شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لا أحد يبالي بأطفال شوارع مدينتي

لا أحد يبالي بأطفال شوارع مدينتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 8 فبراير 202212:42 م

يتشاجرُ الأطفال في شارع بنت الشاويش في مدينتي اللاذقية، ويطغى صُراخهم على ضجيج الشارع المزدحم، في نهاية طريق ضيقة تطوف بمتاجر الألبسة وهرمونات المراهقين.

أينما ذهبت تجد الضعفاء يحاربون بعضهم البعض.

في نزهةٍ مسائية باردة، وبعد الانقطاع الثالث للكهرباء، يعلنُ أحد المتاجر في نهاية الشارع افتتاحه من خلال صخب المكبرات وتراقص الأضواء الملونة على أوجه المارة، ويعلو على إعلانه صراخ أطفالٍ أصادفهم للمرة الرابعة يتشاجرون، لا لأجل ألعابهم، بل لأجل أموالٍ أمضوا فترة الظهيرة بأكملها في استجدائها من المحسنين.

في لحظة وصولي، أجده يخنق زميله الأصغر بعد أن أخذ منه عنوةً كل ما جمعه من مال. أحاول الاقتراب، فيقوم بإلقائه على الأرض، ويتبع ذلك برفسه بقوة لينهي المعركة من دون أن يرف له جفن. يبدو أن أطفال الشوارع أتقنوا أساسيات القتال ليصبح الخنق والرفس من حركاتهم المفضلة في عالم لا يبالي باختفائهم، وربما لا يشعر.

فاجأني تنوع الشتائم التي تتطاير هناك. شتائم لم أسمع بها من قبل، تُستخدم فيها أعضاؤهم "التي لا تمتلك أي مقدرة بعد"، ثم يتابعون تبادل السُباب بما هو أشبه بقصيدة الأعضاء، إذ تضم أعضاء قبائل كاملة مع أجدادهم الراحلين في قبورهم، بمرافقة بعض الحيوانات

يكزُّ ذو العشر سنوات على شفتيه، وفي عينيه نظرة من أُجبر على تذوق طعم الألم باكراً، ويرمقني بحقدٍ كمن يصرخ: "هذا ما فعله اقترابك!"، ويهرب ثم يركض المهزوم خلفه باكياً تتبعه أخواته الصغيرات في محاولة لإمساكه، والمشاهدون يتابعون الحدث من بعيد.

فاجأني تنوع الشتائم التي تتطاير هناك. شتائم لم أسمع بها من قبل، تُستخدم فيها أعضاؤهم "التي لا تمتلك أي مقدرة بعد"، ثم يتابعون تبادل السُباب بما هو أشبه بقصيدة الأعضاء، إذ تضم أعضاء قبائل كاملة مع أجدادهم الراحلين في قبورهم، بمرافقة بعض الحيوانات.

أطفالٌ خسروا الطفولة منذ شهيق الخروج الأول.

أطفالٌ خسروا الطفولة منذ شهيق الخروج الأول، يُلقَّنون وهم طرايا كعجين الخبز، أساليب الاحتيال والالتفاف في دهاليز المال السهل، ويعملون على استجرار عطف الأقل فقراً، فمن تذوق نصف الجوع يعلم معنى التضور... ويجولون في أحياء تعجّ حاوياتها بما لذ وطاب.

لا أحد يسألهم من أنتم؟ وكيف وصلتم إلى هنا؟ ولا حتى هم يعلمون، ففي غابتهم الخاصة قوانين يتّبعوها بحذافيرها، ولكل استفسار جواب حفظوه عن ظهر قلب، كما أنهم على دراية كاملة بكل الحالات التي تستوجب التحذير والهروب. أما أنت أيها المار الغريب، أتظن أن قوانين غابتك أكثر عدلاً؟

لم تكن تلك هي المرة الأولى، فما سبق هو مشهدٌ مكرر بسناريو مختلف. في المرة السابقة اختاروا مكاناً قرب الجامعة للتمركز، شاهدتُ هناك الأختين تتقاتلان للسبب ذاته، وتُطوِّق يد كل منهما رقبة الأخرى، وتشدّ بقوة. يدان صغيرتان ترسمان مستقبلاً خانقاً، أما الكبرى فتجلس جانباً مفترشةً كرتونةً رقيقةً تقيها برد الأرض، وتضع أمامها كتاباً مدرسياً تحاول فك شيفرته، علّ أحد المارة يتدخل لمحاربة البرد والجهل.

شتتني التردد حينها. خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف. أخاف من التدخل فأصبح من بين المخنوقين بأيدٍ ناعمة، وأبتلع بالابتعاد غصة أطفالٍ عبث بهم القدر. أقف حائرةً أقلبُّ كل الاحتمالات في مخيلتي، وأتوهم نزول أحد خلفاء الآلهة من سيارة بيضاء براقة ليفتح ذراعيه للصغار التائهين، فتنتهي القصة إلى تلك السعادة التي تنهيها الأفلام الهزيلة.

أمام المشهد، تجلس من تبدو أنها والدتهم باستكانة، محنية الرأس، على حضنها رضيع لم تقدر جميع منظمات الأسرة المحلية والعالمية إقناعها بالعدول عن إنجابه في مكانٍ يفتخر فيه الذكر بامتلاك "سلاحه" الخاص منذ نعومة أظفاره.

أمام المشهد، تجلس من تبدو أنها والدتهم باستكانة، محنية الرأس، على حضنها رضيع لم تقدر جميع منظمات الأسرة المحلية والعالمية إقناعها بالعدول عن إنجابه في مكانٍ يفتخر فيه الذكر بامتلاك "سلاحه" الخاص منذ نعومة أظفاره

تشدُّ الأخت شعر الأخرى القصير المصبوغ بلونٍ أصفر، وتطالبُ بأموالها. لم يمضِ الكثير حتى تجرأ أحد المارة على الاقتراب، لينهي تلك المعركة بمنح بعض المال للأخت الأضعف يعوّض به خسارتها، ويتمتم بعدها بمفردات التآخي والمحبة آملاً بزرع شيءٍ ما.

من بعيد، يبدأ صديقهم السكّير بالاقتراب، ويبتسم لذلك الطيب، ثم يحلف له بالخضر أنه ومنذ الصباح يروح ويجيء من دون معرفة سبب الشجار، ويضحك فتضيق عيناه المحمرتان، ثم يضحك المارة، ويضحك كثيراً.

أينما ذهبت تجد الضعفاء يحاربون بعضهم البعض. لا قدرة لنا على الأقوياء، فننهش ما نتمكن من الوصول إليه في زمن تآكلت فيه العواطف والقيم، وامتلأت فجوات الأمل بالصدأ. هناك تجد الخراف الصغيرة تُحضَر للذبح، والجميع يراقبون بصمت.

تنتهي المعارك المتكررة هنا وهناك في المدينة الكبيرة، ثم يعودون إلى أماكنهم، أطفالاً بلا طفولة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard