هناك نكتة أو شكل من أشكال السخرية المتداولة المرتبطة بموقع حزام الخصر لدى الرجال، هو علامة على الزمن ودليل على علاقة مرتديه مع "الآن"، فالحزام المُرتفع دوماً محطُّ انتقاد، في ذات الوقت لا نجرؤ على التعليق علناً على من يرتديه بهذا الشكل، ذات التساؤلات والتهكّمات تواجه من يرتديه بصورةٍ شديدة الانخفاض، وكأن الحزام يتحرّك دوماً بحسب صرعة الموضة، وشكل الجسد، وطبيعة المهنة، ومدى الاهتمام برأي الآخرين، هو أشبه بعلامةٍ على إيقاع العصر، و علاقة الفرد مع "الآن" والشكل "الجدّي" والشرعيّ الذي يقترحه "الآن" بكل مكوّناته الثقافيّة والسياسيّة.
أولئك الذين يُثير حزام خصرهم التساؤلات، ترافقهم تهمة بأنهم "خارج الزمن" سواء في الحياة اليوميّة أو ضمن الفضاء الثقافي، هذه التساؤلات لا تُطرح فقط على حزامهم، بل أيضاً على منتجاتهم الثقافيّة وكيفيّة وعيهم بالعالم، وكأنهم ليسوا ضمن إيقاعه، ولا نتحدّث هنا عن إيقاع العمل أو الإنتاج الذي يحكمنا جميعاً، بل عن حسٍّ بالانفصال عمّا هو حالي، إثر غياب الوعي به، ولا نقصد أيضاً الاغتراب.
هم ككتلة بشريّة يتحرّكون إمّا في زمنهم الخاص، أو منصاعون تماماً لما هو قائم، أولئك الذين نراهم من حولنا، مع ذلك هم مهدّدون بالتلاشي، الذين ننسى أن ندعوهم إلى النزهات، الذين يتشابهون دوماً ولو دون أي منطق، الذين نشعر بأنهم "لا معاصرين"، المبتذلون أحياناً، ذوو النكات السمجة، والقصائد التي لا نستطيع إكمالها، أولئك المتأخّرون عن الإيقاع، كشخصيّات أنطون تشيخوف، يعلمون أن هناك مصيبة ما تحدث حولهم لكن يتجاهلون إيقاعها، أو يحلمون بما بعدها أو ما قبلها، نتفق ضمناً أننا لا نشبههم، دون أن ندرك أننا في الكثير من الأحيان جزء منهم.
لكن، من هو المعاصر بيننا، الأكثر قرباً مما يحدث "الآن"، ذاك الواعي بالتاريخ والحاضر، والذي يأخذ موقفاً منهما، ذاك الحاضر خارج الزمن لكنه يحدّق في الآن، ويخلق وقته الخاص، المُختلف، الذي يدفعنا لمساءلة شكلنا الحالي وما نؤمن به، ويضبط علاقتنا مع الزمن وإيقاعه، الذي نعي إثره مكان "حزامنا"، ويكشف لنا عن الخصائص الثقافيّة التي نتمسّك ونسلّم بها، ومدى "عصريّتها".
من هو المعاصر بيننا؟ الأكثر قرباً مما يحدث "الآن"، ذاك الواعي بالتاريخ والحاضر، والذي يأخذ موقفاً منهما، ذاك الحاضر خارج الزمن لكنه يحدّق في الآن، ويخلق وقته الخاص، المُختلف، الذي يدفعنا لمساءلة شكلنا الحالي وما نؤمن به، ويضبط علاقتنا مع الزمن وإيقاعه؟
الكوميدي: الساخر، المكروه تاريخياً، الخطر، المطرود من جمهوريّة أفلاطون، الذي لا وجود له في "فنِّ الشعر"، المؤمن عميقاً بعطب لا يصلح في العالم
يتدفق الإعلان أسرع منّا، نحن متأخّرون عنه، يرسم شكل الآن ويترك لنا القرار: هل ننصاع لضوئه المُعْمي، أم نختلف عنه وننتقده لنكشف ما طمسه بنوره؟ هل نشتري ثياب زارا ونتأمّل في إعلاناتها، وننسى الاستغلال الذي تمارسه في مصانعها؟ خصوصاً حينما نعرف كمية الرموز العنصريّة التي تروّج لها في أزيائها وإعلاناتها؟
الكوميديّ: المُشير إلى الظلام
الساخر، المكروه تاريخياً، الخطر، المطرود من جمهوريّة أفلاطون، الذي لا وجود له في "فنِّ الشعر"، المؤمن عميقاً بعطب لا يصلح في العالم، الكوميدي الذي يحدّق عميقاً في زمنه، ويختلف عنه، ينفي كل ما فيه من "نورٍ" ليحدّق في ظلامه، في نقاطه المعتمة، تلك الغامضة أحياناً والمُحاطة بتفسيراتٍ عديدةٍ.
هو من يعكس هذا الظلام في ذاته، ونكاته المثيرة للحرج، اللاصحيحة سياسيّاً، هو يُبصر الظلام الذي يتجلّى في كلماته، أشبه بصيّادٍ لثقبٍ أسود مُتغيّر المكان دوماً، لامحدّد، مُتعدّد المصادر، ويرى في هذا الظلام شأناً ذاتياً، شخصيّاً، ليكشف عن سوء الفهم في شكل الزمن الحاليّ، هو الذي يبحث عن اللحظة المناسبة، والتوقيت المناسب، سواء أثناء قول النكتة وكيفيّة بنائها، أو ضمن الزمن العام، كحالة السؤال الشهير الذي يطرحه الكوميدي بعد كل مأساة، ما هي اللحظة المناسبة لنبدأ بإلقاء النكات عن 11 سبتمبر، عن مجزرة ما، عن الطفل إيلان؟
هذا السؤال يرتبط باللحظة التي يتحوّل فيها "الحدث" إلى " مثالٍ تاريخيّ"، يفقد فيها لحظة "أوجه" ويتحوّل إلى مادةٍ للنكتة، متابعة الكوميديين أشبه بمن يحدّق ببوصلة دائمة التغيّر، تشير دوماً إلى وجهةٍ مختلفةٍ وكيفية تكوّن "الآن".
عارض/ة الأزياء: دكتاتوريّة الآن
تتجلّى في ثياب عارض/ة الأزياء سطوة الجديد، بعيداً عن كل المقاربات النسويّة والرجوليّة لعملية صناعة العارض/ة، في كلّ مرّة نرى فيها العارض/ة على البوديوم تُرسم حُدودُ "الآن"، والفرق بين ما هو عصري وما هو قديم، ويتجلّى شكل العالم الحاليّ وهمومه ومشاكله، وعلاقته مع الماضي المُستعاد ومتغيّرات العصر: قضايا اللاجئين، التكنولوجيا وحقوق الإنسان، الخراب السياسيّ، كلّها تحضر مرئيّةً في الأزياء لحظة ظهورها علناً على جسد العارض/ة ، الممثل العدميّ الذي يتلاشى دوره/ا "الآن" بمجرّد اختفائه/ا وراء الستارة، الذي نكتشف حين نبصره/ا أننا لسنا في الزمن الصحيح، ومتأخرون عن "الآن".
في كلّ مرّة نرى فيها العارض/ة على البوديوم تُرسم حُدودُ "الآن"، والفرق بين ما هو عصري وما هو قديم، ويتجلّى شكل العالم الحاليّ وهمومه ومشاكله، وعلاقته مع الماضي المُستعاد ومتغيّرات العصر
تحدّد الأزياءُ على جسد العارض/ة العلاقةَ مع الماضي، والقدرةَ على الاقتباس منه واستعادة "أساليبه" وتفعيلها الآن، هذا الفضاء العلنيّ والاستعراضيّ يُحدّد من يُبعث ومن يموت، وفيه تتجسّد قدرة الأشكال السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة على "إعلان" الآن، وقتله في ذات اللحظة.
علاقة " الأزياء" مع المعاصرة وما نتعلّمه منها نحن المتفرّجون والمستهلكون والراغبون بأن نكون حاضرين الآن، تتجلّى في قدرة الأزياء على الإضاءة على ما لا نستطيع أن نعيشه، ولا نستطيع نيله أو اختباره، هي تجلّي العناصر الفائقة جمالياً وثقافياً بصورةٍ مختلفةٍ تكشف عن النقص الذي نحياه، وهنا تأتي قدرتها أيضاً على إعادة النظر في الواقع و شكله وتكويننا ضمنه، لنفكّر بالذي فاتنا، كوننا متأخّرين دوماً عنها، فيها يتجلّى الذي لا ننتبه له، أو ذاك الذي يجب أن يكون شديد الظهور، ثياب العارض/ة هي الشكل الاستهلاكيّ الأشدّ توصيفاً لـ"لآن"، تكفي مشاهدة عرض أزياءٍ واحدٍ، لنعرف مدى قربنا أو بعدنا عن اللحظة، مدى معاصرتنا لما يحصل من حولنا، ومقدار تأثيره علينا.
الإعلانات: الضوء كدليل للعمى
يتجلّى "الآن" أمامنا في الإعلانات، كونها تسعى دوماً للاستثمار فيما هو جديد ومبتكر، سواء على مستوى الشكل، أو ما ينشأ لدينا من رغباتٍ تترافق مع منتجات لابدَّ من الإعلان عنها، الإعلان يُنير مساحةً ما، يصنّع الرغبة ويقودها نحو ما نظنّ أننا نريد، هو القادر على تقسيم الجديد والقديم، في ذات الوقت إحياء القديم وقراءة التاريخ الفنيّ، كما في إعلان بيرغر كينج الذي نرى فيها آندي وارهول يلتهم برغر كينج، أو إعلان عطر شانيل 5، إذ صرّحت مارلين مونرو مرّة في لقاء معها، أنها تنام عاريةً و ترتدي فقط عطر شانيل 5.
هذه القدرة على إعادة تشكيل "الآن" وتكوين علاقات بينه وبين الماضي، تكسب الإعلان جبروته، وقدرته على الانتشار، هو ينير بشدّة، ويعمينا عن الظلام والاستغلال من جهة أخرى، هو الأشدّ معاصرة كونه يرسم وعينا بالعصر، في ذات الوقت يُزيح نظرنا عن قسوته، عن كيفيّة تكوّن رغباتنا وهوسنا بالجديد.
هو الذي يختزن الصور و يكرّرها ويجعلها مرئيّةً حتى نعتاد عليها، في ذات الوقت يسعى لنفيها ويحدّد مدى قدمها في التاريخ.
يتدفق الإعلان أسرع منّا، نحن متأخّرون عنه، هو اللقيط ابن كل القطاعات الفنيّة والسياسيّة، الذي يعكس التاريخ ضمن الثواني القليلة التي يمرّ بها، يرسم شكل الآن ويترك لنا القرار، هل ننصاع لضوئه المُعْمي، أم نختلف عنه وننتقده لنكشف ما طمسه بنوره، هل نشتري ثياب زارا ونتأمّل في إعلاناتها، وننسى الاستغلال الذي تمارسه في مصانعها؟ خصوصاً حينما نعرف كمية الرموز العنصريّة التي تروّج لها في أزيائها وإعلاناتها؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون