لم يعد النقاب مجرد زي ديني تعلن به صاحبته زهدها عن الحياة، ومحاولاتها للتقرب من الله فقط، كما تطرحه تيارات دينية في مصر، بل تحول مؤخراً لقضية عامة، بعدما صدر قرار بمنعه عن أعضاء هيئة التدريس بالجامعة، من قبل المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة، نهاية يناير الماضي.
وتحول النقاب إلى ساحة معركة بين التيارات الأصولية المعارضة للقرار وبين التيار العلماني المؤيّد.
لكن ماذا عن المنتقبات أنفسهن، أو بالأحرى من خاضوا رحلة ارتدائه ثم خلعه لسبب أو لآخر، كيف كانوا يرون الحياة من وراء البرقع؟ هل كان يحميهن من التحرش أو الانتهاك كما يعد الخطاب الأصولي؟ هل كن يشعرن بحرية في الحركة أو القرار كما تعدهن الخطابات المروجة للنقاب؟ كيف كانت حياتهن وقتما ارتدينه ووقتما خلعنه؟
"أردت أن آكل آيس كريم"
غادة.ك (38 عاماً) طبيبة صيدلية من القاهرة، خلعت النقاب بعد 3 سنوات من ارتدائه، تقول لرصيف22 عن تلك اللحظة: "كان عمري وقتها 26 عاماً، السبب الرئيس في خلعي له، أنني أريد أن أستمع لأغاني محمد منير، أو أن آكل آيس كريم وهو ما فعلته بالفعل فور خلعه، دون الشعور بالذنب أو الترهيب".
وترى غادة أن للنقاب تأثيراً نفسياً، وسلوكياً، تقول: "كان النقاب حائلاً بيني وبين الحياة الطبيعية، وبعد سنة واحدة من خلعه نزلت ثورة 25 يناير وتغيرت حياتي بشكل جذري، فتحولت لشخص قوي ذو إرادة وحر الاختيار، وليس خائفاً أو مرتعباً طوال الوقت".
وتحكي غادة أن البيئة المحيطة بها، من الأهل والأصدقاء، لم يكن لديهم رأي صريح في النقاب، سواء في ارتدائه أو خلعه، ولكنهم رددوا أمامها عبارات مثل: "ليه تخلعيه ما كان ربنا هداكي"، باستثناء المسجد، تقول عنه: "كان هو البيئة الوحيدة التي كانت صريحة في استهجان خلعي للنقاب ورفضي، المسجد الذي لم أذهب اليه مرة أخرى، أما النقاب نفسه، فلا أراه سوى سادية واضحة ومازوخية مع الذات، وسبب كبير في ارتدائه هو الخلل النفسي والكبت الجنسي، وعدم وجود علاقة سوية مع الجسد".
"الملتزمون تحرشوا بي"
وعن تأثير النقاب في منع التحرشات، كما يروج البعض، تقول غادة: "يدعي البعض أن النقاب حماية من التحرش، ويدعي بعض الرجال أنهم يحترمون المنقبات أكثر من غيرهن، ولكن الحقيقة أنني كنت أتعرض للتحرش بشكل أكثر من الآن، خاصة من المشايخ في المسجد، أو من يطلقون على أنفسهم لقب ملتزمين، والجيران كذلك، لذلك فأن كل ما يندرج تحت بند الدعاية الإسلامية للنقاب، وخاصة قصص الحب الملتزمة والرومانسية الإسلامية، كلها محض أكاذيب وترويج للوهم، وبشكل عام لا تؤثر كثيراً في ترويج النقاب، لأنه منتشر أكثر في أوساط الفقراء واليائسين من الحياة، هذا ما رأيته خلال السنوات الثلاث التي عشت فيهم الحياة من وراء البيشة".
"السبب الرئيس في خلعي لللحجاب، أنني أريد أن أستمع لأغاني محمد منير، أو أن آكل آيس كريم وهو ما فعلته بالفعل فور خلعه، دون الشعور بالذنب أو الترهيب"
وتثمن غادة دور ثورة يناير في تعزيز إرادتها، تقول: "25 يناير كانت اللحظة الفارقة في حياتي كلها، بسببها خلعت الحجاب، وأخذت موقفاً قوياً من كل محاولات الترهيب المجتمعية، أو فرض زي معين على النساء تحت أي ادعاء، والحقيقة أنا لا أعتبر تلك المرحلة بمثابة تغيير جذري في حياتي فقط، وإنما يمكن أن أطلق عليها "استفاقة"، فمثلاً كنت أرغب بشدة في الاستماع للموسيقى والأغاني والرقص وارتداء ملابس أنيقة، وكل هذا كان محرماً في الوسط الذي كنت أنتمي إليه".
وتحكي غادة عن آخر ذكرى لها عندما كانت منقبة: "كانت صديقتي تحاول التقريب بيني وبين زوجها الشيخ الملتزم لتزويجنا ببعضنا، كنت أشعر كأني في مستنقع، وفي النهاية قررت لو أن الجنة ستكون هكذا، فبالتأكيد جهنم أفضل".
"لا يمكن أن أضحك مع أصدقائي"
هبة الله المهدي (29 عاماً) صحفية، من الجيزة، تروي رحلتها مع النقاب لـرصيف22 التي بدأت من مرحلة مبكرة للغاية، تقول: "في البداية، ارتديت الحجاب وانا أبلغ من العمر 10 سنوات، كان هذا من دون أي إجبار من العائلة أو الأسرة، ولكن كان محاولة للشعور بالمزيد من حب أهلي لي، خاصة وأنهم كانوا يستخدمون أسلوب الترغيب، مثلاً: "لو عملتي كذا هنحبك أكتر"، وهكذا، وارتديته وأنا 15 سنة، وخلعته بعد سنة واحدة فقط".
وترجع المهدي خلعها للنقاب إلى إحساسها بنفسها، وتصور الناس المسبق عن الأشخاص المتدينين، تقول: "كنت أشعر أنني لست على طبيعتي، وكنت طوال الوقت أفكر وقتما ألتحق بالجامعة كيف سأتعامل مع كل من حولي ومع الحياة به، وخلعته بسبب التدين أيضاً، لأنني طوال الوقت كنت موضوعة في خانة أنني "سفيرة للإسلام"، وأنني لا يمكن أن أضحك في الشارع أو أستمع للأغاني أو حتى أمزح مع أصدقائي، لذلك خلعت النقاب حتى لا أسئ له، حسب تفكيري وقتها".
وكانت المهدي تشعر عندما كانت منقبة أنها موضع إعجاب من حولها، لدرجة أنها كانت تستقبل الكثير من طلبات الزواج لمجرد أنها منقبة، رغم أنها لم تتعدّ مرحلة الثانوية العامة، تقول المهدي عن تلك الفترة: "كنت أجد في عيونهم وتعاملاتهم احتراماً لي أكثر من اللازم قد يصل لمرحلة التبجيل، لدرجة أن الكثيرين كانوا يقولون لي أنني أصبحت ملاكاً، رغم أنّ شخصيتي لازالت كما هي، كل ما أختلف هو أنني ارتديت النقاب فقط، وكان هذا لأنني كنت محاطة فقط بعائلتي المحبة للحجاب والنقاب ومدرسيي إخوانيي الهوى".
"أصبحت ملاكا في نظر أهلي ومنطقتي ومدرّسي بعد النقاب".
من ناحية أخرى، عندما خلعت النقاب تلقت ردود أفعال أخرى، تقول المهدي: "أما رد فعلهم على خلعه فكان مختلفاً تماماً، بداية من أنه لم يسألني أحد لماذا ارتديته من الأساس، ولكن الكل سألني لماذا خلعته، بل أن أحد مدرسيي قام بإيقاف أحد الحصص، وظهرت على وجهه علامات الاكتئاب والحسرة والحزن، عندما وجدني قادمة إليه بدون النقاب".
جعلت تجربة المهدي مع النقاب أكثر فهماً لتلك التجمعات الدينية، الاجتماعية والعائلية، تقول: "الحقيقة، أن ما حدث معي يشبه كثيراً تلك القصص الملتزمة وما يقال عنه: الرومانسية الملتزمة أو الإسلامية، فهي تمثل الواقع بشكل ما، والتي من خلالها يتم ترسيخ واستعمال السلطة الذكورية على النساء ومظهرهن وأجسادهن، والإعجاب القوي أو الانبهار بالمحجبات والمنقبات ليس نابعاً عن التزام ديني حقيقي أو تدين ورغبة في القرب من الله، لكنه نابع عن رغبة عارمة في فرض السيطرة على الشريكة أو على النساء في محيطه بشكل عام، وهو ما يوفر القدرة على التعالي على الرجال الآخرين بأنه أكثر قدرة على تغطية نسائه، وأكبر دليل على هذا أن الزي الاسلامي أو الأزياء المحافظة التي ارتديتها، بما فيها الملحفة، لم تكن حماية لي من التحرش".
وتوضح هبة، ما يسمى الملحفة، لبسها مستند على حديث نبوي ضعيف يقول: "كل بروز في النار"، بمعنى أن كل بروز واضح من الجسم، حتى لو كان المنحنى من الرأس للكتف فقط ظاهر أو متحدد، فهو في النار، ولابد أن يكون اللبس فضفاضاً، قطعة واحدة واسعة جداً، تمحي أي ملامح أو بروز من الرأس للأرجل.
"النقاب نابع عن رغبة عارمة في فرض السيطرة على الشريكة أو على النساء في محيط الرجل بشكل عام، وهو ما يوفر القدرة على التعالي على الرجال الآخرين بأنه أكثر قدرة على تغطية نسائه، وأكبر دليل على هذا أن الزي الإسلامي المحافظ لم تكن حماية لي من التحرش"
وما أثار استغراب هبة أن نظرات الرجال لها بعد ارتداء الملحفة باتت أكثر تدقيقاً، تقول: "في الحقيقة إني وأنا مرتدية الملحفة كانت نظرات الرجال أكثر تفحصاً، وكنت ألاحظ شغفاً كبيراً بالنظر لو نسمة هواء أطارت الملحفة وألصقتها بجسمي، بل وإن سبب خلعي لها كان تعرضي لواقعة تحرش جماعي، والاعتداء علي بالضرب أمام أحد مدارس الثانوي للولاد، ولما اتصلت استنجد بأهلي أنني تعرضت لحادثة تحرش، وكنت منهارة، لاموني أنا أيضاً، وهو ما جعلني أتسائل: "يعني حتى بعد كل اللي عملاه دا يحملوني انا مسئولية تعرضي للتحرش"، لمجرد أنني سرت بجوار مدرسة أولاد أو نظرت إليهم؟ فأدركت أني مهما اتبعت قواعدهم في الحياة واللبس فهذا لن يحميني، وإن ما سيحميني هو نفسي وفقط، وليس ملابس معينة ولا عدد أمتار قماش أكثر".
"النقاب إهانة للنساء"
"لا يحق لأحد أن يفرض عليّ التعامل معه دون أن أعرف من هو ولا أرى ملامح وجهه "، هكذا تنهي المهدي، حديثها لرصيف22، مؤيدة لقرار منع النقاب عن بعض المؤسسات الحكومية، قائلة: "مع منعه طبعاً، وليس من المؤسسات الحكومية فقط، وإنما في التعاملات اليومية الفردية كذلك، فمثلاً منذ شهرين حدث وأن جارتي كانت ستتعرض للخطف من قبل منقبة ادعت أنها طبيبتها ورفضت الكشف عن وجهها، وبشكل عام، لا يحق لأحد أن يفرض علي أن أتعامل معه وأنا لا أرى وجهه أو أعرف هويته بشكل مؤكد وكامل".
"المرأة ليست شيئاً معيباً ليتم تغطيتها بالكامل".
أما سلوى (30 سنة) من بني سويف، لا تعمل، تروي حكايتها مع النقاب لرصيف22: "لبست النقاب بعد ما أجبرني عليه زوجي السابق، وكان الخيار أمامي بين لبسه أو منعي من الخروج من المنزل نهائياً، فاضطررت للبسه، ولبسته سنتين وفور أن بدأت المشاكل التي أدت للطلاق، خلعته، لكن استمريت بالحجاب، حياتي تأثرت بشكل إيجابي بعد ما خلعته، يكفيني القول أني أحس بالراحة والحرية، فالآن أرتدي حسبما أحب ولست مجبرة على شيء ولا أشعر أني منافقة أو مدعية، خاصة وأن الجميع ينظر للمنقبات بأنهن نمط واحد، فيجب أن تكون متدينة بشكل معين وتتصرف بشكل معين وحتى درجة صوتها مرتبطة دوماً بالنقاب".
وعن رأيها حول النقاب بعد خلعه، تقول: "لا يمكنني النظر للنقاب سوى أنه إهانة للنساء، فليس هناك أي سبب أو مبرر سوي أو إنساني لتغطية الوجه، المرأة ليس شيئاً معيباً أو عورة أو شيئاً مؤذياً للعين ليتم تغطيتها بالكامل".
وفي النهاية، تتساءل سلوى بعد خلعها للنقاب: "لماذا دوماً التدين مرتبط بإخفاء النساء من الأساس، وإن كان العيب أو الفتنة في النساء دوماً، فلماذا كنت أنا وغيري من المنقبات دائمات التعرض للتحرش، كنت طوال الوقت وأنا في الشارع يُرمى على مسامعي عبارات تحرش صريحة مثل: تحت العباية حكاسة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...