في مخيّمات لبنان، وجوه الأطفال أشبه بالدفاتر الممزّقة، تترنّح على ملامحها المتعبة ألف قصة وقصة. ليست تلك القصص التي تخبر عمّن فقد أخته أو قُتل أخوه، أو من خسر عائلته بأمها وأبيها، إنما عمّن سُلبت منها براءة طفولتها، لتُدفن في بيت زوجها.
في مجتمع يستبيح حياة الأطفال، تشهد خيم اللاجئين السوريين ازدياد ظاهرة زواج القاصرات، والمبرّر واحد: التخلص من أعبائهن في ظل أزمات خانقة تتفاقم يوماً بعد يوم. فتيات يتحمّلن وزر التقاليد والعادات، ليصبحن أمهات بالإكراه.
يعرَّف زواج الأطفال على أنه أي زواج رسمي أو أي ارتباط غير رسمي بين طفلٍ تحت سن الثامنة عشرة، وشخص بالغ أو طفل آخر. وبالرغم من كل محاولات الحد من هذه الممارسة في مختلف أنحاء العالم، إلا أنها لا تزال واسعة الانتشار في المجتمعين السوري واللبناني.
وإليكم بعض حكايات الفتيات السوريات اللواتي تزوجن في عمر مبكر في لبنان.
وعد "العريس" بدعم العائلة مادياً لتؤمّن مأكلها ومشربها، مقابل زواجه من الفتاة.
تزوّجت سارة عندما كانت في الثانية عشرة من عمرها، من رجل يكبرها بأعوام عديدة، من دون أن يكترث أهلها لرأيها بهذا الارتباط. أمّا السبب، فهو أنّ "العريس" وعد بدعم العائلة مادياً لتؤمّن مأكلها ومشربها، مقابل زواجه من الفتاة.
تقول سارة إن زوجها غضب منها في أحد الأيام لأنه أعطاها مالاً لشراء بعض الحاجيات، ليكتشف عند عودته إلى البيت أنها اشترت البوشار وبعض السكاكر والحلويات.
أمّا آلاء التي أنجبت تسعة أطفال قبل بلوغها سن الخامسة والثلاثين، فتروي تجربتها لرصيف22، قائلةً: "سرقوا مني شبابي. عندما كان عمري أربعة عشر عاماً، كنت متزوجةً من رجل يبلغ من العمر إحدى وثلاثين سنةً. أردت يوماً الخروج للّعب مع أصدقائي، لكنهم منعوني لأنني كنت حاملاً".
تضيف آلاء والدمع يملأ عينيها: "تقدّم ثلاثة شبّان لطلب يد ابنتي الكبرى التي تبلغ من العمر ثمانية عشر سنةً، لكنني رفضت تزويجها بشكل قاطع، إلى أن تتمكّن من أن تقرّر بنفسها ما تريد من الحياة".
"زوّجتُ ابنتي شام ذات السبعة عشر ربيعاً في ظلّ انتشار جائحة كورونا وتطبيق سياسة الإغلاق العام في البلد. فعلت ذلك لأتخلّص من مسؤولية فرد من أفراد عائلتي، على الرغم من أنني ضد التزويج في سن مبكر"، تقول الأربعينية أم يوسف، مبرّرةً زواج ابنتها للمرة الثانية، بعد طلاقها العام الماضي، عقب زواج استمر أقل من سنة.
أما بيان، ذات الثلاثة عشر عاماً، فتقول بعينين دامعتين: "بدي أتزوج حتى أهرب من أهلي. كتير عم يشغلوني، وعم أتعب من الشغل". لتردّ عليها والدتها: "إنت مفكرة بيت حماك رح يريحوكِ؟ بالعكس، رح يشغلوكِ أكتر".
بدورها، تروي مريم البالغة من العمر عشرين عاماً، تفاصيل مأساتها التي بدأت منذ زواجها في الثانية عشرة من عمرها: "كان والدي متوفّى. جاء أخوالي وقالوا لي: ‘إجا ابن الحلال اللي بدّو يسترك ويضبّك بالبيت’. والدتي لم تعترض. تزوّجت بعقد غير مثبت، وأنا لا أعرف شيئاً عن الزواج. في ليلة الزفاف، سمعت نصيحتهم: ‘سلّمي نفسك، ولا تعترضي، لأنك إن تمنّعت أو خفتِ، سيظنّ أنك فتاة سيئة الأخلاق’. نزفت طوال شهر بعد ليلة زواجي. أذكر من تلك الليلة صراخي وبكائي والدم. رافقتني عوارض النزيف لفترات متقطعة، حتى أُصبت مصابةً بفقر دم مزمن. حملت بابنتي الأولى بعد ثمانية أشهر، وأنا لا أعرف كيف أعتني بمولود جديد. ولأنني كنت أقصّر في أعمال المنزل والطبخ، كان زوجي يُبرحني ضرباً، وهو يصرخ ‘لماذا تزوجتكِ إن كنت لا تتقنين شيئاً من واجبات المنزل؟’".
زوّجتُ ابنتي شام ذات السبعة عشر ربيعاً في ظلّ انتشار جائحة كورونا وتطبيق سياسة الإغلاق العام في البلد. فعلت ذلك لأتخلّص من مسؤولية فرد من أفراد عائلتي، على الرغم من أنني ضد التزويج في سن مبكر
عوامل عدّة
تسبّب انهيار الاقتصاد اللبناني في مضاعفة مآسي الفئات السكانية الأكثر ضعفاً وهشاشةً، مثل اللاجئين السوريين الفارّين من حرب متواصلة منذ أكثر من عقد من الزمن. بدافع الحاجة، تقوم عائلات سورية كثيرة العدد بتزويج بناتها القاصرات من أجل التخفيف من عبء الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها. حسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، "يزوج الآباء اليوم بناتهم في سن مبكرة، 13 أو 14 سنةً، مقارنةً بسنة 2019، عندما كان متوسط العمر بين 16 و17 سنةً".
من جانب آخر، تشير الناشطة النسوية علياء عواضة، في حديثها إلى رصيف22، إلى أن زواج القاصرات في لبنان موضوع شائك يرتبط بشكل كبير بسلطة رجال الدين وسلطة العائلة. ففي المنطقة العربية بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص، تحاول السلطات الدينية والعائلية والمجتمعية التحكّم بالنساء والفتيات اللواتي هنّ جزء من العائلة، على اعتبار أنهن من ملكيتها، ويحق لهذه السلطات التحكم بهن.
وتشدّد عواضة في هذا السياق، على ضرورة عد الزواج المبكر جريمةً تجب مكافحتها، ولذلك طرق عديدة، منها التشديد على تسجيل عقود الزواج ومعاقبة المخالفين، ورفع إلزامية التعليم ومجانيته إلى مرحلة متقدمة، مما يعني حماية القاصرة من إمكانية تزويجها في سن مبكرة، وإقرار قانون مدني يحدد سن زواج موحد للإناث والذكور بغض النظر عن الطائفة التي ينتمون إليها، وإنشاء خط ساخن لدى وزارة الشؤون الاجتماعية لتلقي الشكاوى المتعلقة بالعنف ضدّ القاصرين/ ات، بالإضافة إلى تفعيل دور القضاء، وخصوصاً من خلال صلاحية قاضي الأحداث في التدخّل لحماية القاصرة من الأخطار، والقيام بحملات توعية بشأن أخطار التزويج المبكر.
زواج القاصرات في لبنان موضوع شائك يرتبط بشكل كبير بسلطة رجال الدين وسلطة العائلة.
"ماذا يمكنني أن أفعل؟"
هناك طرق عدة للتعامل مع زواج القاصرات وتقديم مساعدة نفسية واجتماعية للفتاة المعرضة لهذا الخطر، منها تقديم الدعم عن طريق المراكز والاستشارات النفسية والزوجية، لوضعها على الطريق السليم وتوفير تعليم لها وعمل، وتوعية الفتاة لتنظيم النسل. كما أن العمل على توعية المجتمع من خلال الندوات واللقاءات الجماعية يفيد في الحد من انتشار الظاهرة.
عدا عن ذلك، فإن دعم تعليم الفتيات والحد من التسرب من المدارس وخاصةً في مراحل التعليم الأساسي، سلاح مهم في مواجهة التزويج المبكر، ويساهم في تهيئة الفتاة لزواج عقلاني تكون إرادتها فيه غير مغيّبة.
من جهة أخرى، لا بد من العمل على توفير بدائل للزواج، باتخاذ بعض الإجراءات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تمكين الفتيات، من خلال خلق بيئة اجتماعية تدعم تعليمهن، وتطوّر مهارات القيادة لديهن، وتمكّنهن اقتصادياً، وتالياً تعزز إمكاناتهن وطموحاتهن، وذلك بتعليمهن المهارات الحياتية ومهارات العناية بالنفس، وإكسابهن المعرفة اللازمة لاتخاذ قرارات مناسبة لهن في العلاقات التي يخضنها في ما يتعلق بأجسادهن، وتثقيفهن حول طريقة الدفاع عن أنفسهن ليستطعن رفض فكرة الزواج المبكر.
وتشير جمعية "أبعاد" إلى أنه في حال أُكرهت الفتاة القاصرة على الزواج، يمكنها أن تتقدّم بدعوى أمام المحكمة الروحية أو الشرعية للمطالبة بإبطال الزواج والتعويض، كما يمكنها أيضاً التقدّم بشكوى جزائية إذا رافق إرغامها على الزواج تهديد، إذ إن التهديد يُعدّ جرماً معاقباً عليه في القانون.
من الضروري اعتبار الزواج المبكر جريمة تجب مكافحتها، ولذلك طرق عديدة، منها التشديد على تسجيل عقود الزواج ومعاقبة المخالفين، ورفع إلزامية التعليم ومجانيته، وإقرار قانون مدني يحدد سن زواج موحد للإناث والذكور بغض النظر عن الطائفة التي ينتمون إليها
وفي دراسة نشرتها الجمعية وتحمل عنوان "الزواج مش لعبة"، رسائل توعوية توضح الأسباب الملزمة لمعالجة إشكالية تزويج الأطفال. فالزواج بعد سن الـ18 يحمي حقّ الفتاة في التعليم، كما يمكّن الفتاة من التمتّع بفرص عمل لائقة عند بلوغ سن الرشد، ومن حماية نفسها وأطفالها، ويقلّل إلى حدّ كبير من المخاطر المحتملة على صحة الفتاة والجنين وحياتيهما.
إنّ مساعي التقليل من نسب التزويج المبكر، بل منعه نهائياً، ووضع حدّ أدنى للزواج يكون في عمر الثامنة عشر بما يتناسب مع شرعة حقوق الإنسان وشرعة حقوق الطفل، تندرج في سياق تطبيق الاتفاقيات الدولية التي وقّع عليها لبنان. وتقول "جمعية كفى عنف واستغلال" إنه يُخطئ من يعتقد بأنّ الأضرار الناجمة عن التزويج المبكر للفتيات تقتصر حدودها على الفتاة بحدّ ذاتها أو على أسرتها الضيّقة، بل إنها أضرار تنعكس أيضاً على النواحي الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات.
في حال الإكراه على الزواج المبكر، يجب اللجوء إلى الجمعيات المعنية ومن بينها:
جمعية "أبعاد": 81788178
منظمة "كفى": 03018019
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ 17 ساعةtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...