الحائط كـcanvas
كان واضحاً، منذ البداية، أنّ الموسيقى ستكون عالم ابني "بحر" الواسع، وممّا لا شكّ فيه، أنّها سترافقه بأبعادها، طوال حياته. أمّا الرسم، فكان عليّ أن أنتظر، بدءاً من عمر الثلاث سنوات، عندما أحضرنا له مجموعة ألوان الباستيل، ودفاتر الرسم الخاصّة بها، لكي يخربش على الأقلّ، وكيفما اتّفق، من باب اكتشاف حساسيّة اللّون لديه، إلاّ أنّه كان يرفض الورق، ويذهب مباشرةً إلى حائط غرفة الجلوس الأبيض، ويستند إليه بيده الصغيرة، ويبدأ الخربشة بيده الأخرى.
في الحقيقة، لم أكن لأهتمّ كثيراً بردّة فعل والدته، عندما تعود من العمل وتوبّخني على فعلتنا هذه، وهي المهووسة بنظافة البيت، وأناقة الحيطان، والأغراض وو...إلخ، بقدر ما كنت أستمتع بالفعل، وأنا أراقب جنوحه الطفوليّ الجميل على هذا الحائط؛ أضحك وأردد في سرّي: ليذهب هذا الحائط إلى الجحيم… أريد أن أعرف ماذا سيفعل طفلي عليه! كان يخربش بمتعة كبيرة، ومن دون أن أدري كيف، ولماذا. تناولت أحد الألوان، وبدأت بالخربشة معه... إنّها المساحة البيضاء الناصعة الممتدّة والواسعة، والتي ستغري أيّ شخص آخر للرسم عليها، فكيف بطفل صغير يكتشف الألوان للمرّة الأولى؟ وأب يتساوق بمتعة كبيرة مع طفله، ويرغب سرّاً بمناكدة زوجته العزيزة؟!
بالطّبع لم أسلم من التوبيخ، لكنّ ذلك الحائط أصبح له وحده، وسيخربش عليه لاحقاً، مراراً وتكراراً، وكيفما اتفق. من المؤكّد أنّ ذلك لم يكن كافياً لأكتشف لديه شيئاً في هذا الخصوص، إذ إنّ الوقت لا زال مبكراً جداً على ذلك، بل ربّما كان الأمر في جوهره، مجرّد حدس مسبق لديّ، ولربّما لدفعه في هذا الاتجاه، وهذا ما ثبت لاحقاً. لكنّ النقطة الحاسمة في هذا الأمر، حدثت بعد ثلاث أو أربع سنوات، أي في السابعة من عمره، عندما رسم أوّل تشكيل صغير يؤكّد لي حدسي الشّخصي حياله:
من هذا الذي رسمته يا بنيّ؟
هذا أنت يا بابا!
في الحقيقة، كان وجهي المقصود، أو بتعبير أدقّ، وجه ذلك الحمار واضحاً في الرسم بأناقته التجريديّة كلها، الخاصّة بطفل يبدأ بمحاولته الأولى النّاضجة على صعيد الخطّ.
حسناً، لقد قُضي الأمر بالنسبة إلي؛ أنت فنّان يا بحر... وأنا سأبقى حمارك الكبير الأبيض المطيع. أعدكَ بذلك منذ الآن!
حسناً، لقد قُضي الأمر بالنسبة إلي؛ أنت فنّان يا بحر... وأنا سأبقى حمارك الكبير الأبيض المطيع. أعدكَ بذلك منذ الآن!
الانعطاف نحو الرسم والنسيج اليدوي
ما سبق كله، ستأتي ثماره لاحقاً... أي قبل سنوات قليلة، عندما خسر البيانو الذي يملكه، نتيجة مرورنا بظروف قاسية كانت تتفاقم تدريجيّاً، كأيّ أسرة سوريّة في زمن الحرب، واضطرارنا إلى بيعه مع أغراض أخرى. ومن جهة ثانية، قدومه للسكن معي في القرية، ممّا عجّل في انعطافه الشّديد نحو الرّسم، بالإضافة إلى خروجه المبكّر من مدرسة القرية لاحقاً، والتي وضعتُه فيها تحت ضغط من والدته، ولم أكن مقتنعاً بها. كانت لها آثارها السلبيّة جدّاً، والتي عانينا منها فترة طويلة، إذ فشلت محاولة دمجه مع الأطفال الآخرين فشلاً ذريعاً. ولذلك حديث آخر ذو شجون، لا يتسع له المجال هنا.
في تلك الأثناء، كان لديّ مشروع فنّي خاصّ بتصميم البسط وحياكتها على النّول التراثي، إلاّ أنّ الوضع الاقتصادي للبلد كان يتدهور بسرعة كبيرة، وكنت بالكاد أكسب قوتي من هذا العمل الصّعب، وكان بحر يرقب كلّ شيء بصمت، بدءاً من تصميم البسط على الورق، وانتهاءً بتنفيذها على النّول، إلى أن أتت الفكرة: بابا حبيبي، أنت ترسم الكثير من الفتيات الصغيرات الجميلات، الكرديات والعربيات، الشقراوات والسمراوات، والغجريات اللواتي يرقصن ويتسوّلن، لمَ لا تصمّم لي بساطاً صغيراً كي أنفّذه لك على النّول؟
أعجبته الفكرة كثيراً، وشرع في رسم البسط وتصميمها، يوميّاً، إلى أن أخذ يُدخل ويوظّف، شيئاً فشيئاً، مكتسبه هذا، في رسوماته، وكان التشجيع مستمرّاً في كلّ لحظة. وعند انتهاء أيّ عمل له، كنت أدعه على راحته من دون أن أتدخّل في أيّ شيء يفعله. أوجّه له بعض الملاحظات فحسب، بطريقة مدروسة، وبعيداً عن أسلوب التلقين، ولتصويب بعض الأمور لديه، على صعيدي الخطّ والّلون. كنت أجلس إلى جانبه، في الوقت الذي لا يرسم فيه، وأبدأ بالرسم، وأطلب منه إبداء رأيهِ بما أفعل، وأتحاور معه في بعض التفاصيل التي أرغب في لفتِ انتباهه إليها، بالإضافة إلى هواجسي، ومحاولاتي المستمرّة في إطلاعه على ما تقع يدي عليه كله، من صور، وإنجازاتٍ لفنّانين آخرين.
في الطبيعة نقلِق راحة الضفادع
لم يكن لديّ وقتها أيّ اتصال بعالم الإنترنت. كنا، أنا وهو، في عزلة حقيقيّة مطلقة وسط الطبيعة، بعيداً عن أيّ نشاط اجتماعيّ، بحكم ظروفنا الخاصّة. ولتعويض ذلك، سنلعب الكرة على سطح المنزل، ونذهب في جولات يوميّة إلى ضفاف النّهر، ونشرب الشّاي على الحطب، ونرمي الحصى لإقلاق راحة الضفادع العائمة، ونغنّي معاً، وننتقي بعض الحصى المميّزة، ونجلبها معنا إلى البيت، ونتحاور في كيفيّة توظيفها في لوحة ما، وما يجب أن يوحي به هذا النتء، أو تلك الحفرة في الحصاة الصغيرة.
أيضاً ذلك السؤال الذي لم يطرحه قطّ، وسيتفادى دائماً الإشارة إليه، بطريقة مباشرة، وهو: لم أنا هكذا يا أبي؟!
كنت، بغريزتي، أشدّه إلى عوالم من شأنها أن تدعم ميوله الفطريّة، ومواهبه، وأتحاور معه بتلقائيّة، وببالغ الاحترام، غير مراعٍ كثيراً لذهنيّته كطفل، إلاّ في ما يخصّ بعض الأمور اليوميّة التي تقتضي منّي الحيلة لتمريرها. وعندما أسترسل قليلاً في أمر ما، يكون عليه أن يسأل: ماذا تعني هذه الكلمة يا أبي؟ فأنتبه فجأة إلى غفلتي هذه، وأعود لأشرح، وأبسّط له الفكرة، وأقيم له المقاربات الهزليّة كي يفهمها جيّداً. إلّا أنّ ذلك السؤال، أو المأزق الوحيد الذي لم أكن أعرف قطّ كيفيّة الخروج منه، أو الإجابة عليه بطريقة مقنعة، هو سؤاله المتكرّر ذاته، ولفترة طويلة من الزمن، والذي سيكرّره على والدته، وأعتقد أنه شكّل لها المأزق ذاته الذي لن تُحسَد عليه، ولن يحصل هو بالمقابل على أيّة أجوبة دامغة وقطعيّة عنه، ألا وهو: لِمَ لا تعودان أنت وأمّي إلى بعضكما البعض؟ الماما تحبّك، وأنت أيضاً تحبّها كثيراً!
لمَ أنا هكذا؟
أيضاً ذلك السؤال الذي لم يطرحه قطّ، وسيتفادى دائماً الإشارة إليه، بطريقة مباشرة، وهو: لم أنا هكذا يا أبي؟!
كان إدراكه لحالته الخاصّة، واختلافه عن بقيّة الأطفال الآخرين، موطن ألم داخليّ لديه، ولم يكن يرغب بالتصريح عنه، إلاّ في ما ندر. وعندما كان يتعرّض لسوء فهم مباشر، يتبعه موقف معيّن من وسط اجتماعي غبيّ ومتخلّف، ومن أطفال آخرين وجدوا فيه ضالتهم، للتنمّر عليه والسخرية منه، كان يلتقط تلك الإشارات بألم وصمت، ويخزّن انفعالاته، ثم يعود للحديث عنهم أمامي، بغضب شديد. هو المحبّ الكبير، الذي لم يكن ليستوعب قطّ تلك الصعوبات التي يمرّ بها، والتي سيرتطم بها غالباً، عاجلاً أم آجلاً، في سقف هذا المكان، بطولهِ وعرضه.
كانت لديّ بالطّبع تلك الفكرة الثّابتة المقيمة، والثّقة اللازمةِ لتنفيذها؛ العمل على توعيته، وتنمية إدراكه، باستمرار، لجعله يتجاوز ذلك، من خلال التساوق معه في انزياحاته، وفي اضطراباته، وإشراقاته، لتمرير ما يلزم كله، من أجل تحريره سريعاً، آخذاً من كلّ شيء بطرف؛ الأب، والأمّ، والطفل الصّديق، والطفل الكبير الصّديق، والأخ الكبير، إلخ...
كان إدراكه لحالته الخاصّة، واختلافه عن بقيّة الأطفال الآخرين، موطن ألم داخليّ لديه، ولم يكن يرغب بالتصريح عنه، إلاّ في ما ندر
معارض مشتركة مع بحر
عندما توقفت عن حياكة البسط، لأسباب لها علاقة مباشرة بالتردّي الاقتصادي في زمن الحرب، ولضعف القدرة الشرائيّة لدى الناس، انعطفت مباشرةً إلى اللّوحات. كانت الفكرة هي إقامة معرض تشكيلي خاصّ بي، بإنجاز أعمال على نول البسط التّراثيّ، لكون الفكرة غير مطروقة على هذا النّول بالتحديد؛ لوحة حديثة تنتمي إلى معايير التشكيل الحديث كلها، وبعيدة البعد كله عن الأعمال التقليديّة السّائدة. وبينما كنت أعمل، كان بحر يرسم أيضاً، لكنّ المفاجأة بالنسبة إليّ، هي تلك القفزات النّوعيّة في عمله، بين لوحة وأخرى، وتلك الرسوم الفريدة من نوعها، وهذه الحلول الخاصّة به على صعيد المخيّلة. وبينما كنت أتأمّل إحدى رسوماته، مبدياً إعجابي الشّديد بها، خطرت لي الفكرة؛ لِمَ لا يكون بحر شريكي في معرضي القادم من خلال تنفيذ رسومه على النّول، ووضعها مع أعمالي، جنباً إلى جنب؟ ستكون فكرةً مبتكرة، وذات مردود إيجابي جدّاً بالنسبة إليه، من الناحية المعنويّة.
لاحقاً أقمنا معرضاً في صالة "هيشون"، في مدينة اللاذقيّة، وأتبعناه بمعرض آخر في مقهى "الأرض كبرتقالة زرقاء"، في إحدى المدن السويديّة... والحبل على الجرّار!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين