كانت علاقة شادي إبراهيم (47 عاماً) وزميلته في العمل ابتسام سعد (33 عاماً) -والاسمان مستعاران- وطيدة. لكنه فوجىء بتطرقها إلى الحديث عن علاقتها الحميمية مع زوجها السابق في بعض الأحيان.
يقول لرصيف22 إنه شعر وكأنه في "ورطة" عندما كانت زميلته تبدأ هذا الحديث لا سيّما أنها لم ترضخ لمحاولاته المتكررة تغيير الموضوع أو إظهار التجاهل له. ويضيف: " كانت أقرب الزملاء والزميلات لي. لكنني مرتبط وأحب زوجتي ولم أكن أرغب أن تتطور نقاشاتنا إلى هذه المنطقة". يوضح أنه طلب نقله إلى فرع آخر للتخلص من "ملاحقتها".
إبراهيم ليس الرجل الوحيد في مصر الذي يقع ضحية تحرش جنسي من سيدة. في بحث ميداني لوحدة الدراسات الاجتماعية بمركز حماية المجتمع في المركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، في نطاق القاهرة الكبرى، شمل 1000 رجل، تبيّن أن 9% تعرضوا لتحرش جنسي من نساء.
تُعطي هذه النتيجة لمحة عن انتشار التواصل غير المرغوب برجال من سيدات في مصر وإن كان مسكوتاً عنه لاعتبارات الوصم وبعض الأفكار الذكورية.
"استسلمت واستمتعت"
محمود البنهاوي (33 عاماً)، صحافي، قال إنه تعرض للتحرش من فتيات وسيدات في مرات عديدة كان الشاهد بينها وجود حبيبته التي أصبحت لاحقاً زوجته.
وتابع: "عندما كنت أخرج معها تكرر أن أجد الفتيات يتحرشن بي لفظياً مع نظرات غير مريحة. واحدة تقول ‘يخربيت جمال عينيك‘، وأخرى تخاطب حبيبتي: ‘ما تجيبيه لفّة‘، وهكذا". حتّى الرسائل التي تصله عبر تطبيق "صراحة"، والتي أطلعنا على بعضها، حافلة بالتحرشات على غرار: "بتمنى أخلف منك طفل" و"عايزة أتقدم لك وأتجوزك"، مع امتداح جريء لجسده ومظهره.
أكد البنهاوي أن تلك الأفعال والتلميحات طالما أزعجته وجعلته يتساءل لماذا يحدث له هذا ويتساءل أيضاً عما إذا كان رجال آخرون يتعرضون للمثل.
قصة علاء هادي (48 عاماً)، موظف حكومي، مع التحرشات النسائية كانت مختلفة كثيراً. قال لرصيف22 إنه تعرض للتحرش الجنسي من ثلاث سيدات.
قد يؤدي بالرجل إلى "الإدمان، والقلق المزمن، والاكتئاب و/ أو الانتحار"... كيف يقع الرجل أيضاً فريسة التحرّش الجنسي؟ وكيف يحدث التحرّش بالرجال؟
في المرة الأولى، كان شاباً وتعرض لإصابة في لعبة كرة القدم تطلبت جلسات علاجية في مركز خاص. قال إن الممرضة "تمادت وتلكعت" وهي تُجري الجلسة، ثم انتهكت حرمة جسده ووضعت يدها على عضوه الذكري، مستدركاً بالقول: "في البداية، اتخضيت. لكن مع إصرارها وتماديها، انتصب بشدة. في النهاية، استسلمت واستمتعت".
وفي المرة الثانية، التقى مخرجة كانت تعد فيلماً عن التراث النوبي، وأثارها "رقصي، وسماري (لون بشرته)، وأشياء أخرى"، على حد قوله. قال إنها طلبت منه تعليمها اللهجة النوبية، وخلال السهرة تحرشت به، شارحاً "بدأنا الدردشة بأسئلة عادية: شغال إيه؟ متجوز؟ ثم فاجأتني بالقول: ‘باين عليك رياضي وجامد، يا ترى هو كمان جامد؟‘". امتنع هادي عن رواية الحادثة الثالثة.
"شعرة" بين التحرش والغواية
من وجهة نظر د. وليد هندي، استشاري الصحة النفسية، أن "التحرش الجنسي بالرجال من الأمور المسكوت عنها في البيئات العربية حتى بات هناك مفهوم خاطئ شائع بأن التحرش مقتصر على النساء والأطفال في حين أن التحرش بالرجال متعاظم في الدول العربية". قال لرصيف22 إن في العراق معدلات التحرش برجاله تفوق نظيرتها في أوساط نسائه، وإن تونس تشهد معدلات مرتفعة، علاوة على مصر كما تقدم.
ويلفت هندي إلى أن ذلك لا يقلل من فظاعة ما تتعرض له النساء في الدول العربية من تحرشات ومضايقات واعتداءات.
ويوضح أن التحرش الجنسي بالرجال يكون إشكالياً أحياناً بسبب سماته المختلفة عن التحرش بالنساء، ودعا إلى التمييز بين التحرش الجنسي بالرجل والغواية، متابعاً "هناك شعرة بين التحرش (بالرجل) والغواية إذ تحاول المرأة استدراجه إلى علاقة عاطفية وأحياناً التحول من علاقة عاطفية إلى جنسية برضاه، سواء بطريقة جنسية أو لا".
وهو ينوه بأن "محاولة المرأة إغراء الرجل بالجنس للارتباط بها ليس تحرشاً وإنما يسبق التحرش بدرجة. أما التحرش فيكون فيه نوع من الإرغام المتعمد والاستدراج بالابتزاز، فيغدو الرجل ضحية سواء أكان مرغماً على فعل ما أو بسبب الضغط النفسي الواقع عليه".
تتفق معه بسمة محمود، معالجة نفسية وأسرية وناشطة نسوية، إذ تقول إن المغازلة لا تنطوي على أي فعل أو قول إباحي ولا تقتحم خصوصية الشخص أو حدود العلاقة معه بعكس التحرش. وتنبه: "في كل الأحوال، حتى المغازلة تكون غير مريحة وغير مقبولة حين تصدر عن أشخاص غرباء لا يربط بينهم وبين الطرف الآخر أي صلة، أو بدون رضا هذا الطرف الأخير".
"بعض الرجال يخشى الإفصاح عن التحرش لعدم التشكيك في رجولته، وخوفاً من تقلص فرص الزواج، وانحسار فرص العمل، والعزل الاجتماعي والنبذ المجتمعي، والفضيحة وتشويه السمعة والتعرض للتنمر... "
في هذا السياق، توضح ميرا عبد الله، خبيرة ومدربة بموضوع الإعلام والجندر، الحدود الفاصلة بين "التحرش الجنسي" و"المعاكسة/ المغازلة" و"الغواية" و"الإساءة" و"الاعتداء".
تقول عبد الله، وهي مديرة التواصل بالمنظمة العالمية للصحف، لرصيف22، إن التحرش الجنسي هو مضايقة شخص ما بتصرف ذي طبيعة جنسية لكنه يهدف لإهانة كرامة الضحية أو تخويفه وترهيبه لغرض إثبات قوة أو سلطة معينة.
أما المغازلة (المعاكسة)، فتصفها بأنها "محاولة لجذب الانتباه وهي مبنية على الاحترام ولا تتضمن ترهيب الآخر بل تقدر حقه في القبول أو الرفض، مبينةً أن الخلط بين المفهومين وارد ويكون الفيصل فيه "رد فعل" أو "شعور" الطرف المتلقي للفعل/ القول.
وتضرب لذلك مثالاً توضيحياً: إذا دعا مدير موظفه/ ته للعشاء، إذا كان هناك علاقة شخصية مسبقة تكون مغازلة أو تعبيراً عادياً عن الصداقة، وإذا لم تكن هناك علاقة تسمح بذلك يكون الفعل تحرشاً لا سيّما إذا شعر الموظف/ ة بالضغط للقبول.
وتحدد الخبيرة في مصطلحات الجندر "الغواية" (الإغراء) على أنها أكثر حساسية وقد تكون من أشكال التحرش أحياناً، بحسب ردة فعل الطرف الآخر حال تلقيه مثلاً صورة مثيرة لامرأة. إذا شعر بضغط أو تهديد يكون تحرشاً. وتوضح "ممكن نظرة أعتبرها تحرشاً أو مغازلة. الغواية والمغازلة مقبولتان إذا تمتا برضا الطرفين ولم يكن هناك ضغط أو تهديد أو إهانة".
وتعرّف عبد الله "الإساءة" بأنها "مفهوم ينضوي تحته الكثير من المعاني بما في ذلك التنمر، والتحرش، وأي تصرف قد يسيء لشخص آخر أو يؤذيه أو يهينه. ولا تُشترط هنا الطبيعة الجنسية". في حين أن "الاعتداء الجسدي" برأيها يُعد "انتهاكاً لحرمة الجسد وفرضاً لتصرف معين دون رضا الآخر".
تعود عبد الله لتشدد على أن التمييز بين هذه التوصيفات "تقديري وليس معيارياً"، منبهةً إلى ضرورة أن قبول المتلقي للفعل/ القول قبولاً حقيقياً أي دون اضطرار، لتنتفي فيه صفة التحرش كجريمة. "أحياناً كثيرة تخشى الضحية الرفض أي أن القبول ليس دائماً دليلاً على أن الفعل ليس تحرشاً. قبول التحرش قد يكون إجبارياً خشية فقدان السمعة أو العمل"، قالت.
تحرش المرأة بالرجل "جريمة"
وتقول عبد الله إن "التقليل" من خطورة التحرش بالرجل كجريمة وتحويله إلى مادة للسخرية أو الخلط بينه وبين المغازلة عادةً ما يصدر عن رجال بالنظر إلى أن الرجل صاحب السلطة العليا في المجتمعات الذكورية، مشيرةً إلى أن الرجال المثليين جنسياً أو العابرين هم الأكثر تضرراً من ظاهرة التحرش الجنسي، وبخاصة من رجال غيريين، "لأن الرجل الغيري الذكوري بيصير بدو يفرض سلطة على أي رجل لا يشبهه".
من جانبها، تشير محمود إلى أن "القانون (المصري) يحقق المساواة في ما يتعلق بالحماية من جميع أشكال التحرش. المادة 306 مكرر (أ) تتحدث عن عقوبة كل من تعرض للغير دون تحديد جنسه رجلاً كان أو امرأة. كما لم تحدد جنس الجاني".
وتلفت المعالجة النفسية إلى وجود فرق مهم بين تحرش الرجل بامرأة وتحرش امرأة برجل، قائلةً: "نادراً ما تتحرش المرأة برجل لا تربطها به معرفة سابقة. الأغلب أن تتحرش بشخص تعرفه ويعرفها جيداً ولو عبر مواقع التواصل الاجتماعي. بعكس الرجل كثيراً ما يقدم على التحرش بسيدة غريبة (في الشارع أو المواصلات العامة)".
تتفق عبد الله مع هذا إذ توضح: "إلى حد بعيد، لا تتحرش المرأة إلا برجل تعرفه لأن الأماكن العامة مصممة بشكل يخدم الرجل، والمرأة ليس لديها الشعور بالثقة لاستعراض قوتها وفرضها على الرجل. المتحرش/ة ي/ تحتاج مساحة ي/ تقدر يفرض فيها نفوذه/ا".
فرق آخر يشير إليه هندي وهو أن الطرف الواقع عليه التحرش في حالة الرجل لا يكون الأضعف جسدياً، ما يجعل الطرف المتحرِش يعتمد أساليب مختلفة لإرغام ضحيته بعيداً مثلاً عن أساليب التحرش بالنساء كالنظرة المتفحصة.
"أحياناً كثيرة تخشى الضحية الرفض، أي أن القبول ليس دائماً دليلاً على أن الفعل ليس تحرشاً. قبول التحرش قد يكون إجبارياً خشية فقدان السمعة أو العمل"... ما الفرق بين المغازلة والغواية والتحرش الجنسي؟
ومن الأساليب التي ذكرها: التحرش اللفظي، والتهديد، والتوريط بتسجيل أو صورة لابتزازه، والنكات الجنسية أو المزاح الخارج، والتقرب الجسدي غير المرغوب في الأماكن المنعزلة، وإبداء تعليقات جنسية على مظهر الرجل، ومشاركته محتوى جنسياً.
لماذا قد تتحرش امرأة برجل؟
ومن الأساليب الأخرى التي يعتمدها العديد من السيدات في التحرش برجال، بحسب هندي، "إطلاق الشائعات حول سلوكه الجنسي". على سبيل المثال: "أنا سمعت أنك ملكش في السكس". يقول استشاري الصحة النفسية إن هذا من أساليب الضغط التي قد تدفع الرجل إلى الاستجابة أو مجاراة التحرش الجنسي كنوع من الدفاع اللا إرادي عن رجولته.
ويبيّن أن تحرش المرأة برجل يبلغ مداه حين تكون لها سلطة عليه كأن تكون رئيسته في العمل أو صاحبة العمل، مضيفاً أن حالات التحرش بالرجل تتكرر من ذوات القربى وزميلات الدراسة والعمل أيضاً. في دراسة "القومي للبحوث"، ورد أن 4% من الرجال اضطروا لإقامة علاقات جنسية خارج إطار الزواج بناءً على ضغط من سيدات كن معظمهن مديرات أو مالكات للشركات التي يعملون بها.
أما عن أسباب إقدام سيدة على التحرش برجل، فتقول محمود إنها تتنوع بين دوافع نفسية عدة، بينها الاضطرابات النفسية والعصبية، وضعف الوازع الديني والأخلاقي والتربوي، وفرض السيادة والتسلط والشعور بالسيطرة خاصةً إذا كانت صاحبة نفوذ على الرجل. كما ألمحت إلى أن بعض النساء يتأثرن بفكرة رائجة حول تفضيل الرجل المرأة الجريئة حتى أن بعض السيدات لا يستطعن التفريق بين الغزل المقبول والتحرش الجنسي.
إلى ذلك، يقول هندي إن السيدات اللواتي يتسمن بصفات "الشخصية الاندفاعية" قد لا يستطعن مقاومة مظهر الرجل أو جاذبيته".
ويتابع: "بعض الرجال يخشى الإفصاح عن التحرش حتى لا يُتهم بأنه شريك في الجريمة، أو لعدم التشكيك في رجولته والنعت بأوصاف غير مرغوبة تنال منها، وخوفاً من تقلص فرص الزواج، وانحسار فرص العمل، والعزل الاجتماعي والنبذ المجتمعي، والفضيحة وتشويه السمعة، والتعرض للتنمر، ومعاناة مشكلات سوء التكيف ومشاكل الشك تجاه الآخرين".
وترى محمود أن "الشعور بالإحراج والخجل والخوف من السخرية بما في ذلك من رجال القانون الموكل إليهم تلقي شكواه القانونية، والخشية من عدم التصديق" من أسباب عدم بوح الرجل بما يتعرض له من تحرشات جنسية نسائية على وجه التحديد.
لكن هندي يحذر من أن التحرش الجنسي على الرجل آثاره لا تقل خطورة عن تلك التي تتعرض لها النساء، موضحاً أنه قد يؤدي بالرجل إلى "الإدمان، والقلق المزمن، والاكتئاب و/ أو الانتحار".
ويستدرك بالقول: "أيام زمان، كانت الطبيعة الذكورية تمنح الرجل أفضلية وشعوراً بالاطمئنان إن كان متحرشاً أو متحرشاً به. أما الآن، فانتهى ذلك نسبياً مع تغير المجتمعات وقوة السوشال ميديا وفضحها أي سلوك غير مرغوب".
وهو يحث، تبعاً لذلك، الرجال على البوح وفضح المتحرشات وتجنب المسايرة أو مجاراتهن ولو بدافع الفضول تفادياً للآثار الكارثية للتحرش.
في هذا الصدد، تضيف عبد الله أن إرشادات التعامل مع التحرش الجنسي للرجل لا تختلف عن تلك التي توصى بها النساء، مبينةً أنه في حالة التعرض للتحرش داخل العمل، ينبغي إبلاغ قسم الموارد البشرية للتحقيق في الأمر ووقف المتحرشة، مع اتخاذ الإجراءات القانونية المتاحة إن أمكن.
وتوصي أيضاً بضرورة الحديث مع زملاء/ زميلات يمكن أن يقدموا/ يقدمن الدعم النفسي، أو طلب المساعدة النفسية من متخصص/ معالج متى شعر المتحرش به بأثر نفسي وضغط كبير عليه.
وخلال الأشهر الماضية، ضجت وسائل الإعلام ومواقع التواصل في مصر بعدد من قضايا التحرش الجنسي بالرجال، كان أبرزها اتهام طبيب الأسنان الشهير باسم سمير بالتحرش بعدد من مرضاه من الفنانين وبزملاء وتلامذة له، وأيضاً اتهام أشخاص لعارض الأزياء مهند كوجاك بالاعتداء الجنسي وابتزاز عارضي أزياء مغمورين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...