يصعب، حقيقةً، في مدينة مثل الناظور (شمال شرق المغرب)، أن يكبر حلم القُصَّر داخل بلداتهم المجاورة لهذه المدينة المتوسطية المطلة على أوروبا.
هناك يكون فصل الصيف، متاحاً لتفتق أحلام هؤلاء الصغار، والفتيات منهم بشكل خاص، عندما تعجّ المدينة بسيارات الشبّان المغتربين في ألمانيا، أو هولندا، وأقل درجةً في إسبانيا.
إنه في العادة فصل للزواج، إذ يتقدم الشبان إلى عائلات فتيات في مقتبل العمر؛ وهنا تبدأ قصة تزويج قاصرات لم يبلغن بعد سنّ الأهلية.
سميرة، وهي أمّ اليوم، كان أهلها حريصين على تزويجها بالمهاجر عبد الكريم الذي يعمل مهندساً في ألمانيا، على الرغم من رفض قاضي الأسرة طلب نائبها الشرعي الذي يرمي إلى السماح لها بالزواج.
تزويج القاصرات، بمثابة عنف بمستوياته المختلفة يمارَس ضد البنات، ولا يتماشى مع الاتفاقيات التي صادق عليها المغرب، ولا مع دستور المملكة، فلماذا لا يزال منتشراً؟
علّة القاضي كانت أن "سنّ الخاطب تفوق سنّ القاصرة بفارق كبير، الأمر الذي يحول دون منحه الإذن، مراعاةً لمصلحة القاصرة التي هي في مقتبل العمر".
غير أن أب الفتاة كان ملحاحاً لاكتمال هذه الزيجة، وطلب من المحكمة إلغاء قرار القاضي برفض طلب الزواج.
ملتمس استند فيه الأب، إلى أن ابنته راضية كل الرضا، من دون إكراه أو ضغط، وقادرة على تحمل مسؤولية الزواج، وموافقة على الفارق العمري بينها وبين زوجها المتعلّم.
"الشيطان"... استثناء قانوني
على المستوى القانوني، يستند القاضي في منح الإذن بزواج القُصّر، إلى المادة 20 في مدوّنة الأسرة التي تمنح لقاضي الأسرة المكلف بالزواج، أن يأذن بزواج الفتى والفتاة دون السن الأهلية المُحدّدة بـ18 عاماً، وذلك بقرار يعلّل فيه المصلحة والأسباب المبررة لذلك، بعد الاستماع إلى والدي القاصر/ ة، أو نائبه الشرعي، والاستعانة بخبرة طبية، أو إجراء بحث اجتماعي.
من هذا المدخل تواصل محاكم المملكة تلقّي المزيد من طلبات الإذن بزواج القُصّر، إذ تلقت سنة 2020، ما يعادل 19 ألفاً و926 طلباً للإذن بزواج القُصّر، وفق دراسة تشخيصية قامت بها رئاسة النيابة العامة.
التقرير ذاته، كشف أن 95 في المئة من هذه الطلبات يتعلق بتزويج القاصرات، فيما 5 في المائة منها فقط، يتعلق بتزويج القاصرين.
وأوضح المصدر نفسه، أن قضاة النيابة العامة التمسوا رفض 65 في المئة (12،773 ملفاً) من مجموع طلبات تزويج القُصّر، تفعيلاً لدوريّة رئيس النيابة العامة التي حثّ فيها النيابات العامة على عدم التردد في التماس الرفض، كلّما اقتضت ذلك مصلحة القاصر/ ة.
تقارير رسمية في المغرب تشير إلى أن آلاف الأسر المغربية ما زالت تزوّج بناتها القاصرات، على الرغم من أن القانون يؤطّر المسألة
وأشارت الدراسة إلى وجود عدد مهمّ من الأحكام القاضية بثبوت الزوجية ذات الصلة بطرف قاصر، وهو ما يعبّر عن التفافٍ على رغبة المُشرّع في تخصيصه لزواج القاصر/ ة بمسطرة دقيقة مُحاطة بضمانات استثنائية. وتتلخص هذه "الحيلة" في تزويج القاصرات، بما يُطلَق عليه "زواج الفاتحة"، قبل التوجه إلى المحكمة من أجل فرض الأمر الواقع عليهن، وإثبات الزواج قانونياً.
في كلمته خلال تقديمه لهذه الدراسة التشخيصية حول زواج القُصّر، أبرز رئيس النيابة العامة، الحسن الداكي، أن المعطيات الإحصائية للدراسة كشفت بالملموس أن "ظاهرة الزواج المبكر، ليست شأناً قضائياً صرفاً، تنحصر أسبابه في التدبير العملي لمقتضيات المادتين 20 و21 من مدوّنة الأسرة، من خلال الممارسة القضائية".
وسجل الداكي، أن ظاهرة الزواج المبكر تتعدد أسبابه التي تتوزع بين ما هو اجتماعي، واقتصادي، وثقافي، وديني، وتتشعب نتائجه، فتمسّ كل شرائح المجتمع.
قانون "غير ملزم"
يذهب عضو نادي القضاة، أنس سعدون، في الاتجاه نفسه، عندما يؤكد أن "تزويج القاصرات ظاهرة تغذّيها العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ إن الطلبات التي تُقدّم إلى المحاكم بخصوص هذا النوع من الزواج، غالباً ما تستند إلى مبررات من قبيل العادات والتقاليد والفقر والانقطاع عن الدراسة".
وشدد سعدون على أنه "من المؤسف أن المقتضيات القانونية التي تنظّم تزويج الأطفال، تفتقد عنصر الإلزامية، إذ إنه في حالات كثيرة رفض القضاة إصدار أذون بتزويج قاصرات، لم يتم احترامها من طرف أولياء أمور الفتيات، ولجأوا إلى تزويجهن بشكل غير قانوني، أي بالفاتحة، علماً أن القانون لا يعاقب على ذلك بشكلٍ واضح وكافٍ".
لذلك، "فجهود المحاكم في تقييد الاستثناء تواجَه بالفراغ التشريعي الذي لا يجرّم زواج القاصرات بشكل غير قانوني"، يردف سعدون في تصريحه لرصيف22.
وأضاف القاضي، "بالرجوع إلى المواد التي تنظّم تزويج القاصرات في القانون، يتبين أنها تتصف بالهشاشة، فالقاصرة تُعد أجنبيةً على مسطرة تزويجها، ولا تظهر إرادتها إلاّ عند توقيع العقد، ولم يلزم القانون المحكمة بالاستماع إلى القاصرة، وإنما ألزمها بالاستماع الى والديها فحسب، بالإضافة إلى أن الطرف الثاني، وهو الخاطب، يُعدّ بدوره أجنبياً عن هذه المسطرة".
لأسباب ثقافية واجتماعية، ما زالت العائلات المغربية تقبل على زواج القاصرات. وأمام التأطير القانوني تلجأ إلى "زاوج الفاتحة"، لفرض الأمر الواقع على السلطات القضائية
على هذا الأساس، يُعدّ "الإذن بتزويج قاصرة، بمثابة تحويلها إلى شخص راشد، وعدّها صالحةً ومؤهلةً للزواج، بغضّ النظر عن الطرف الثاني، بل ويلاحَظ أن المشرّع لم يحدد سنّاً أدنى لزواج القاصرة، كما لم يقيّد الطلبات باختصاص محليّ، ولم يستلزم ضرورة إجراء خبرة طبية، وبحث اجتماعي"، يفسر المصدر.
وشدد سعدون، على أن " القضاة يحاولون توخي مصلحة القاصرة، وعدم تحويل الاستثناء إلى قاعدة، من خلال التعامل بصرامة مع مقتضيات المادة 20، ومن خلال القيام بأبحاث اجتماعية، وإصدار أوامر بالخبرة الطبية، وأحياناً القيام بجلسات ودّية مع أسر الفتيات الراغبات في الحصول على إذن، لإخبارهم بمخاطر الزواج المبكر، وأهمية انتظار بلوغهنّ سن الرشد، كوسيلة لعدم تقديم طلبات يكون مآلها الرفض".
جهود تشريعية معلّقة
في جانب آخر، من مستويات الجهود المبذولة للحد من ظاهرة تزويج القاصرات، يبرز البعد التشريعي الذي تختص به الحكومة، أو ممثلو الأمة في البرلمان.
خلال الولاية التشريعية السابقة 2016-2021، تقدّمت نائبة برلمانية عن المجموعة النيابية للتقدم والاشتراكية بمقترح قانون من أجل وضع حد للاستثناء الذي تمنحه مواد مدوّنة الأسرة لتزويج القاصرات.
لكن "للأسف هذا المشروع كان مصيره رفوف البرلمان، ولم تتفاعل معه بشكل جدي الحكومة السابقة"، تؤكد النائبة البرلمانية السابقة، فاطمة الزهراء برصات.
"ربما هناك مجموعة من الظروف التي تجعل الأسر تقدّم طلبات الإذن بالزواج، ولكن القانون في يد القضاء، وقاضي الأسرة، لكي يتعامل مع النص في حدود الاستثناء الذي تخوّله له مدوّنة الأسرة".
وأضافت المتحدثة، أن "حزب التقدم والاشتراكية يعدّ هذا الموضوع مرتبطاً بالطفولة، ويفترض فيه أن يكون فوق كل النقاط الخلافية التي يمكن أن يثيرها البعض".
في حديثها إلى رصيف22، لاحظت برصات أنه "من خلال الممارسة، المقتضيات الاستثنائية لمدوّنة الأسرة، والتي كانت من المفترض أن تجيب عن بعض الحالات الخاصة والاستثنائية، أضحت هي القاعدة".
وأبرزت أن "الأرقام لا تدلّ أن هناك استثناءً؛ فإحصاءات وزارة العدل الرسمية، تكشف أن الاستجابة لطلبات تزويج البنات تصل إلى 85 في المئة".
وأضافت قائلةً: "ربما هناك مجموعة من الظروف التي تجعل الأسر تقدّم طلبات الإذن بالزواج، ولكن القانون في يد القضاء، وقاضي الأسرة، لكي يتعامل مع النص في حدود الاستثناء الذي تخوّله له مدوّنة الأسرة".
كما أن ظاهرة تزويج القاصرات، "بمثابة عنف بمستوياته المختلفة يمارَس ضد البنات، ولا يتماشى مع الاتفاقيات التي صادق عليها المغرب، ولا مع دستور المملكة الذي يتضمن مقتضياتٍ متقدمةً يُفترض أن تحمي حقوق هؤلاء البنات"، توضح برصات.
ونبّهت عضوة منتدى المناصفة والمساواة، إلى أن "التدخل التشريعي مهم جداً، لكنه وحده غير كافٍ، إذ يجب أن يرتبط بمداخل أخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية أيضاً".
لهذا "يُفترض أن تكون هناك مقاربة شمولية لمقاربة هذه الظاهرة المعقدة الأبعاد، سواء في ما يتعلق بالأسباب التي تدفع الأسر لتزويج بناتها الطفلات الصغيرات، أو على مستوى الآثار التي تخلّفها مثل هذه الزيجات التي تكون وخيمة جداً على الطفلات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون