حين تقابل فتاةً منقّبةً تخفي وجهها، ما هي الصورة الأولى التي تتبادر إلى ذهنك؟ هل يمكن أن تتوقع أن تحت البرقع فتاةً تعزف الموسيقى بكل شغف؟ أو أخرى تلعب الرياضة وتعشقها بكيانها كله؟ أو نسوية ترفض أن يقلل من قيمتها أحد لمجرد أنها أنثى؟ لا أعتقد...
هناك صورة نمطية محددة مسبقاً للمنقّبات كلهن، بأنهن على درجة معيّنة من التدين أو التشدد، وأن أفكارهن واحدة، ونمط حياتهن واحد، واختياراتهن ونظرتهن إلى الحياة تأتي من السردية نفسها، وربما يكون هذا صحيحاً في بعض الحالات، ولكن في بطلات سطورنا القادمة، الأمر ليس صحيحاً نهائياً، بل على العكس تماماً، فهؤلاء الفتيات منقّبات، ولكن "خارج السياق".
تقول زينب (22 سنةً)، من مدينة الزقازيق شمال القاهرة: "لبست النقاب منذ نحو خمس سنوات، وكان قراراً شخصياً بالكامل، بل وأنفقت عليه من مالي الخاص، فلم يكن أحد من أسرتي يشجعني على ارتدائه في تلك المرحلة العمرية، لذلك فهو كان اختياراً حراً تماماً".
هناك صورة نمطية محددة مسبقاً للمنقّبات، بأنهن على درجة معيّنة من التدين أو التشدد، وأن أفكارهن واحدة، ونمط حياتهن واحد.
تضيف زينب في حديثها إلى رصيف22، أن كل من يقابلها يصطدم بآرائها، خاصةً النسوية منها، "فأنا أرفض مبدأ القوامة للذكور، وكلما جاء شخص لخطبتي، يصطدم بأنني منقّبة وأرفض قوامته أو الامتثال لأوامره، خاصةً في ما يتعلق منها بترك عملي، فهو يتوقع نمطاً معيّناً من الفتيات أو بالأحرى ‘الأخوات’. حتى أبي، فهو في غالبية الأحيان متأزم من أفكاري، خاصةً ما يتعلق منها بالزواج والعلاقة التشاركية مع الزوج. أحاول التأثير في النساء في محيطي، فأفتح نقاشاتٍ معهن، وأعزز من ثقتهن بأنفسهن، والتركيز على أن لهن حقوقاً كاملة مثل الذكور، وأنهن لم يُخلقن لأداء الواجبات فحسب".
بالإضافة إلى أفكارها، ترى زينب أن نمط حياتها وتعاملها مع المحيطين بها، يسبب أيضاً ارتباكاً لمن حولها، "فأنا أتواصل بشكل طبيعي مع زملائي وأصدقائي سواء في العمل أو الدراسة، وأرى أن هذا لا يتعارض مع التدين"، موضحةً: "لا أرى أن النقاب يتعارض مع أفكاري النسوية بل على العكس، فأنا فرد جديد بتوجهات مختلفة يضاف إلى صفوف المؤمنات بالنسوية وحقوق المرأة، كذلك اهتمامي بالأغاني وحبي للرقص، وطبعاً هذا الاختلاف كله يضع المحيطين بي في موقف مرتبك في التعامل معي، أو يجعلهم يشكلون آراءً معيّنة حولي، فالبعض يقول لي ‘اقلعيه أحسن’، ولكنني لا أهتم لأحد سوى المقربين مني، والأمر ليس مقتصراً عليّ وحدي، فالمظهر في المجتمع المصري هو عامل كافٍ للناس لتحديد صاحبته في قالب ديني وأخلاقي معيّن، سواء بالسلب أو بالإيجاب".
تنهي زينب حديثها بالقول: "اخترت ارتداء النقاب لأنني أملك قناعةً بأنه يقربني خطوةً أخرى من الله، ولأنني أعتقد بأن مظهري به أكثر جمالاً".
"أنا شخصية قوية وناضجة"
نورهان محمد (28 سنةً)، منقّبة منذ أكثر من سبع سنوات، بقرار شخصي لم يدفعها إليه أحد كما تقول، وفي الوقت نفسه تمارس أنشطةً تتعارض في نظر المحيطين بها مع النقاب، كالتصوير الفوتوغرافي، ورياضة التزلج.
نورهان مع لوح التزلج الخاص بها
"بدأ شغفي بالتزلج منذ سنوات، فأسست مجموعةً لإدارة فريق رياضي في القاهرة، ونجح في الوصول إلى 150 ألف عضو، والآن لدينا مجموعتان في طور التوسع، واحدة للفتيات، وأخرى عامة"، تشرح الفتاة في حديثها إلى رصيف22، وتؤكد على وجود حالة من القولبة لكل المنقّبات بلا شك، وتوزيع أحكام طوال الوقت عليهن، "إنتِ منقّبة يبقى مينفعش تمارسي أي نشاط ترفيهي"، "ولكنني في الحقيقة لا أهتم بتغيير فكرة أحد، وأكتفي بالتعامل الواقعي، وهو وحده جدير بتصحيح الفكرة الذهنية عني".
لا أرى أن النقاب يتعارض مع أفكاري النسوية بل على العكس، فأنا فرد جديد بتوجهات مختلفة يضاف إلى صفوف المؤمنات بالنسوية وحقوق المرأة، كذلك اهتمامي بالأغاني وحبي للرقص، وطبعاً هذا الاختلاف كله يضع المحيطين بي في موقف مرتبك في التعامل معي
تتابع نورهان: "لا أعتقد أن النقاب يتعارض مع الرياضة، أياً كان نوعها، طالما أنني ملتزمة بالزي الكامل ولا أكشف شيئاً من جسمي. إذاً فما وجه الحرمانية؟ لكنني أجد صعوبةً طبعاً في ممارسة التزلج بالحذاء والفساتين الطويلة جداً، لذلك أحاول التوفيق بين ملابسي والرياضة، من خلال الفساتين التي لا تلمس الأرض أو تعلو عنها قليلاً، ولا تكون بسهولة اللعب بالبنطال نفسها، لكن في الوقت نفسه الأمر ليس مستحيلاً إلى درجة التوقف عن لعب الرياضة التي أنا شغوفة بها".
يختلف رد فعل المحيطين بنورهان حسب خلفياتهم الفكرية وفق رأيها. "هناك من يشجعني ويراني مثالاً جيداً للمنقّبات اللواتي لا تتوقف حياتهن بمجرد ارتداء النقاب، وهناك من يتعجب أو يحاول إحباطي، أو حتى يبدأ بالمزايدة الدينية عليّ، لكن على جانب آخر، فإنني أستغل النقاب في تشجيع عضوات الفريق، فإن كنت أنا بالفستان الطويل والواسع أستطيع اللعب، فأي فتاة أخرى قادرة على ذلك".
وتنوّه الفتاة في ختام حديثها بأن أفراد أسرتها لم يكونوا مشجعين أو داعمين لها في البداية، فكانوا يرون، كأغلبية المحيطين بها، أن تلك الرياضة ليست مناسبةً لها ولنقابها، والأفضل ألا تلعبها أو أن تمارس نشاطاً آخر، "لكنني نجحت في إقناعهم بالأمر، وما دمت قادرةً على الحفاظ على أمنياتي ولا أرتكب أي شيء يخالف قناعتنا الدينية، فما المانع من خوض التجربة؟ أنا شخصية قوية وناضجة وقادرة على تحديد ما أريده في حياتي".
نورهان مع فريق التزلج
"مغرمة بالموسيقى"
حنين. ع. (28 عاماً)، من الإسكندرية، تروي بدورها لرصيف22 حكايتها: "أنا منقّبة منذ عشرة أعوام، رغماً عني للأسف، ففي البداية أسرتي فرضت عليّ الحجاب بعد بلوغي الدورة الشهرية، ثم النقاب، والحقيقة أنني مغرمة بالموسيقى والعزف على الكمان منذ طفولتي. كنت أحب مشاهدة حفلات الفنانين الكبار، حتى أركّز على العازفين. أذكر أنني كنت مع خالي، وهو مدرّس موسيقى، في أحد محالّ بيع الآلات الموسيقية، فرأيت الكمان للمرة الأولى من قرب، وتعلقت به كأنه حبيب أو شريك حياة، ووعدني خالي بأخذي إلى دروس تعلم العزف، شرط موافقة أبي، حتى لا يدخلا في خلافات، خاصةً وأن العلاقة بينهما متوترة بالفعل، فأبي سلفي الهوى والأفكار، وخالي مدرّس موسيقى، ولكِ أن تتخيلي شكل العلاقة".
لا أعتقد أن النقاب يتعارض مع الرياضة، أياً كان نوعها، طالما أنني ملتزمة بالزي الكامل ولا أكشف شيئاً من جسمي.
تتابع الفتاة حديثها: "على الرغم من ارتدائي النقاب وزواجي ثم طلاقي، بقيت أحب الكمان، وأحب سماع مقطوعات العزف عليه، حتى بدأت العمل مساعدة محامٍ قبل أربع سنوات، وكأن الله أراد أن يعوّضني عن كل ما مررت به في حياتي، فقد كان عملي قريباً من معهد الموسيقى العالي في الإسكندرية. كنت يومياً أذهب إلى العمل وأعود منه، فأسمع نغمات الآلات وصوت الطلاب، فتقتحم قلبي اقتحاماً، من دون أدنى مبالغة، حتى تشجعت يوماً ودخلت المعهد، وقابلت إحدى المدرسات ورويت لها قصة تعلقي بالكمان كأنني أحادث نفسي. انفتح قلبي لها فانزلقت الكلمات على لساني كأنها صديقتي منذ الطفولة، فعرضت عليّ بعض برامج التدريب للكبار، وقالت إنه ليس شرطاً أن أقتني آلةً منذ البداية، ويمكنني إن اشتريت واحدةً تركها في المعهد إن تعذّر أخذها إلى المنزل".
بقيت حنين أسبوعاً تفكر في الاحتمالات والتفاصيل كلها، ثم عقدت العزم على خوض التجربة مهما كانت النتيجة. أخبرت أهلها بأن ساعات عملها امتدت في بعض أيام الأسبوع، والتحقت بأحد البرامج، وحتى الآن تذهب إلى المعهد بغرض العزف والتدرب.
"واجهت رفضاً من بعض المدرسين بسبب النقاب، والحقيقة لا يمكنني لومهم، ولكن ساعدتني المدرّسة التي قابلتني في البداية. كثيرون من محيطي لا يعلمون أنني أتدرب على الكمان، وصديقاتي اللواتي عرفن، بعضهن فرحن لي، وبعضهن رأين أنني في بداية طريق الانحراف. لم أهتم في الحقيقة، لكن ردود الفعل الأكثر تعجباً كانت من الزملاء والمدرسين في المعهد، فبعضهم قالوا لي صراحةً: ‘ماذا تفعلين هنا؟ ليس هذا مكانك’، والبعض الآخر رأوا أن وجودي انتصار للفن في زمن لا تقدّر الأغلبية فيه الفن ولا الموسيقى، لكن أكثر رد فعل أفرحني كان من خالي، فقد كان سعيداً جداً بما فعلته، ويهتم بالاطلاع على كل جديد في تدريبي، وأحياناً أعزف له عندما نكون بعيدَين عن والدي".
واجهت رفضاً من بعض المدرسين بسبب النقاب، والحقيقة لا يمكنني لومهم. كثيرون من محيطي لا يعلمون أنني أتدرب على الكمان، وصديقاتي اللواتي عرفن، بعضهن فرحن لي، وبعضهن رأين أنني في بداية طريق الانحراف
تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد تعداد دقيق أو رسمي لأعداد المنقّبات في مصر، ولطالما كان النقاب محل جدال مجتمعي، ليس بين التيارات العلمانية والدينية فحسب، بل وداخل كل تيار في حد ذاته، فضمن التيارات العلمانية هناك من يراه حريةً شخصيةً، وهناك من يرى أن إخفاء الوجه تعدٍ على حقوق الآخرين، كذلك داخل التيارات الدينية، هناك من يراه أعلى مراتب الإيمان، وهناك من يراه غلواً وتشدداً لا ضرورة لهما، ومن أبرز مؤيدي الفكرة الأخيرة الشيخ علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، الذي صرح في أكثر من مناسبة بأنه ليس من الشريعة ولا الدين، وإنما هو اختراع سلفي، وكان مؤيداً لحظره في الأماكن العامة.
ولكن هذا الجدال ليس موضوعنا الرئيسي، وإنما إبراز فردانية كل امرأة، وإلقاء الضوء على نساء رفضن أن يخضعن لقوالب جامدة وضعها المجتمع وثقافته لمجرد ارتدائهن زيّاً معيّناً، وفي هذا الرفض بحد ذاته تمرّد على كافة القوالب النمطية الموضوعة للنساء، وانتصار لحق كل امرأة في خوض تجربتها في الحياة كما ترغب هي، وكما يناسبها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...