شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
اتهامات بالإباحية وأجور متدنية... حكايات عارضي أزياء في سوريا

اتهامات بالإباحية وأجور متدنية... حكايات عارضي أزياء في سوريا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 11 أبريل 202203:47 م

اختار رامي نخال (25 عاماً)، شقّ طريقه في مجال عرض الأزياء لشغفه المفرط في الأناقة والشياكة. وباختياره هذا، تحتمت عليه مواجهة نظرات المجتمع المسيئة وأصحاب الظنون السيئة، لا سيما وأنه ينتمي إلى عائلة دمشقية محافظة.

يقول لرصيف22: "أعشق العمل في الإعلانات وعرض الملابس. تحثني هذه المهنة على الاهتمام بأناقتي ومظهري العام والظهور بصورة غارقة في المثالية، فأنا مُطالَب على الدوام بأن أظهر في أبهى حلة أمام الناس".

بيئة رامي كغيرها من البيئات السورية، ترفض الأدوار غير التقليدية للرجل. عن ذلك يقول: "للأسف الشديد، بيئتي الاجتماعية التي تربيت فيها لا تتقبل الرجل الذي يظهر على الشاشة ويعرض الملابس، والمنطقة التي أعيش فيها في الشام القديمة معروفة بشكل عام بتحفظها الاجتماعي والديني، وتخضع لقوانين العادات والتقاليد الاجتماعية، لكن لحسن حظي ظفرت بأسرة منفتحة ومختلفة عن المحيط".

بيئة مهند خوري (22 عاماً)، لا تقل تحفظاً عن تلك التي نشأ فيها رامي، فالمقولة السائدة في مدينة حلب التي يعيش فيها الشاب هي "أنت تعمل في عرض الأزياء، إذاً فأنت مثلي الجنس أو بلا أخلاق ولا مجال للنقاش".

يعتقدون بأن الشاب الذي يزيل شعر جسده يتشبه بالنساء، فما بالك بمن يعمل في مجال الأزياء؟

يعقّب الشاب بالقول: "في الدرجة الأولى، لدينا كمية من التخلف التي تسيطر على المجتمع مع عدم قدرته على الفكاك من الأفكار النمطية، كما يعتقدون بأن الشاب الذي يزيل شعر جسده يتشبه بالنساء، فما بالك بمن يعمل في مجال الأزياء؟".

على المقلب الآخر، فتحت بيئة فراس بيروتي (38 عاماً)، ذراعيها له وكانت أكثر انفتاحاً وتقبلاً للمهنة، إذ لم يواجه الشاب الكثير من الرفض في هذا الخصوص ضمن الحي الذي يعيش فيه في دمشق. عن ذلك يقول: "بيئتي منفتحة ومتنوعة ثقافياً واجتماعياً، ومنذ الصغر وأنا أسمع جمل الإطراء والمديح والتشجيع من عائلتي ومحيطي على الدخول في هذا المجال، كونهم يرون أنني أحمل المواصفات المطلوبة لهذا النوع من العمل".

وتُساق في المجتمع السوري سلسلة لا تنتهي من الاتهامات ضد عارضي الأزياء. "فاجر، وعربيد، وغير جدير بالاحترام، ومروّج للإباحية، ومثلي الجنس، وقوّاد وغيرها". وتُبنى هذه الاتهامات على صورة نمطية ينسجها ويصدّرها المحيط ضمن أحكام جاهزة مسبقة، ويعممها من دون الخضوع لأي استثناءات، ثم يتداول هذه الأفكار على أنها حقيقة مثبتة لا تقبل الطعن، ويتطلب الأمر ممن يعملون في حقل عرض الأزياء والإعلانات تقديم مرافعات يدافعون فيها عن أنفسهم. ولا تتوقف معاناتهم عند هذه النقطة، إذ يعملون في ظروف اقتصادية صعبة، لكن كل ذلك لا يحدّ من طموحاتهم للوصول بمهنتهم نحو آفاق جديدة.

صدفة واجتهاد

لعبت الصدفة دوراً كبيراً في حياة الشبان الثلاثة، وشكلت منعطفاً مهنياً لهم. تحدٍ بسيط قبل ثلاثة أعوام تسبب بدخول رامي مجال عرض الأزياء في وكالات عدة، إذ تمكن الشاب من ذلك بفضل خبرته وبراعته في فحص الأقمشة ومعرفة مصدرها وجودتها، وذلك لعمله في شراء الملابس وبيعها في سوق الحميدية في دمشق.

رامي نخال - تصوير ياسر عيسو

يقول: "بدأت القصة حين تقدمت للعمل في قسم المبيعات في وكالة زارا، وحين رآني مدير القسم سألني مازحاً عن نوعية القماش بعد إعجابه بتنسيق ثيابي. وعندما أجبته بأن القماش تركي المصدر، طلب مني فحص ملابسه ومعرفة مصدرها، وعندما أعطيته الجواب الصحيح فوجئ بخبرتي، ثم طلب مني العمل معهم، إلى جانب تصوير الملابس، لامتلاكي جسماً رياضياً ووجهاً وسيماً على الكاميرا".

وفي سن الثامنة عشر، حصل فراس على عرض مغرٍ للعمل في عرض الأزياء من قبل صديق العائلة المقرب، بوصفه يمتلك معملاً كبيراً لتصنيع الألبسة، مشرعاً له الأبواب العريضة للدخول إلى هذه المهنة، لتصبح في رصيده ثلاثة وعشرون سنةً من الخبرة، إلى جانب دراسته التجارة والاقتصاد.

يقول: "في عام 1999، التقيت بصديق العائلة الذي عرض علي العمل معه والترويج للملابس التي يصنعها، لامتلاكي المواصفات المطلوبة، فأنا منذ الصغر أهتم بجسدي وبمظهري الخارجي، كما أن ملامح وجهي مطلوبة. وافقت على الفور من دون تردد". شكلت هذه الفرصة انطلاقةً للشاب الذي حظي بفرص عمل عديدة في وكالات "ماجيلا"، و"Six Degrees"، و"Syrian for advertising and marketing"، طامحاً إلى العالمية.

للصدفة حيز أيضاً في مسار عمل مهند، الذي يدرس الأدب الإنكليزي. فمنذ عامين تقريباً تعرّف الشاب إلى صاحب أحد محالّ الألبسة الرجالية عن طريق فيسبوك، ويشرح: "كنت أنشر صوري على حسابي الشخصي، فأرسل لي رسالةً على الخاص، وعرض عليّ تصوير الملابس التي يصنعونها، فوافقت. في البداية ظننته يمزح معي، لكن اتضح أنه جاد وطلب مني موعداً للمقابلة".

بيئتي الاجتماعية التي تربيت فيها لا تتقبل الرجل الذي يظهر على الشاشة ويعرض الملابس، والمنطقة التي أعيش فيها معروفة بشكل عام بتحفظها الاجتماعي والديني، وتخضع لقوانين العادات والتقاليد الاجتماعية، لكن لحسن حظي ظفرت بأسرة منفتحة ومختلفة عن المحيط

ليس مجرد إعلان

يعتقد رامي أن العمل في مجال الإعلانات يتجاوز فكرة التسويق لمنتَج ما والربح المالي. "تحمل الإعلانات رسالةً هادفةً ومهمةً، فحين أصوّر دعايةً عن افتتاح أحد المشاريع الطرقية في البلد، فهذا يدلّ على محاولات النهوض في سوريا بعد سنوات الحرب، والأمر لا يقتصر على عرض الملابس فحسب".

لا تشكل مهنة عرض الأزياء أي عائق أمام رامي في حال فكّر لاحقاً في التقدم إلى عمل ما، والأمر يعود إلى أن جميع خيارات الشاب المهنية منصبة على ما يتعلق بالشاشة: "درست الإعلام والتمثيل، وهذان المجالان مرتبطان بعرض الأزياء، بل ربما مرغوبان ويساهمان في تنمية مهارتي، فالتعامل مع الكاميرا أمر مهم جداً وشاق على منصة العرض، ويتطلب ديناميكيةً ومرونةً وكسراً للرهبة".

وكذلك الأمر بالنسبة إلى فراس، باستثناء تنسيق الوقت. فالشاب يعمل مدير أمن وسلامة مهنية في إحدى المنظمات الدولية. ويوضح: "العائق الوحيد هو الوقت والتنسيق بين العملين، أما من ناحية التقبل، فأغلب عملي يكون بين أوساط المنظمات والشركات الأجنبية وهم متقبلون للفكرة جيداً، بل حتى يشجعونني على المضي قدماً".

فراس بيروتي - تصوير محمد فلاحة

أما مهند، فيفكر في البحث عن فرصة عمل في دبي أو تركيا، لأن المهنة هنا لا تلقى رواجاً ولا نفعاً مادياً. يقول: "أفكر في السفر بعد التخرج من الجامعة. مهما بلغنا من التطور فسنبقى في الصفوف الأخيرة في هذا المجال، ناهيك عن أن هذه المهنة في الخارج تدرّ الكثير من الأموال على خلاف ما هي عليه هنا. حالياً أعمل على تكوين سمعتي لانطلق لاحقاً".

أجور متدنية

لا تُعدّ مهنة عرض الأزياء العمل الأساسي لفراس، بل هي ثانوية، فالكسب المادي من ورائها يبقى محدوداً لا يسد نفقات العيش في سوريا، والتي ترتفع يوماً بعد آخر، لكن يمارسها الشاب لولهه الكبير بها وحبه للشهرة منذ الصغر.

أنا أقبل بهذه الأجور من أجل بناء سمعتي كعارض أزياء، والحصول على فرص أفضل مستقبلاً.

يقول: "فرص عرض الأزياء في البلاد محدودة، لكن كوني محترفاً وأمتلك المقومات المطلوبة وأزاول المهنة منذ سنوات، أطلب الأجر الذي استحقه وفق الجهد المبذول والجهة المعلنة ومدة العرض ومكانه، وأحياناً توافق الوكالة، وأحياناً أخرى ترفض".

الأمر ذاته بالنسبة إلى الشابين الآخرين، فمهند يجني مبلغاً رمزياً من جلسات التصوير لإحدى ماركات الألبسة التجارية. يقول: "أتقاضى مبلغ 1،500 ليرة سورية (أقل من نصف دولار) على الصورة الواحدة، وتصل في اليوم الواحد إلى عشر صور. مهنة عرض الأزياء ضعيفة في سوريا، بينما تُعدّ مهنةً حقيقيةً في الخارج ومربحةً مالياً".

يتفق معه رامي الذي يؤكد على الأجور المتدنية في مجال عرض الأزياء: "بالفعل لا نتقاضى مبالغ كبيرةً، بل على العكس تماماً، لكن الناس يظنون أننا أثرياء. أنا فقط أقبل بهذه الأجور من أجل بناء سمعتي كعارض أزياء، والحصول على فرص أفضل مستقبلاً".

مهند خوري - تصوير بكري مكي

نظرة نمطية وتحرش

بشكل عام، يُنظر إلى عارضي الأزياء والعاملين في مجال الإعلانات المرئية في سوريا على أنهم "مثليون"، وهذا ناتج بشكل أساسي عن صور نمطية ترتبط بالشكل والملابس وطريقة تصفيف الشعر. ومع عدم اتّسام النظرة إلى مجتمع الميم-عين في سوريا بالتسامح، وتعرضه للاضطهاد، يعاني هؤلاء الشباب من مواقف مزعجة في أثناء عملهم وفي حياتهم بشكل عام.

يقول رامي: "يتراشق المحيط الكثير من الكلمات المسيئة عنّا. وأحكاماً مسبقة، والأسوأ أنها شمولية". ويشير إلى تلقيه رسائل من ذكور يطلبون منه إقامة علاقة جنسية معهم، ويكتفي هو بإخبارهم بأنه شخص مغاير الجنس، ويرفض طلباتهم، وأحياناً يحظر بعضهم إن تمادوا في الإزعاج.

بينما يرى فراس "أن مجال عرض الأزياء كسواه من الأعمال التي قد يصادف فيها وجود مغايري/ ات الجنس والعابرين/ ات جنسياً وكذلك المثليين/ ات، لكن هذا لا يعني أن الجميع كذلك". ولا يلقي الشاب بالاً سواء لحجم الانتقادات التي توجه إليه أو لطبيعتها. يتابع: "أتجاهل كلامهم وانتقاداتهم كقولهم عني إنني إنسان تافه، ولا أتأثر بترّهاتهم. في أي مجتمع أناس يتقبلون فكرة عرض الأزياء للرجال وآخرون يعبّرون عن آرائهم بطريقة مسيئة وهمجية. أكتفي بالتجاهل وأعمل بالمثل القائل: ‘ابعد عن الشر وغنِّ له’".

ويستذكر فراس أحد المواقف التي تعرض لها خلال إجراء مقابلة عمل في لبنان. "حاول أحد الوكلاء استدراجي لإقامة علاقة معه، وعرفت أنه مثلي الجنس، لكني رفضت الموضوع ففقدت فرصة الشغل. هناك مشكلة حقيقية في هذا المجال، وهي أننا قد نخسر فرصة عمل مهمةً بسبب رفضنا تحقيق الرغبات الجنسية لبعض أصحاب الوكالات وأرباب العمل".

أتجاهل كلامهم وانتقاداتهم كقولهم عني إنني إنسان تافه، ولا أتأثر بترّهاتهم. في أي مجتمع أناس يتقبلون فكرة عرض الأزياء للرجال وآخرون يعبّرون عن آرائهم بطريقة مسيئة وهمجية. أكتفي بالتجاهل وأعمل بالمثل القائل: ‘ابعد عن الشر وغنِّ له

أما مهند، فهو يرفض التعميم بشكل قاطع: "وجود أشخاص مثليين في مجال عرض الأزياء لا يعني أن الجميع كذلك، والمجال مفتوح وفيه أشخاص من مختلف التوجهات. للأسف الجميع هنا يصفنا بأننا أناس بلا شرف ورخيصون، لكن من يحافظ على سمعته ومهنته لا يجب أن نحطّ من قيمته. وأنا شخصياً تعرضت لمحاولات تحرش لكني كنت قادراً على صدها بهدوء وبطريقة غير مسيئة".

وبالرغم من صعوبة الانسلاخ عن المجتمع، غير أن مهند لا يكترث بعادات الجماعة والبيئة طالما يحافظ على عمله، بل يصرّ على إغاظة محيطه ونشر صوره خلال جلسات التصوير. وعن ذلك يقول: "معظم أصدقائي يستهجنون الفكرة، بينما الفتيات يجدن الأمر مثيراً للإعجاب". وبالنسبة إلى أسرة الشاب فهي لا تمانع عمله طالما يعمل بشرف وإخلاص ويحافظ على سمعة عائلته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard