رحلة قصيرة في الذاكرة قد تفيدني لأتذكر عيد نوروز حين كنت صغيرة، علّني أسترجع شيئاً ما، ضحكة ربما، ملابس جديدة مزركشة، رقصة مع الأصدقاء أو حتى مع الأهل، إشعال نارٍ فوق أحد الجبال أو حتى تلٍ ما... لا شيء!
كان الاحتفال بالعيد القومي محظوراً في كردستان العراق. ذاكرتي الطفولية خالية تماماً من أيّة ذكرى. الآن بعد مضي سنوات كثيرة، صرنا نحتفل، ولكن الألم لا يزال محفوراً في قلب هذا الكائن المسمى كردياً قدراً. "هذا مصير كل كردي منذ الأزل"، جملة سمعتها من رجل حكيم حين كنا بلا مأوى على الحدود الإيرانية-العراقية في ربيع 1991. أتذكر ملامحه الواثقة والشاردة. بدا لي وكأنه يتذكر حلماً بعيداً، أو كما قال محمود درويش عن صديقه الكردي: يتذكر غده!حفظت وجهه وكأني أتنبأ بكتابة هذه الكلمات. كنت طفلة وكان الفضاء يتراءى لي كشيء لا يمكنني فهمه، كبساطٍ وردي مطرز بدم أطفالٍ موتى. شعرت بالخجل لأن اللون كاد أن يبهجني. كان الربيع والموت يتعانقان وكأن هذا الطقس بات عادياً على هذه الأرض المصلوبة والممزقة إلى أربعة أجزاء. ربما لم تُصلب ولكن شبّه لنا، أو ربما صُلبت وقامت لتبقى شامخة وصامدة.
وأنا أتجاذب مع صديقتي أطراف الحديث عن الماضي، قالت لي: أتذكرين عهد الثمانينيات، كانت الأمهات يخبرن أولادهن بمكر جميل "أشعل ناراً يا بنيّ قبل حلول الظلام، حذار أن يراك رجل أمن، وخذ هذا". كن يضعن دراهمَ وحلوى في أيدي أولادهن، وفجأة كانت المدينة تشتعل فرحاً بقدوم اليوم الجديد.
مسكت دمعتي التي أدركتها صديقتي. "نعم أتذكر"، قلت لها بهدوء غريب. كنا صغاراً ولكن ذلك العيد الذي احتفلنا به خلسة كان فرحنا الحقيقي. إشعال النار في مساء يوم العشرين من مارس كان من المحظورات في عهد الحكومة البعثية. كنا نسمع أن الكرد في تركيا وسوريا ليس لهم الحق حتى في التفكير بذلك، وكنا نسمع عن فتيات يحرقن أجسادهن الطرية الحرة كقربانٍ لنار العيد.
قال لي والدي مرة: يا ابنتي نحن نقدس الشمس والنور، وإن رأيتِ كردياً لا يعرف الكذب ويحلف بالنار تيقني أنه ابن أرضه حقاً. أتذكر حديثه وأفكر بمناديل المحاربات الممتلئة وروداً، بالسلاح الذي يمسكنه، بتلك الابتسامة التي لا تفسر. مَن هنّ يا ترى؟ جنيات من جبال غريبة لم يطأها بشر؟ ما أشبههن بأنشودة الفرح لشيللر "لنعش كالطبيعة مبتهجين، ولنسرع الخطى عبر الطرق كالجنود البواسل الظافرين". لعلّهن سمفونية بتهوفن التاسعة تُعزف بين الصخور.
كل سنة نندب وننوح في 16 مارس حزناً على اختناق مدينة برائحة تفاح عطنة مسمومة. نبكي حلبجتنا التي لم تشفَ حتى الآن، ثم نستعيد عافيتنا بعد أيام قليلة لتشتعل الجبال فرحاً في الواحد والعشرين في الشهر ذاته، أولسنا شعباً لا يُمكن أن يُفهم؟ نحن نولد من رحم مآسينا.
كنت أتابع صديقاً من كوباني على فايسبوك، ذلك الشاب عاد إلى مدينته الخربة ولكنه ظل يصور الأعشاب الطريّة التي نبتت وخرجت من بقايا البيوت المدمرة، ليجعل منظر الخراب مجرد خلفية لصور براعم خضراء. إنه ابن الشمس الذي يحلف بالنار إذاً.
الآن وقد استوردوا لنا جيوشاً من الغربان السود، صنعوا لنا كائناً سموه داعشاً لننسى حلمنا العنيد. قالوا إنهم سيحرقون أسرانا وهددوا بحرق جثثهم في عيد المجوس والزنادقة. هل يعتقد هؤلاء بأن نارهم الدنيئة ستطفىء نار الحرية والنصر، نار نوروز التي تشتعل منذ مئات السنين؟
هذه السنة ككل سنة سنصلي ليكون العالم سعيداً ومشرقاً بنور آهورا، غير ناسين وصية الأجداد والثالوث المقدس، "الفكر الخيّر، والعمل الخيّر، والكلمة الخيّرة". سنحتفل بعيدنا وإن لم نخرج جميعنا إلى الوديان والسهول الخضراء، وإن لم نشعل ناراً فوق جميع الجبال، فنار النصر نحملها في القلب. سنؤمن كالأطفال بأن الحياة تتجدد كل سنة ونحرق بقايا العالم المعتم دون خوف.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامit would be interesting to see reasons behind why government expenditure on education seems to be declining -- a decreasing need for spending or a decreasing interest in general?
Benjamin Lotto -
منذ 6 أيامجدا مهم البحث
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحلو نعرف ان كان اسلوب البرنامج ينجح في خلق نقاش حقيقي حول قضايا حقوق المرأة...
Chrystine Mhanna -
منذ اسبوعينصعب يا شربل.. معظم الناس لا يتحدثون صراحة عن تجاربهم الجنسية/الطبيّة وهذا ما يجعل من هذا الملف ضروري
Ahmed Gamal -
منذ اسبوعينتقديم جميل للكتابين، متحمس اقرأهم جداً بسبب المقال :"))
Kareem Sakka -
منذ اسبوعينما وصلت جمانة لهون الا بعد سنين من المحاولة بلغة ألطف..