافات، وأزعم أنني استلهمت ملامح بعض الجالسين على تلك الموائد في شخصيات رواياتي، فهذه الموائد مكان زاخر للمبدع، حيث الملامح المتنوعة والشخصيات الزاخرة بالاختلاف".
"أجلس بين الناس في موائد الرحمن، وأزعم أنني استلهمت ملامح بعض الجالسين على تلك الموائد في شخصيات رواياتي، فهذه الموائد مكان زاخر للمبدع، حيث الملامح المتنوعة والشخصيات الزاخرة بالاختلاف"
ويشرح ملاك بابتسامة عذبة :"أنا من منطقة شعبية، حيث الاهتمام بالأجواء الرمضانية كبير من ناحية الزينة، وتعليق الفانوس الضخم في منتصف الشارع وأسلاك الإضاءة، والمقهى في هذه الأماكن له نكهة خاصة، ويمكن أن تخرج بحكايات عديدة من جلوسك هناك بعد الفطار، بمجرد الاستماع فقط".
اختلفت الأمور الآن في عيون ملاك عن رمضان أيام الطفولة والثانوية العامة، "اكتفى الناس بتوزيع التمر في أكواب بلاستيكية بيضاء بسبب صعوبة المعيشة وغلاء الأسعار. والحالة الاقتصادية التي يمكن أن تعرفها بقليل من التركيز فيما يوزع وقت الإفطار، لم تعد تشم روائح اللحوم والفراخ والأسماك من نوافذ الجيران إلا قليلاً. ولم تعد ترى عادة تبادل الأطباق بين الجيران".
يستغل ملاك أوقات ما بين الواحدة ليلاً والرابعة فجراً للكتابة، فـ"الحالة الروحانية، وبالأخص صوت المؤذن في تلاوة الابتهالات، وهدوء الليل، يمنحك مزيجاً من التأمل والراحة لمباشرة عملك".
وينتقد ملاك هو الآخر أجواء فرض طقوس الصيام على الآخرين، فغالباً ما يشعر بالحرج في أماكن العمل، إلى الدرجة التي يضطر فيها إلى منع نفسه عن الطعام، يقول: "ما يضايقني هو أن الله لا يحتاج إلى تطبيل، كما حالة السيولة المفتعلة التي نشهدها في رمضان".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع