أستقلُّ الباص الأبيض الصغير الذي يطلق عليه السوريون اسم "السيرفيس"، متوجهاً إلى مكتب المحامي أسامة عبد الرحمن، وأفكّر وصوت فيروز يصدح منشداً: "أسامينا شو تعبوا أهالينا تلاقوها وشو افتكروا فينا، الأسامي كلام...". أفكر باحثاً عن بداية الخيط لعالمٍ من أطفال بلا نسب، أطفال مكتومي القيد وبلا هوية، يولدون في الحرب مع اختفاء الآباء قسراً، "قتلاً أو خطفاً أو تهجيراً".
عشر سنوات أو أكثر مضت، استحالت معها سوريا صندوقاً كبيراً لحكايات حرب تقتات على الأحلام. أحلام قُتلت، وأحلام هُجّرت، وأخرى تحاول المضي قدماً من دون اكتراث بما تبثه الحرب في وجهها من سموم الفقر والتخلف والتشريد.
في طريق العودة، تستعيد ذاكرتي حكاية تلك التي كانت الدموع تملأ عينيها، وهي واقفة تتلفت بناظريها لا حول لها ولا قوة بعد أن قادتها الطريق وخطواتها إلى مكتب المحامي ممسكةً طفلتها بين يديها وكأنها تمسك جمرةً ملتهبةً.
تزوجت بتول بـ"كتاب براني" أيام سيطرة جبهة النصرة في سوريا، اختفى زوجها وهي إلى اليوم لا تستطيع تسجيل طفلتها أمل
تعلم بتول أن دموع السوريين باتت بلا قيمة، كعملة بلادهم، لكنها وقفت هناك على قارعة الطريق أمام المكتب، وقد تحجرت في عينيها دمعتان، لا تعلم وهي من أخفقت في نقل ابنتها إلى خانة "بنات الحلال"، ما تفعل. هي فشلت في تثبيت عقد زواجها "العرفي" الممهور باسمها واسم زوجها "أبو محمد الغريب"، وتقطعت بها الأسباب وانسدت في وجهها كل السبل في إقناع القاضي بأن ابنتها ثمرة زواج شرعي "كتاب شيخ"، لتبقى صغيرتها، أمل، في نظر القانون مجردةً من النسب لأبيها المقاتل في صفوف المعارضة السورية، والذي اختفى في الحرب.
الشابة العشرينية التي كان يلفّها السواد من قمّة رأسها حتى أخمص قدميها، تزوجت "بكتاب برّاني" في الفترة التي سيطرت فيها جبهة النصرة أو ما باتت تُعرف باسم هيئة تحرير الشام، على معرة النعمان في ريف إدلب، وبعد أن استعاد الجيش السوري سيطرته على المنطقة مطلع العام 2020، هجرت المكان وبدأت معركتها مع الحياة حتى الموت، ومع الموت حتى الحياة، للنجاة، وقادتها دروب التوهان عن أهلها وذويها إلى دمشق تحمل بين ذراعيها طفلةً لم تتجاوز حينها ربيع عمرها الأول.
تهمس بتول في أذني: "لا أعلم عن والد طفلتي شيئاً، لا اسم ولا أسرة ولا عنوان". فالزوج المختفي لم يكن سورياً بل مهاجراً غريباً جاء إلى سوريا "مجاهداً"، وعقد قرانه عليها في المعرة يوم كانت المعارضة تسيطر على المكان، لتنجب منه طفلتها الوحيدة. شاهدا زواجها كانا ممن هاجروا إلى سوريا جهاداً، فكيف لها أن تأتي بهما إلى المحكمة وفقاً لما اشترطه القاضي، ليؤكدا صحة ما جاء في عقد زواجها العرفي الذي تسعى إلى تثبيته.
تقول بتول: غادرنا زوجي ليقاتل، ومنذ ذلك الوقت لم تأتِنا الريح عنه بخبر، ليس لي اليوم، أنا التي لا أعرف حتى أقل القليل عن أهل زوجي أو بلده حتى ألتجئ إليهم، إلا أمل"، وتتابع: "أكثر ما يدمي قلبي هو أن تكبر صغيرتي لتسألني يوماً: من أبي؟".
"أطفال جهاد النكاح"
بتول ليست حالةً فريدةً من نوعها، فهذا هو حال المئات بل الآلاف من النساء اللواتي أورثن أطفالهن صفة "مجهول النسب"، بعد أن قادتهن الأقدار إلى الزواج بمقاتلين أجانب ممن توافدوا إلى سوريا عبر الحدود، مهاجرين مجاهدين، في ظل مجتمع وتشريعات تأبى الاعتراف بمثل هذا النوع من الزيجات، بل إن الأمور وصلت إلى حد وصف البعض من المسؤولين السوريين وممثلي الشعب تحت قبة البرلمان السوري، ثمار هذا الزواج من أطفال، بالقنابل المتطرفة الموقوتة، وثمار الإرهاب.
قبل سنوات من الآن، وتحديداً في حزيران/ يونيو من العام 2018، خصص مجلس الشعب السوري جلسةً لمناقشة مقترح قانون يعالج شؤون مجهولي النسب. كانت الجلسة عاصفةً بالنقاش الحاد، وهو ما انسحب حينها على السوريين نخباً وعامةً وإعلاميين، ففي حين رأى البعض أن لا ذنب للأطفال في تحمّل وزر آبائهم، وأن إقرار القانون يأتي استجابةً لحاجات إنسانية ملحة، رأى البعض الآخر، كالنائب السابق نبيل صالح، "عضو مجلس الشعب السوري في حينه قبل أن يعتزل الحياة السياسية لاحقاً، أن "هذا القانون يكرس سلالة الإرهابيين بوثائق رسمية، ويشرع ما أسماه بجهاد النكاح".
مواقف كُثر من السوريين بمن فيهم نواب عن الشعب، وسمت النساء اللواتي فرضت عليهن الحرب العيش في مناطق خارج سيطرة حكومة دمشق، بمجاهدات النكاح
مواقف كُثر من السوريين بمن فيهم نواب عن الشعب، وسمت كل النساء اللواتي فرضت عليهن ظروف الحرب العيش في مناطق خرجت عن سيطرة حكومة دمشق، بمجاهدات النكاح، وهو أمر انسحب على أطفالهن بطبيعة الحال: "أطفال جهاد النكاح"، ولكن بمتابعة متأنية ودقيقة لحياة القاطنين في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، فإن عقود الزواج فيها تتطابق شكلاً مع ما هو معمول به في جميع الدول الإسلامية لا في سوريا فحسب: "الزوج، والزوجة وولي أمرها، والشاهدان، والشيخ، وعلى سنّة الله ورسول الإسلام"، ولكن من دون تسجيل العقد رسمياً في دوائر الدولة السورية.
تُعرّف التشريعات والقوانين السورية مجهول النسب، بأنه طفل أو وليد لا يُعرف له والدان، أو مجهول أحد الوالدين، فلم يشمله القانون سواء أكان ثمرة علاقة غير شرعية أو مولوداً من زواج عرفي غير موثق في الدوائر الرسمية.
وبعيداً عما يحمله قانون مجهولي النسب الذي أقرّه مجلس الشعب السوري من آراء، تتعدد وتتنوع حالات أولئك الأطفال الذين يملأون شوارع سوريا طولاً وعرضاً ممن يجهلون كلا والديهما، أو أحدهما، أو ممن هم معروفو النسب ولكنهم لا يمتلكون من الوثائق الصادرة عن دوائر الأحوال المدنية "النفوس"، ما يثبت هويتهم أو نسبهم، وكل هؤلاء يدخلون قانوناً في خانة مكتومي القيد ما يشكل معضلةً تواجه المجتمع السوري تستدعي حلاً اجتماعياً وقانونياً عاجلاً.
بعد أكثر من عشر سنوات حربٍ لم تُبقِ ولم تذر، عاثت خراباً وتدميراً وتهجيراً وتشريداً في السوريين، اتسع خرق مشكلة مكتومي القيد على الراتق، بعد أن حالت ظروف الحرب دون تسجيل عشرات الألوف من أطفال السوريين، لينمو على هذه الأرض نسل الحرب، جيل سوريا الضائع الذي يشكل مجتمعاً موازياً لا منتمياً إلى أية بقعة من هذا العالم بكل ما يحمله هذا الأمر من مشكلات ومخاطر.
نسل داعش
بالعودة إلى منتصف العام 2015، حين اتسعت خلافة داعش ومناطق سيطرة جبهة النصرة حتى ابتلعت نحو ثلثي مساحة الأرض السورية، تزامن ذلك الأمر مع نشاط دعوي "فوق العادة"، للالتحاق بصفوف الحركتين وأخواتهما من مجاميع متطرفة، فتدفق على سوريا سيل من المقاتلين الغرباء المهاجرين "جهاداً". بعض هؤلاء رافقته زوجته، غير أن الغالبية العظمى منهم أتوا فرادى، وعلى طول المقام والاستقرار وإن نسبياً، بدأوا بالبحث عن نساء يأوون إليهن في المناطق التي سيطروا عليها تحت مسمى الزواج.
تُعرّف التشريعات والقوانين السورية مجهول النسب، بأنه طفل أو وليد لا يُعرف له والدان، أو مجهول أحد الوالدين
يؤكد الباحث في علم الاجتماع سعد محمود، لرصيف22، أن "ما أحاط بهؤلاء المقاتلين من قوة وما حمله بعضهم من مال أو ما استحصلوا عليه من غنائم حرب، إلى جانب ما شغلوه من مناصب إن في داعش أو في النصرة أو غيرهما، كانت إغراءً ما بعده إغراء لكثير من النساء اللواتي انجذبن إلى الزواج بهم، غير أن معظم العقود الخاصة بتلك الزيجات لم تُستخدَم فيها الأسماء الصريحة للمقاتلين، بل ألقابهم، كـ"الشيشاني، والألباني، والشامي... إلخ".
"الهول" نمودجاً
شهدت المحافظات في الشرق السوري الكثير من حالات الزواج التي اقترنت فيها نساء سوريات بمقاتلين أجانب وفقاً لمحمود، الذي يقول إن "عقود الزواج كانت تتم كتابتها بيد القاضي الشرعي لداعش، مُغفلةً الأسماء الحقيقية للأزواج، ومستعيضةً عنها بألقابهم أو بأسمائهم المستعارة أو أسماء شهرتهم، فلا يُعلم لهم حسب ولا نسب، ولا حتى اسم صريح"، ليلفت إلى أن المشكلة التي برزت لاحقاً هي أن كثيرين من هؤلاء إما أُسروا أو لقوا حتفهم أو عادوا فغادروا سوريا بعد انحسار "دولتهم المزعومة"، وفقدانهم أي ملاذ آمن على الأراضي السورية على إثر ما تعرضوا له من انتكاسات وهزائم.
ويضيف: "المشكلة الأكبر تكمن في أن هؤلاء المقاتلين المأسورين أو المقتولين أو المغادرين، خلّفوا وراءهم أطفالاً مكتومي القيد وبلا هوية، يعيشون مع أمهاتهم المجهول، ولا يُعرف ما هو مصيرهم في مخيم الهول الذي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية وغيره من المخيمات التي تديرها قسد".
تقول المعلومات إن نحو 40 ألف طفل يقطنون مخيم الهول الواقع في شمال شرق سوريا، والذي يعدّه مراقبون "قنبلةً موقوتةً" بسبب احتجاز آلاف العائلات الموصوفة بـ"الداعشية" داخل حدوده في أوضاع أقل ما يقال فيها إنها كارثية ومروعة، وفقاً للجنة الأمم المتحدة المعنية بالتحقيق في الانتهاكات المرتكبة في سوريا، ويؤكد رئيس اللجنة باولو بينيرو، أن "معظم الأطفال المحتجزين في المخيم، لا يمتلكون وثائق ولادة، وهذه مخاطرة بتحويلهم إلى متطرفين بتركهم عديمي الجنسية".
حلم أشبه بالكابوس
لم تضع الحرب السورية المستمرة منذ نحو من 11 عاماً أوزارها بعد، لكن معضلة مجهولي النسب ومكتومي القيد طفت فوق السطح كواحدة من أعقد نتائجها، وما يزيد الطين بلّةً أن المسألة آخذة بالاتساع والمشكلة بدأت تتفاقم مع الزيادة المضطردة للمواليد في مناطق سيطرة المعارضة الذين تحول ظروف الحرب دون تسجيلهم في دوائر النفوس التابعة لدمشق.
عمر، طفل من الريف الغربي لحلب في شمال سوريا، الذي تسيطر عليه هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً)، يدخل عامه الرابع، باسمٍ وكُنية هي "السهو"، يحفظهما عن ظهر قلب، وعلى الرغم من ذلك لا وجود له مطلقاً بحكم القانون والسجلات، فعائلته لا تمتلك أي إثباتات أو أوراق تحمل اسمه أو تاريخ ميلاده أو حتى توثق أنه ينتمي إلى لأسرة المكونة من أب وأم وأخوين، فعمر لا اسم مسجلاً له في دوائر الأحوال الشخصية التابعة للحكومة السورية في دمشق.
نحو 40 ألف طفل يقطنون مخيم الهول الواقع في شمال شرق سوريا، والذي يعدّه مراقبون "قنبلةً موقوتةً"
والد عمر لم تساعده ظروفه على تسجيل ابنه في دائرة النفوس في مدينة حلب، يقول لرصيف22، إنه "ينتمي إلى صفوف المعارضة وتوجهه إلى حلب سيقوده إلى السجن حتماً"، وهذه ليست حالةً فريدةً من نوعها، فالغالبية العظمى من السوريين القاطنين في المناطق التي تحكمها فصائل المعارضة المسلحة في الشمال السوري كإدلب، هم من مناهضي حكومة دمشق.
وتوجه هؤلاء أو مراجعتهم لدوائر السجل المدني، لتثبيت حقوق أطفالهم وتسجيلهم في دوائر النفوس أمر يلامس حدود المستحيل لأنهم قد يكونون عرضةً للاعتقال، وهو ما يزيد الأمور تعقيداً على تعقيد يوماً إثر يوم، والمحصلة أن عشرات بل مئات الألاف من أطفال سوريا ممن وُلدوا خلال سنوات الحرب، باتوا يدفعون ثمن ما يؤمن به ذووهم من مواقف سياسية، وأصبحوا محرومين من أبسط حقوقهم التي ليس أولها ولا آخرها حقهم في الهوية.
حكاية عمر ليست استثناءً، فعلى المسافة الزمنية الممتدة من العام 2011 وحتى اليوم، تمردت مدن ومناطق كثيرة، وخرجت عن سيطرة حكومة دمشق. عشر سنوات أو أكثر، حصلت خلالها آلاف مؤلفة من حالات الزواج والطلاق والولادة والوفاة في مناطق سيطرة المعارضة من دون أن تجد لها طريقاً للتوثيق في السجلات الرسمية.
يقول المحامي أسامة عبد الرحمن، لرصيف22، إن "المعضلة الكبرى تتمثل في غياب جهات تأخذ على عاتقها تسوية الوضع القانوني للسوريين القاطنين في مناطق سيطرة الفصائل المسلحة، بعد أن أغلقت معظم دوائر النفوس أبوابها في تلك المناطق وتوقفت عن العمل منذ العام 2012، أما الدوائر القليلة المتبقية والتي لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، وعلى وجه التحديد في مناطق سيطرة جبهة النصرة في إدلب، فليس من المتوقع أن تلقى الواقعات الاجتماعية الحاصلة والمسجلة فيها اعترافاً من حكومة دمشق".
يصف رامي عطية الوضع بـ"نذر كارثة" سيحملها المستقبل، ويواجهها الأطفال غير المسجلين في دوائر النفوس التابعة لدمشق، "ففي الشمال السوري وحده ما يتجاوز الخمسين ألف طفل من مجهولي النسب، فيما يقول البعض إن هناك ما يفوق العشرين ألف طفل من مجهولي النسب في مدينة حلب بعد أن غادرتها الفصائل في العام 2018".
مع ذلك، يقول عطية إنه "لا تتوافر أي جهة، إن رسمية أو مجتمعية، على أرقام وإحصائيات تحمل شيئاً من الدقة عن أعداد مكتومي القيد في الشمال حتى اللحظة، ومن غير المحتمل أو المتوقع الوصول أو الحصول على هذه الإحصائيات على المدى القريب، نظراً لحجم الكارثة والعداد التراكمي للحالات التي يصعب حصرها، ناهيك عن أن إدلب وحدها فيها ما يفوق المليون طفل يعيشون المأساة السورية بكل تفاصيلها بسبب الحرب ولا يعلم إلا الله ما سيكون مصيرهم وهم المحرومون من أدنى الحقوق الإنسانية والمتمثل في إثبات الهوية".
لا تتوافر أي جهة، إن رسمية أو مجتمعية، على أرقام وإحصائيات تحمل شيئاً من الدقة عن أعداد مكتومي القيد في الشمال حتى اللحظة
يتابع: "عدم تدارك الأمر سيرمي بهؤلاء الأطفال في خانة مكتومي القيد، ما يعني أنهم سيُحرمون من حقوقهم المدنية، من الترشح إلى الانتخاب والتعيين في الوظائف الرسمية وحتى الطبابة في المستشفيات الحكومية، كما أن هناك عدداً من الآثار السلبية تنتج عن عدم تسجيل أطفال السوريين وتثبيت حضورهم في سجلات الدولة، منها على سبيل المثال لا الحصر عدم قدرتهم على حماية ممتلكاتهم أو أراضيهم وعقاراتهم من الميليشيات المنتشرة في أربع جهات البلاد، والتابعة لكلا الطرفين، إن في الموالاة أو في المعارضة، إن قرر هؤلاء الاستيلاء عليها عبر التزوير".
معالم الكارثة تتكشف
منذ العام 2011 وحتى اليوم، تغيرت في سوريا أشياء وأشياء. تقدمت المعارضة وتراجع الجيش السوري ثم عاد الجيش ليتقدم وتتراجع المعارضة، لكن الثابت اليوم أن مناطق واسعةً في البلاد خرجت من قاموس العمل العسكري، وعلى الرغم من ذلك فإن الوصول إلى نهاية فصول المأساة التي يعيشها أطفال سوريا، إن في مناطق المعارضة أو في المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها، لا تبدو قريبةً مطلقاً.
مريم، واحدة من اللاجئات الفلسطينيات القاطنات في الغوطة الشرقية لدمشق، وتحديداً، مدينة دوما، تزوجت في أثناء حصار الغوطة الشرقية في ريف دمشق بعقد برّاني "كتاب شيخ"، أو ما يُعرف شرعاً بالعقد العرفي، وكانت ثمرة زواجها ابنتها نور، ولم يمضِ على زواجها عام حتى لقي زوجها حتفه في إحدى موجات القصف على الغوطة.
يومها، كانت طفلتها في شهرها العاشر من العمر، ولكن بعد التسويات التي حدثت في الغوطة وخروج المقاتلين منها إلى إدلب ودخول الجيش السوري إليها في العام 2018، عملت مريم جاهدةً على تثبيت عقد زواجها بهدف تسجيل ابنتها التي توشك اليوم على دخول سنتها السادسة، في دائرة الأحوال المدنية، لكن الصدمة الكبرى كانت حين علمت أنه بمقتل زوجها فإن الورقة التي في حوزتها والتي كتبها "الشيخ"، لا تثبت شيئاً، بل لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، خاصةً في ظل غياب الزوج وأهل الزوج والشهود. "بقيت الصغيرة مكتومة قيد ولا يمكن لأمها تسجيلها في المدرسة أو تثبيت نسبها".
عملت مريم على تثبيت زواجها لتسجيل ابنتها في دائرة الأحوال المدنية، لكن الصدمة كانت حين علمت أنه بمقتل زوجها فإن الورقة التي كتبها "الشيخ"، لا تثبت شيئاً، ولا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به
الزواج العرفي شكل معترف به ومحمي مجتمعياً في بعض الدول العربية، وينتشر بشكل كبير في المجتمع السوري، وزادت ظروف الحرب من انتشاره إذ يُكتفى به لإتمام الزواج بشهادة شاهدين وقبول الطرفين "الزوج والزوجة"، من دون اللجوء إلى تسجيله رسمياً في المحكمة لأسباب كثيرة، لكنه بات واحداً من أهم أسباب كتمان القيد وجهالة النسب.
داومت مريم على الحضور إلى القصر العدلي في دمشق برفقة المحامي في محاولة منها لتثبيت زواجها الذي قد يساعدها في إثبات نسب ابنتها، حتى غرقت في الديون وباتت تستجدي الناس ولكن بلا فائدة تُرجى.
عانت مريم مع المحامين إلى أن وصلت إلى مقابلة عبد الرحمن، الذي أخبرها بأنها إن أقرّت أمام القاضي بأنها أنجبت ابنتها من علاقة سفاح خارج إطار مؤسسة الزواج، فسيقضي لها بتسجيل ابنتها وفقاً لبنود القانون الذي أقرّه مجلس الشعب السوري عام 2018، الخاص بمجهولي النسب. تردد مريم: "أنا لم أزنِ ولن أكون يوماً من الأيام زانيةً، ولكن ألست أنا التي جنيت على ابنتي حين جئت بها إلى هذا العالم من دون أن يكون بإمكاني الحفاظ حتى على أبسط حقوقها".
بحسب أحد المحامين، فإن دعاوى تثبيت الزواج والنسب ارتفعت من 7 في المئة من بين القضايا التي كان يترافع عنها قبل الحرب، إلى 80 في المئة اليوم
مريم فلسطينية سورية لا تمتلك ما يثبت زواجها، ولا تزال في نظر القانون مريم. س، الحالة الاجتماعية عزباء، تقول: "سأتوقف الآن عن متابعة القضية لأنني ما عدت قادرةً على تحمّل أعبائها المادية أو حتى التواصل مع من شهدوا واقعة زواجي، وحتى لو بقيت ابنتي من دون أوراق ثبوتية فلن أقبل بما عرضه عليّ المحامي، ولن أسمح بأن تكون ابنتي في سجلات الدولة بنت حرام".
يقول المحامي عبد الرحمن المختص بقضايا الأسرة وقانون الأحوال الشخصية في محاكم دمشق وريفها، إن قضايا تثبيت الزواج والنسب تتزايد باستمرار، فبعد أن تعامل مع قضية واحدة بين عامي 2007 و2010، باتت اليوم تأتيه كل شهر عشرات القضايا المتعلقة بهذا الأمر، ويضيف: "دعاوى تثبيت الزواج والنسب ارتفعت من 7 في المئة من بين القضايا التي كان يترافع عنها قبل الحرب، إلى 80 في المئة من نسبة القضايا الموكلة إليه للترافع عنها بعد الحرب".
يرمي الزواج العرفي بالفتيات في شراك علاقة يقال عنها إنها ترضي الله ورسوله، لكنها لا تجلب لهن إلا الوبال والمآسي، خاصةً إذا ما أنجبن أطفالاً، فتضيع حقوقهن وحقوق أبنائهن المنقوصة أصلاً، ويعشن حياةً ملؤها الخوف من أن يتركهن الزوج ويتخلى عنهن فتضطرهن الظروف إلى مواجهة مجتمع لا يرحم.
رضّعٌ على قارعة الطريق
حتى اليوم، لا سند قانونياً يسمح للمرأة السورية بتسجيل أطفالها إذا رفض الأب الاعتراف بهم، وهو ما يرمي ببعض النساء في شراك التخلي عن فلذات أكبادهن، ورميهم في الشارع ليواجهوا المجهول، وهي ظاهرة ازدادت بشكل مرعب في سوريا بعد الحرب التي عصفت بالبلاد منذ العام 2011، فبين حين وحين يُترك رضّعٌ ليواجهوا مصيرهم أمام دار لرعاية الأيتام، أو أمام باب جامع، أو حتى على قارعة طريق بجانب مستوعب للقمامة.
في إدلب والريف الشمالي لحلب، سُجّل منذ منتصف العام 2020 حتى نهاية العام 2021، ما لا يقل عن أربعين حالةً لأطفال تخلّى عنهم أحد الوالدين أو كلاهما
بعض هؤلاء الأطفال جاؤوا إلى هذا العالم كثمرة لعلاقة خارج إطار الزواج، وبعضهم الآخر تخلت عنهم أسرهم بسبب الحاجة والفقر والفاقة، وبعضهم عاركوا الحياة وشقوا طريقهم في دروبها، بينما الغالبية العظمى منهم ينتظرهم المجهول، فيكبرون من دون أن يعرفوا من جاء بهم إلى هذه الحياة ليحملوا على كاهلهم وزر ذنب لم يقترفوه، بعد أن يسبغ عليهم المجتمع من نعمه بلقب اللقطاء أو مجهولي النسب.
في إدلب والريف الشمالي لحلب على سبيل النموذج لا الحصر، سُجّل منذ منتصف العام 2020 حتى نهاية العام 2021، ما لا يقل عن أربعين حالةً لأطفال تخلّى عنهم أحد الوالدين أو كلاهما، ويرجح متابعون للشأن العام بأن يكون هذا العدد أكبر بكثير، خصوصاً وأن عديد الحالات المشابهة لم يتم توثيقها نتيجة لبعد مكان الحدث.
وفي هذا الإطار، يلفت الباحث الميداني مرعي الناصر، في حديث إلى رصيف22، إلى النتائج الخطيرة والمصير المجهول لهؤلاء الأطفال الذين تركهم ذووهم عراةً وفي العراء لا يغطيهم أو يحميهم سوى الغلاف الجوي للكرة الأرضية، ويضيء على بعض تلك المخاطر التي قد تشتمل على فقدانهم الحق في التعليم والهوية والجنسية بالإضافة إلى التنمر والنبذ والاضطهاد من المجتمع الذي لا يرى فيهم سوى أبناء سفاح أو زنى ويسمهم بصفة اللقطاء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...