لا زلت أتذكر لقائي بالأصدقاء العرب هنا وهناك وخلال مهرجانات أدبية وثقافية في البلدان العربية، حين يعرفون أنني قادمة من إيران، يذكرون حبهم للموسيقى الإيرانية، ذلك الشاعر العراقي الذي رحل عن عالمنا وقال لي مرة: "أنا أستمع إلى شجريان دون أن أفهم الكلمات" والآخر الذي قال: "هناك مقطوعة موسيقية أسمعها دائماً وأنا أسوق السيارة: نينوى". و"نينوى" هذه مقطوعة للموسيقار الإيراني حسين عليزاده، وطالما سمعتها وأحببتها منذ المراهقة. قلت له إنني أحبها أيضاً، وانقطع حديثنا بزحام الأصدقاء في صالة الفندق في الدوحة، ولم أقل له إنها أصبحت ضمن الذاكرة الثقافية في إيران.
ألبوم "نينوى" استلهمه عليزاده من طقوس عاشوراء وإيقاع المواكب الحسينية في طهران وفق ما قال في حوار له، إلا أنه يؤكد في الفيلم الوثائقي "النظر إلى المياه"، الذي أنتج عن حياته إن هذا الألبوم ليس عملاً يتعلق بطقس أو شعيرة دينية، بل هو "استذكار موسيقي"، أما التعاليم الدينية فألهمته في خلق العمل إلى جانب الأفكار الأخرى التي كانت تدور في ذهنه. و"نينوى"، ذات دلالتين في نفس الوقت، إذ هي تشير إلى المكان (الاسم القديم لكربلاء العراق)، وموقع أحداث عاشوراء ومعركة الحسين، كما أنها ككلمة مركبة في الفارسية تعني "نغمة الناي" (ني نَوا).
ويواصل عليزاده أن تأليف هذه المقطوعات التي شكلت ألبوم "نينوى" استغرقت عامين، وتنفيذها أربعة إلى خمسة أشهر، والفكرة تكونت لديه منذ الرابعة والعشرين من عمره، وقد نفذ بعضاً منها في بعض من أعماله السابقة كعزف منفرد أو عروض موسيقية، قبل أن تتحول إلى عمل مستقل.
ترشح عليزاده لثلاث مرات حتى الآن لجائزة "غرامي" في قسم الموسيقى التقليدية
آلة الناي في هذا العمل تمثل دور "الراوي" الرئيسي، وقد قام بالعزف الموسيقار الإيراني الشهير جَمشيد عندليبي.
اليوم ذكرى الميلاد السبعين لحسين عليزاده الذي يعدّ وإلى جانب محمد رضا شجريان و كِيهان كَلهر أركان الموسيقى التقليدية في إيران في السنوات الأخيرة. رحل شجريان العام الماضي وبقي ركنان للطرب الإيراني، فيحتفل اليوم كثير من الإيرانيين على مواقع التواصل الاجتماعي بميلاد أحدهما، وتزخّ هذه المواقع بصوره والإثناء بنتاجه الفني والموسيقي.
لحّن عليزاده العديد من الألبومات الموسيقية للمطربين الإيرانيين من أمثال شهرام ناظري وعليرضا افتخاري، أما النصيب الأكبر فذهب لمحمد رضا شجريان، ومن هذه الألبومات "لا يمكن العيشُ بدونك"، وقد اجتمع فيه الثلاثة: شجريان وعليزاده وكَلهُر.
عنوان الألبوم عبارة مقتبسة من قصيدة لجلال الدين الرومي والتي تنتهي أبياتها بـ"لا يمكن العيش بدونك". وفي سبعنيات القرن الماضي أقام هذا الثنائي كثيراً من الحفلات الموسيقية في أوروبا وأمريكا، ورافقهم ابن شجريان، هُمايون، الذي كان في عنفوان شبابه آنذاك، فأصبح اليوم من أشهر المطربين في إيران.
كما أن عليزاده برع في تأليف موسيقى لكثير من المسلسلات والأفلام السينمائية منها: "وقت لنشوة الأحصنة"، "زقزقة العصافير"، و"المغرَمون" والذي غنى فيه محمد رضا شجريان وأصبح ألبوماً موسيقياً.
وجوده وسط السوق في الطفولة الذي أسماه "النفق السحريّ"، كان له بمثابة الوقوع بين شاشة السينما، فكان "مليئاً بالألوان والروائح والإيقاعات"
ترشح عليزاده لثلاث مرات حتى الآن لجائزة "غرامي" في قسم الموسيقى التقليدية، وهي الجائزة الأشهر للموسيقى في العالم، وذلك من أجل ألبومات "الصراخ"، "لا يمكن العيش بدونك" و"إلى النظر في المياه البيضاء"، وفي الألبوم الأخير رافقه الموسيقار الأرمني جيفان غاسباريان، والمطربة الإيرانية أفسانه رثائي، وهو من أجمل وأشهر ألبومات هذا الفنان.
إضافة إلى ذلك حصل عليزاده لأكثر من مرة على الجائزة الأولى للموسيقى في مهرجان "فَجر" الإيراني الدولي وذلك عن تأليفه الموسيقى لكلّ من أفلام "غَبّه" للمخرج الإيراني محسن مَخمَلباف، و"البشع والجميل" لأحمد رضا معتمدي، و"زقزقة العصافير" لمجيد مجيدي.
الموسيقار الذي عُرف بحسن خصاله وأخلاقه، فضلاً عما قدمه للموسيقى، ولد عام 1951 في طهران، في حيّ "البازار" أي السوق العتيق والكبير جنوب طهران. يقول عليزاده في الفيلم الوثائقي سابق الذكر إن وجوده في الطفولة وسط السوق الذي أسماه "النفق السحريّ"، كان له بمثابة الوقوع بين شاشة السينما، فكان "مليئاً بالألوان والروائح والإيقاعات".
يقول عليزاده إن عائلته لم تمتهن الموسيقى ولم تنتم إليها، ودخوله معهد الموسيقى كان بالصدفة نوعاً ما، فاختار هناك آلة التار الإيرانية بإرشاد الموسيقار الإيراني حسين دِهلَوي.
وإن كان دخوله إلى عالم الموسيقى على سبيل الصدفة، إلا أن اعتلاءه عرش الموسيقى الإيرانية لم يأت كذلك. دأب عليزاده منذ سني مراهقته على تعلم الموسيقى فتفوق على زملائه حتى في الصفوف الأعلى، هو الذي يقول: "كنت أفكر في الموسيقى كموسيقى فقط، وليس من أجل أن أتعلم المقامات أو أكون بارعاً في عزف التار، لاسيما عندما كنت أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية فتشدني إليها ألوانها وأصواتها."، وهكذا واصل مسيرته الفنية إلى أن أصبح أيقونة في الموسيقى الإيرانية وعازفا حاذقاً لآلتي التار والسيتار.
وإلى جانب حضوره الموسيقي البارز في إيران، وتعليمه الموسيقى، فقد كانت لعليزاده مواقف في المجتمع والأحداث التي تتعلق بالشعب والإنسان والحرية. رفض لقب ووسام "الفارس" الفرنسي عام 2014، وأصدر رسالة مفتوحة قال فيها: "وإن كانت عتمة الحروب والحقد وعدم التساوي تسود عالم القدرة اليوم، نغمات الحبّ أيضاً تسود قلوب الشعوب إلى مدى أبعد وبقوة خالدة. إن كان السفير السياسي والثقافي لفرنسا، يضع هدية الشعب الفرنسي المثقف على أكتاف فنانينا الكبار، نقدّر ذلك، ونبجّل النجوم الساطعة في سماء تاريخنا."
وأكد خلال هذه الرسالة: "ربما إن كان المسؤولون في بلادنا -والذين ينبغي أن يخدموا التاريخ والثقافة والفن- يعيرون اهتماماً للفنّ ويقدّرونه كما يفعل الشعب، لم يكن اليوم هذا الانعكاس الكبير لهدية ولقب من خارج." ونوّه إنه يشعر باستغناء عن هذا اللقب، ويحبذ أن يكتفي بكونه "حسين عليزاده".
في الختام نمتع أسماعنا بمقطوعته الموسيقية الجميلة التي أسماها: "نوروز العرب"، وهل يحلّ يوماً هذا النوروز؟!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...