شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"الوفاق بيننا شبه مستحيل"... عن متاعب السكن المشترك في الإمارات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 8 فبراير 202202:47 م

"راح أموت زلمة"... قالها يوسف لي بعد عراك مستنزف مع زملائه في السكن المشترك. اقشعرّ بدني حينها من هول الحدث، وبقيت لأيام قلقةً عليه، متسائلةً: هل يقتلونه بالفعل بعد أن هددوه؟ أم هو مجرد كلام خرج في لحظة غضب بين من كانوا أصدقاء يعزّون بعضهم؟

كنت أخاف من أن يتمادوا بحقه، وهو الوحيد في غربته داخل مصر، وطالب للدراسات العليا، ولا ظهر له هناك. بقيت قلقةً أياماً عدة إلى أن خرج من بينهم سالماً إلى سكن مشترك جديد.

وعلى النقيض، كانت لي صديقة تدرس الطب البشري في مدينة القاهرة، وصنعت من زميلات السكن المشترك الذي كانت تقطن فيه، رفيقات عمر طويل، فهي حتى بعد عودتها إلى الوطن، ما زالت تذكرهن بكل خير، وتشارك صورها برفقتهن على مواقع التواصل.

وحين تغربت، اتسعت دائرتي بالمغتربين من شتى البلاد العربية، فتساءلت بيني وبين نفسي: هل يكون السكن المشترك كأس علقم مرير لكل مغترب؟ أم هو جنة يستطيع أن يتقن صنعها من أحسن الاختيار والانتقاء أو حالفه الحظ؟ أنا نفسي ذقت من كلا الجانبين لفترات مختلفة، وبمقادير مختلفة، مع كل انتقال إلى سكن جديد، ولكن ماذا عن الآخرين؟

للحصول على إجابات، استطلعت بفضول حكايات مغتربين، وتساءلت عن كيفية العيش بين ثقافات متغايرة، وكيف يحدث التصادم الثقافي بين من يعيشون تحت سقف واحد بشكل اضطراري؟ وكيف يتم التعامل مع أزمات العيش؟ وهل يمكن الوصول إلى وفاق واتفاق أم أن "الشير" خيار اضطراري هو نقمة الغربة؟

هل يكون السكن المشترك كأس علقم مرير لكل مغترب؟ أم هو جنة يستطيع أن يتقن صنعها من أحسن الاختيار والانتقاء أو حالفه الحظ؟

"كن مسالماً، تسلم"

كوكب سامح، تونسية، حاصلة على ماجستير في الاقتصاد، علّمت في المملكة العربية السعودية كمحاضرة جامعية، قبل أن تقرر التوجه إلى الإمارات العربية المتحدة للعمل في التسويق العقاري.

تقول: "جرّبت السكن في أكثر من دولة عربية، منها تونس والسعودية والإمارات، وكانت تجربتي دوماً هادئةً، لأنني أتلافى الاحتكاك أو تكوين علاقات مع من أشاركهن السكن".

بالنسبة إلى كوكب، السكن في الإمارات لا مثيل له. "تنقّلت بين أكثر من مكان، سواء داخل دبي نفسها أو في إمارات أخرى كالشارقة وعجمان. الأمور في الإمارات مختلفة عن الدول العربية التي زرتها أو عملت فيها، من ناحية كون البلاد مرفأً لغالبية الجنسيات حول العالم، لهذا تجد الاكتظاظ في السكن أمراً طبيعياً، فقد يتجاوز عدد الفتيات في السكن الواحد أكثر من 17 فتاةً".

تقطن الفتاة الثلاثينية الآن في الطابق الثاني من السرير، في غرفة ضيقة المساحة، ومشتركة مع ست فتيات أخريات. تدفع 200 دولار شهري لقاء مساحة السرير الذي تمضي أغلب يومها فيه. توضح أكثر في حديثها إلى رصيف22: "أنا حالياً عاطلة، فقد تركت عملي بعد بدئه بقليل، لأنه لم يناسبني، ولم أعثر على آخر، والآن أنا على وشك الإفلاس لأن مدّخراتي تكاد تنتهي، ولا أستطيع العودة إلى تونس لأني أضعت جواز سفري".

مع هذه الظروف الصعبة، توضح كوكب نظريتها الخاصة عن السكن المشترك: "القاعدة ببساطة كن مسالماً تسلم، كن هادئاً مع من حولك، يكونون كذلك معك. أنا لشدة هدوئي أكاد أكون لا مرئيةً للجميع".

سكارى ومزعجون

أما مرام علي، وهي فتاة سودانية لها من العمر 28 عاماً، تخصصت في الأدب الإنكليزي في المملكة العربية السعودية، ووجدت نفسها تعمل في الإمارات العربية المتحدة منذ خمس سنوات، وتنقلت بين أكثر من إمارة.

أصعب ما في السكن المشترك من وجهة نظر مرام، أن تكون مضطراً إلى مشاركة أناس يختلفون عنك بشكل كبير، في الخلفية الاجتماعية والثقافية، وحتى المحرمات والمحللات. وتوضح لرصيف22: "لا وجود للخصوصية أبداً، كما أن الممنوع لدي مسموح لدى الآخرين، وبعض الفتيات يتحدثن بطريقة أراها غير مهذبة، ويفتعلن المشكلات عن قصد".

تعقب على ذلك: "في إحدى المرات، اضطررت إلى التواجد مع فتيات يسكرن ويكسرن الصحون عند الثالثة فجراً، حتى تدخلت الشرطة في نهاية الأمر. حينها كنت مضطرة إلى السكن قريباً من مكان العمل، وأدفع ما يُقدَّر بثلاثمئة دولار لأستأجر مساحة سرير في سكن تتواجد فيه سبعة عشر فتاةً، وأعيش في غرفة فيها سبع فتيات، لكل واحدة طبعها الخاص الذي يكون مزعجاً لغيرها، وانعكس كل هذا علي سلباً، فقد عشت وما زلت في ضغوط نفسية هائلة تنعكس أيضاً على جودة أدائي في عملي في اليوم التالي".

الأمر متعب نفسياً في ما يخص الاعتياد والاحتياج الشخصي للفرد، فأنت لست في بيتك لتتحكم بإنارة الغرفة أو ما شابه، لكني كنت أحتمل كل المضايقات لأجل عائلتي التي تعيش ظروفاً صعبةً

ونوّهت بأنها في بداية عملها عاشت على وفاقٍ تام بين مجموعة من الفتيات، لكنها في ما بعد تيقنت من أنها كانت تجربةً نادرةً ومرحلةً عابرة، فالوفاق في السكن المشترك "شبه مستحيل" وفق رأيها، خاصةً مع اختلاف الأعمار، إذ قد تتواجد نسوة ستينيات مع فتيات في أوائل العشرينات، والخلفيات الثقافية والاجتماعية، والمستوى العلمي.

لغة أخرى، واختلاف

أما أنا، فانتقلت إلى إمارة أم القيوين، من أجل مشروع مدته شهران فقط، ووجدت نفسي أعيش مع ثلاث فتياتٍ هنديات، اثنتان من الديانة الهندوسية وواحدة مسلمة. كنت شغوفةً بالتعرف على ثقافة مغايرة، لكن المعايشة لم تكن سهلةً، فهي ليست كما يحدث في الأفلام.

كنت أذهب من الشقة عند الساعة الثامنة صباحاً وأعود في السادسة مساءً، لأجد حواراتٍ كثيرةً حول أمور روتينية أراها عاديةً لكنها بالنسبة لهم جوهرية، وفي بعض اللحظات كانت لغة "المالايا" هي السائدة، وتتفوق في حضورها على اللغة الإنكليزية، فكثيراً ما شعرت بالغربة.

كذلك فإن درجة التكييف المفضلة لديهن شديدة البرودة، وكنت لا أحتمل البرد وأمرض بسببه. كما أن ثقافتهن الخاصة بالطعام غزير التوابل، جعلت الشقة تختزن الروائح طوال النهار، ما جعلني أتضايق، فبدلاً من أنت أعود لأرتاح، كنت لا أهنأ في الشقة.

في النهاية انتقلت إلى سكن آخر، عندما تصاعدت حدة الخلافات والاختلافات، حتى بين الفتيات أنفسهن، وكادت الشرطة أن تأتي لولا تدخل الجيران.

القاعدة ببساطة كن مسالماً تسلم، كن هادئاً مع من حولك، يكونون كذلك معك.

"أحتمل لأجل عائلتي"

جمال حسان (32 عاماً)، فلسطيني ترك أهله في مخيمات اللجوء اللبناني، وبدأ يبحث عن عمل في الإمارات العربية المتحدة، قبل أكثر من عشر سنوات، تنقّل خلالها بين المساكن المشتركة.

يقول لرصيف22: "الأمر متعب نفسياً في ما يخص الاعتياد والاحتياج الشخصي للفرد، فأنت لست في بيتك لتتحكم بإنارة الغرفة أو ما شابه، لكني كنت أحتمل كل المضايقات لأجل عائلتي التي تعيش ظروفاً صعبةً، وكنتُ أنتظر في كل مرة أتعرض فيها للمضايقات، الحصول على فرصة بوظيفة أخرى، لكي أستطيع الانتقال".

ويوضح: "منذ بدايتي وحتى اليوم أعمل في مجال المصانع، ومن يعمل في مصنع، يسكن في سكن العاملين، وكل مصنع انتقلت للعمل فيه، كان العاملون فيه من مختلف الجنسيات العربية والإفريقية، ولأن موقع المصانع محكوم بالمناطق الصناعية، فالعيش كان ضمن المنطقة نفسها، والبُعد عنها من أجل السكن غير وارد بسبب المسافة".

على العكس من جمال، يبدو محمد حسن، وهو مصري ثلاثيني مقيم في الإمارات، هادئاً وهو يقول: "لا أختلط مع أحد، لذلك لا تحصل معي مواقف أو مشكلات، لكني أشهد على الكثير من الخناقات والصوت العالي وعدم احترام الخصوصية".

أما أكثر ما يزعجه في السكن المشترك فهو النظافة، يليها استخدام أدوات الآخرين بلا استئذان. والحديث عن النظافة ومستواها في هذه الحالات قد لا ينتهي، لأن الغالبية لا تمتلك وقتاً داخل الشقة، وتتخذها مرتعاً لها، فتتراكم الصحون والملابس وتضج الزوايا بالروائح الكريهة.

الحريات معدومة في "الشير"

أما مارينا عزت، وهي فتاة مصرية عشرينية مقيمة في الإمارات، فتقول: "هذا الموضوع مؤذٍ إلى أبعد حد، خاصةً لفتاة مثلي، فقد كنت الفتاة الوحيدة في بيت أهلي، وكانت الغرفة لي، والبيت كله ملكي، ولي حرية أن أفعل ما أشاء، أما في السكن المشترك، فالتقييد كبير، وموعد الدوامات مختلف، هناك من يبدأ دوامهن ليلاً، وأخريات صباحاً، وثمة من دوامهنّ في منتصف اليوم، فيحدث إرباك في موعد الاستيقاظ لدى كل من في الغرفة".

تضيف: "أنا شخصية منطوية، وأعاني من تدخلات كثيرة في شأني، على شكل أسئلة من قبيل: "بتشتغلي إيه؟ مصاحبة مين؟ مرتبطة بمين؟ ظروفك إيه؟ أهلك شكلهم إيه؟ لابسة كده ليه؟ طالعة فين؟ جاية منين؟ وهكذا، لا أحد يتركك وشأنك، خاصةً ممن ينتمون إلى جنسيات عربية، فهم غالباً يحبون التدخل في شؤون الغير".

أصعب ما في السكن المشترك أن تكون مضطراً إلى مشاركة أناس يختلفون عنك بشكل كبير، في الخلفية الاجتماعية والثقافية، وحتى المحرمات والمحللات. لا وجود للخصوصية أبداً، كما أن الممنوع لدي مسموح لدى الآخرين

تكاليف معيشية باهظة

تبدأ الرواتب في الإمارات بشكل عام من 450 دولاراً، لمن لا يملكون خبرة عمل سابقة في البلاد، بينما من يملكون خبرة عمل سنة، من دون النظر إلى أي خبرات سابقة خارج الإمارات، تبدأ رواتبهم من 800 دولار، والمحامون والمعلمون يتقاضون قرابة 1200 دولار، في حين أن العاملين في التخصصات الطبية والإدارية، ومن يمتلكون مهارات متعددةً مثل اللغات، قد تتجاوز رواتبهم الشهرية ألفي دولار.

قد تبدو الرواتب كبيرةً، لكنها مع مصاريف المعيشة الباهظة تكاد لا تكفي أصحاب المهن العادية، بذلك يغدو السكن المنفرد خياراً لا يستطيع الجميع تحمّل تكاليفه، فالإيجار السنوي لشقة صغيرة جداً (ستوديو)، يتجاوز عشرة آلاف دولار، ومشوار واحد في سيارة أجرة قد يكلف 60 دولاراً، ناهيك عن الأسعار الخيالية لبعض أنواع الأطعمة.

وفي آخر إحصاء رسمي من البوابة الرسمية لحكومة الإمارات العربية المتحدة، بلغ عدد القوى العاملة سبعة ملايين عامل، وتبلغ نسبة العمالة الوافدة 88 في المئة، ويُصنَّف قطاع البيع بالجملة والتجزئة الأعلى أجراً، يليه قطاع الإنشاءات والبناء.

ونهايةً، بما أن السكن المشترك قائم على وجود أناس غرباء قد لا يعرف بعضهم عن بعض شيئاً، ومهما بدت بعض الوجوه لطيفةً أو القلوب طيبةً، فالغريب في الغربة غريب مهما بدا قريباً، وفي العيش المشترك قد تنجّيك قاعدة "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم" من المشكلات وتحديات العيش.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard