حين كانت شهد طفلةً لم تتمّ بعد العاشرة من عمرها، وبينما كانت تجلس مع لعبتها بالقرب من والدتها وهي تجهّز الطعام، زلزلت قذيفة صاروخية المنزل الواقع في غوطة دمشق الشرقية، واخترقت جدرانه. كان ذلك في إحدى ليالي الشتاء الباردة عام 2016.
سقطت الطفلة على الأرض مذعورةً. لم تتفوّه بكلمة سوى البكاء من شدّة الخوف، وبعد مضيّ دقائق تمالكت نفسها حين تأكدت من أنها على قيد الحياة، وهرعت مسرعةً تتبع والدتها باتجاه غرفة الجلوس حيث كان والدها جالساً قبل سقوط القذيفة، فشاهدته وقد أصبح أشلاءً ودماؤه متناثرة تملأ جدران الغرفة.
ما أن شاهدت شهد منظر أشلاء والدها، حتى انهارت مرةً أخرى، وخيّم على وجهها البكاء المستمر، فمشهد الدماء علق في ذاكرتها ولم يفارقها لا وقت الاستيقاظ ولا حتى في أثناء النوم، ومشاعر الخوف والبكاء والحزن لاحقت تفكيرها وجسدها يوماً بعد يوم.
استسلمت للحقنة
شهد لا تشبه أترابها مطلقاً، فعندما تتكلم مع غيرها يبتسمون ويمرحون، أما هي فتبقى مفجوعةً على والدها الذي شاهدته مغطّىً بالدماء، ولم تصدّق في الأيام الأولى أن الذي شاهدته هو والدها. "تمنيت لو صار كل هالشي بالمنام، وفقنا"، تقول والدتها لرصيف22، وشهد تجلس بجانبها وعلى وجهها معالم الحزن الشديد.
تكمل الوالدة أنه بعد مضي شهر على الحادثة، بدأت أعراض التعب والإرهاق تنخر جسد شهد الضعيف، مع ازدياد التبوّل والعطش الشديد ووهن العضلات، ما دفع الأم التي شاهدت صحّتها تتراجع لاصطحابها إلى مركز طبي للاطمئنان عليها، فلم تكن لديها القدرة على الذهاب إلى الطبيب لارتفاع تكاليف المعاينة.
أظهر التشخيص الأولي للطبيب الذي أجرى التحليل لشهد، أنها أصيبت بمرض السكري من النمط الأول، وهي تحتاج مباشرةً إلى تلقي العلاج بالأنسولين مع اتّباع حمية قاسية. أزعج الأمر الطفلة في البداية من دون شك، فهي ترغب كغيرها من الأطفال في تناول البسكويت والحلويات، وسيطر هذا المرض اللعين الذي اخترق طفولتها على تفكيرها، وستعيش معه وتذكره يومياً وهي تكبر، ثم استسلمت بعدها لإبرة الأنسولين الذي سيسري في دمائها.
تبيّن الأرقام ازدياداً في أعداد الأطفال المصابين بالسكري في سوريا بعد الحرب.
ولكن لم تمضِ أيام قليلة حتى حصلت كارثة أخرى عندما قدّم بعض الجيران النصائح لوالدتها بالتخلي عن علاج الأنسولين والمداواة بالطب البديل "الأعشاب". تكمل الأم الحكاية بالقول: "مضت عشرة أيام من دون أن تُحقن بالأنسولين وهي سعيدة بذلك، واكتفت حينها في الشهر الثاني على مرور الحادثة، بتلقّي العلاج بالأعشاب، ما أدّى إلى تدهور صحتها بشكل كبير، وارتفاع السكر ودخول مرحلة الحماض السكري، وتم إسعافها في المشفى وإعطاؤها العلاج مرات عدة في اليوم".
لم تكرر الأم هذا الخطأ مرةً أخرى، والتزمت بعلاج ابنتها بالأنسولين، فاستمرت الحياة في سيرها العادي مع شهد، وتأقلمت مع المرض، كما قرّرت بعد مضيّ خمس سنوات على الإصابة، وبكل شجاعة، أن تتعلم أن تحقن جسدها بنفسها. لم تكن البداية سهلةً إذ تردّدت أكثر من مرة، لكن بتشجيع إحدى الجمعيات المتخصصة بالعناية بمرضى السكري في دمشق ومساعدتها، تعلمت أن تحقن نفسها بالأنسولين مرةً أو مرتين، حسب طبيعة الطعام الذي تتناوله، ويمكنها بعدها أن تتناول البسكويت وبعض الحلويات التي حُرمت منها سنواتٍ طويلة.
تشير لي الطفلة في مقر الجمعية إلى يديها، ومكان الحقن الذي باتت تقوم به بنفسها تماماً الآن، وتبتسم وهي سعيدة لأن الحياة، نوعاً ما، بدأت تأخذ شكلاً طبيعياً بالنسبة إليها.
الخوف تغلّب على الدواء
تركت الأعوام الثمانية الأولى من العمر عند محمد ذي الوجه الشاحب بصماتها الكئيبة. فعندما كان يلعب في منزله في مخيم اليرموك في ريف دمشق في أحد أيام العام 2014، هرع مسرعاً ليفتح باب المنزل الذي كان يتعرّض للطرق بوحشية، وكانت تلك اللحظة مفصليةً في حياته، إذ بدلاً من أن يشاهد أحد أفراد أسرته الذين اعتاد رؤيتهم، شاهد وجوه مسلحين ملتحين يحملون البنادق ويصرخون. ارتعش من شدة الخوف والرعب وبدأ بالبكاء الذي يرافقه كلما تذكر الحادثة، وحتى اليوم.
بعد مضي شهر على الحادثة، بدأت أعراض التعب والإرهاق تنخر جسد شهد الضعيف، مع ازدياد التبوّل والعطش الشديد ووهن العضلات، وأظهر التشخيص الأولي أنها أصيبت بمرض السكري من النمط الأول، وهي تحتاج مباشرةً إلى تلقي العلاج بالأنسولين مع اتّباع حمية قاسية
بعد مرور أيام عدة على الحادثة، تركت العائلة المنزل، وهربت إلى خارج المخيم، وسكنت في أحد الأحياء الآمنة في دمشق، ولكن تغيير المسكن لم يحسّن حالة محمد النفسية كما تقول والدته لرصيف22، وبدأت المشكلات الصحية تداهم جسده الضعيف، ونُقل إلى المستشفى ليتبيّن أنه مصاب بالسكري. بدوره، يقول الأب أيضاً: "فكرت كتير كيف بدّي خبّر محمد بالمرض، وإنو لازم يتقبل وما يخاف من الإبر لحتى يعيش".
ومع المداعبة والإمساك بيديه، تمكّن الوالد مع الممرضة من حقن الإبرة الأولى في جسد محمد، ولكن لم ينفع الأمر معه في البداية، ولم يساهم في ضبط السكر، فالخوف كان أقوى من الدواء، وبدأ جسده بالتعب، وتلقّى بعدها جرعات أنسولين من نوع حديث بمساعدة إحدى الجمعيات، وقد ساهمت في ضبط 80% من الحالة المرضية عنده، وقرر بعد أربع سنوات من الإصابة أن يتعلم كيف يحقن جسده، بعدما شاهد الأطفال الآخرين يحقنون أنفسهم في إحدى الفعاليات الخاصة بأطفال السكري، وأغمض عينيه مرات عدة قبل أن يغرز الإبرة في يده اليسرى، وذهبت عقدة الخوف، وحالياً تلازمه الإبر بشكل دائم أينما ذهب.
لعنة الصاروخ تلاحقها
تلقت نايا ذات الوجه النحيف البارز العظام، والتي تبلغ اليوم من العمر 11 عاماً، صدماتٍ عدةً خلال الحرب التي تعرّض لها بلدها، خاصةً بعدما تخلت عنها والدتها وتركتها بمفردها.
تحضر الفتاة مع عمتها إلى الجمعية المعنية بالعناية بالأطفال المصابين بالسكري في دمشق، وهناك التقينا بها وهي ترفع الملابس عن يدها اليسرى لتحقن فيها الأنسولين. تُفضّل نايا الصمت بشكل عام، ونعرف منها ومن عمتها الجالسة بجوارها حكايتها بالتفصيل.
ففي إحدى الليالي قبل قرابة عامين، وبينما كانت تغطّ في نوم عميق في بيت جدّها في منطقة صحنايا في ريف دمشق، استيقظت مذعورةً على صوت انفجار صاروخ سقط بالقرب من منطقة سكنها، إثر غارة إسرائيلية، ما أدّى إلى سقوط النافذة عليها وتناثر الزجاج في أنحاء الغرفة.
بعد ذلك اليوم، أصبحت لدى نايا عقدة الخوف من النوم، ولم تعُد تستريح في الاستيقاظ ولا حتى في النوم، وبقيت صامتةً من دون بكاء، تراودها الأفكار والتصوّرات في ذاكرتها عن هذه الحادثة، وبدأت تعاني من الاضطرابات والتعب الشديد والإرهاق، ونمت الفطور في فمها وفي معدتها، ولم تُكتشف إصابتها مباشرةً، بل عانت بسبب عدم التشخيص الصحيح لحالتها في البداية والمرض ينخر جسدها. وبعد جولة طويلة على العيادات اكتشف أحد الأطباء حالتها وأنها مصابة بالسكري، واستسلمت بعد مرور السنة الأولى على الحادثة للحقنات، وتعلمت حقن نفسها من دون أي خوف، ولكن الحزن والصمت لم يغادرا جسدها.
قرر محمد أن يتعلم كيف يحقن جسده بنفسه، بعدما شاهد الأطفال الآخرين يحقنون أنفسهم في إحدى الفعاليات الخاصة بأطفال السكري، وأغمض عينيه مرات عدة قبل أن يغرز الإبرة في يده اليسرى، وذهبت عقدة الخوف، وحالياً تلازمه الإبر بشكل دائم أينما ذهب
تكاليف ومعاناة
أول خطوة يخضع لها الأطفال المصابون بالسكري، هي تدريبهم على حقن أجسادهم حتى يصبحوا أطباء أنفسهم، وذلك حسب حديث عضو مجلس إدارة الجمعية السورية لرعاية السكريين، رزان الحزواني، لرصيف22، وهي تعمل منذ العام 2004 ضمن مقرها الكائن في حي الفحّامة في دمشق لتقديم المساعدات المتنوعة لهذه الفئة.
ولكن، تكمن الصعوبة والمعاناة في ارتفاع أسعار الأنسولين، فجميع الأنواع تأتي من خارج سوريا، وحالياً يصعب تأمينها بشكل كبير، وترتفع أسعارها لتبلغ ما يفوق القدرة المادية لغالبية السوريين، إذ تبلغ تكاليف علاج طفل السكري الواحد مئة ألف ليرة شهرياً (قرابة 27 دولاراً)، وهو مبلغ يقارب متوسط الدخل الشهري في البلاد.
وتقدّم هذه الجمعية خدمات العلاج المجاني لألف طفل، ويراجعها بين 60 و70 شخصاً كل يوم، بين أطفال وكبار، لتلقي الاستشارات الطبية وتحليل السكر، وأيضاً العلاج، ما يساعدهم على تحمل الأعباء المادية لمرضهم.
كارثة الحقن المتكرر
ويشير الأخصائي في أمراض السكري في دمشق، الدكتور بلال حماد، في حديثه إلى رصيف22، إلى المشكلات الصحية التي تحصل مع المصاب في حال تكرار الحقن في المنطقة نفسها، فمن الممكن أن يحصل تليّف في المنطقة المحقونة، ما يؤدي إلى ضعف في امتصاص الأنسولين، وفي هذه الحالة يجب على المصاب أن يبدّل مكان الحقن كل يومين أو ثلاثة.
"يستطيع الطفل الحقن في جميع أنحاء الجسم بوجود مناطق مختارة كالفخذين أو حول السرّة والكتف، ويتعلم الحقن مباشرةً"، يضيف.
وبالعودة إلى أرشيف مديرية الأمراض السارية والمزمنة في وزارة الصحة السورية، بيّنت الأرقام ازدياداً في أعداد الأطفال المصابين بالسكري دون سن الـ18 سنةً في جميع المحافظات، إذ بلغ عدد الأطفال المصابين بالسكري 4،870 طفلاً مصاباً في عام 2022، و4،738 طفلاً مصاباً في عام 2021، و4،319 طفلاً مصاباً في عام 2020، أما بالنسبة إلى الإحصاء ما قبل عام 2011، فكان الرقم الأخير 3،956 طفلاً مصاباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...