شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
حب بلا وصي ولبس بلا رقيب...

حب بلا وصي ولبس بلا رقيب... "قناع" امرأة مغربية في دول الخليج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 17 يوليو 202103:08 م

ترتدي فستانها الطويل المزركش بألوان زهرية، وشعرها غارق في السواد، منهدل على كتفيها العريضتين، تحتسي قهوتها على مهل، وتنقر بشفتيها الممتلئتين الملطختين بالأحمر الغامق قطعة شوكولاته، وبداخلها تعصف مشاعر الغربة، والخوف من الاحتياج، وإثبات التحقق وقوة الشخصية.

"في هذه البلاد الصاخبة، نصرخ من التعب في بيوتنا البعيدة عن بلادنا، نتعب، وننكسر في الحياة التي اخترناها، ثم نخرج إلى العالم لنثبت أننا قويات لا يحكم على حياتنا أو يتحكم فيها أحد، ونبقى دائماً على أمل أن يأتي يوم لا نضطر فيه أن نعيش تحت رحمة أحد"، تقول حوريا الرحماني (32 عاماً)، مغربية مقيمة في دبي.

لا وصي ولا رقيب

عندما بدأت كتابة هذا التقرير، كان لدي شغف لمعرفة مغامرة أولئك الفتيات في السفر، والسماع أكثر عن مناطق يختبرنها في الحب والصداقة والعمل بمساحات أوسع قد لا تكون متاحة للمرأة بشكل كافٍ، وصدمتني تلك النبرة الحزينة، والجافة التي اصطبغت بها أصوات المغربيات اللاتي حدثتهن، قفزت من ذاكرتي العاطفية كثيراً عبارة "مدن الملح"، التي أطلقها الروائي عبد الرحمن منيف على مناطق بدوية في الجزيرة العربية، حوّلها، وغيّر تركيبتها النفسية والاجتماعية والعمرانية ظهور البترول.

تعيش حوريا في الإمارات منذ ثلاث سنوات، ومنذ البداية ارتبطت فكرة السفر بالبعد القسري عن البلد والأهل، وقلة الاختيارات في الوطن، "إما أن أتحمل الوضع المزري الذي كنت أعيشه، أو أسافر"، تقول.

"تعيش بحرية في بلد جديد، وبيت جديد، مختلف عن ذلك الأول في بيتها وبلدها، تخرج، تسهر، تشبع، تجوع، ترتبط بعلاقات صداقة، وجنس بلا وصي، تلبس بلا رقيب، تضع الماكياج الذي تحب"

ينمط الناس في المغرب الفتيات اللواتي يقمن في دولة خليجية بأنهن من ذوات الرواتب العالية، والمهن المرموقة، والحياة المريحة، بينما ترى حوريا أنها وصديقاتها يخضن صراعاً وجودياً ليبدون "حقيقيات في عالم مليء بالأقنعة".

حياة المرأة المغربية في الخليج مصطبغة بتناقض كبير، بحسب حوريا، فهي من جانب "تعيش بحرية في بلد جديد، وبيت جديد، مختلف عن ذلك الأول في بيتها وبلدها، تخرج، تسهر، تشبع، تجوع، ترتبط بعلاقات صداقة، وجنس بلا وصي، تلبس بلا رقيب، تضع الماكياج الذي تحب".

ومن ناحية أخرى "عليها أن تكون امرأة قوية، قادرة على مواجهة مشاكل عديدة، لا بد أن تجد الحلول بلا مشاركة من أحد، وعليها أن تكون بخير دائماً، فلا مجال للشكوى أو التظاهر بالضعف، فالضعف ليس من حقها"، تقول حوريا.

هذا ما تسميه حوريا "القناع" التي على كل المغربيات اللواتي يرغبن في السفر إلى الخليج أن يرتدينه، هو "قناع كاذب، نتمسك به بسبب الخوف، الخوف من أن يرفضنا محيطنا في الخليج، وعندما نعود لأسرنا نرتدي الوجه الآخر من القناع المتناغم مع ما تربينا عليه من عادات وأخلاق".

كانت دبي آخر محطة تحط فيها حوريا رحالها، بعد العاصمة البحرينية المنامة التي قضت فيها سنتين، واشتغلت فيها مساعدة كوافيرة في صالون الحلاقة، ثم انتقلت للعيش في الكويت سنة ونصف، حيث عملت موظفة في عدة فنادق.

خاضت حوريا في أثناء هذه التنقلات غمار تجارب تراها "الأهم" في حياتها، ولكنها أبعد ما تكون عن هذا القناع، الذي يراه سكان "مدن الملح"، أو أهلها وجيرانها في وطنها، إنها المعاناة في حدودها القصوى، كما لم تختبرها من قبل.

تقول حوريا: "حقيقة هذه التجارب والتنقلات بين العواصم الخليجية كانت ولا تزال خير معلّمة عمن أكون، أشعر من خلالها أنني امرأة مستقلة بذاتها، بالرغم من الصعوبات والمشاكل، التي تواجهني في مكان بعيد عن بلدي".

وتضيف:'"هل تعلمون أنه في الكثير من الليالي أتضوع جوعاً، وكم من مرة كنت سأشرد من منزلي في حال عدم تأميني بدل أيجار البيت، هم فقط ينظرون إلى الفتاة في هذه المجتمعات على اعتبار أنها تعيش حياة سعيدة، آمنة، مطمئنة، ولكنها عكس ما يظنون ويقولون".

تتشارك حوريا وصديقاتها من مختلف العواصم الخليجية مجموعة تواصل عبر الواتساب، يتحدثن من خلالها عن أمور عديدة، منها شخصيّة وأخرى عامّة، يتشاركن أخبارهن اليومية. تعج المجموعة بالصديقات في ساعات متأخرة من كل ليلة، فتتشارك الصديقات بعض الطرائف والأخبار، السعيدة والحزينة، وأموراً حياتية أخرى.

"إحساسي بالزمن تغيّر"

قد تبدو منذ الوهلة الأولى بطريقة شد غطاء رأسها على أنها مواطنة بحرينية، ولكن ما إن تبدأ بالحديث حتى يتلاشى هذا الانطباع الأولي، لأن لسانها لا يمكن تفريقه عن ألسنة المغربيات الأخريات، ولهجتها المغربية، خصوصاً البيضاوية لا تمسها أي لكنة خليجية.

كوثر أنجار (29 عاماً)، تعمل موظفة في أحد الفنادق، في العاصمة البحرينية المنامة، وواحدة من عضوات مجموعة الواتساب التي تنشط فيها حوريا، تسمي البحرين "بلدها البديل".

تقول كوثر إنها تأقلمت بسرعة كبيرة، وساعدها على ذلك وجود الكثير من الصديقات أكثرهن قدمن من بلدان عربية مختلفة، ليس من المغرب فقط، اخترن العواصم الخليجية من أجل العمل، والاستقرار، والاستمتاع بالحياة التي افتقدنها في أوطانهن، يتشاركن السعادة والتعب، لتحول تجاربهن المشتركة "الغربة إلى وطن"، بحسب تعبيرها.

عما أضافته "مدن الملح" لحياة كوثر، وطريقة تفكيرها، تثمن كوثر تغير إحساسها بالزمن وقيمته، وكيف قوَّى إحساسها هذا شخصيتها، تقول لرصيف22: "الحياة في الغربة هنا تعلمك كيف تكونين قوية، وأكثر عزيمة، وصبراً في مواجهة المصاعب، كونها تقوي علاقتك بالزمن، فالوقت هنا ثمين جداً ويمرّ سريعاً، لا نملك وقتاً فائضاً، والالتفات إلى الوراء هو خسارة حقيقية، وأكبر خطأ يمكن أن يرتكبه المغترب في دول الخليج".

وفيما يتعلق بوطنها، تقول كوثر: "لا أنكر أن لديّ بعض الحنين إلى الأهل، وذكريات المراهقة والطفولة، لكن المسؤوليات تنسينا كل شيء، في بلدي ينتظرني إخوتي الأربعة اليتامى، أرسل لهم كل شهر مصروفهم، وكسوتهم، تنتظرني أمي، ثم تأتي حياتي الشخصية في المرتبة الثالثة، أصارع الوقت من كل الجهات، لا مجال أن تجلسي دون عمل أو وظيفة".

هوس بالمال والوظائف

تتفق دينا مع كوثر، وهي امرأة ثلاثينية مقيمة في دبي، موظفة في سوبرماركت، على أهمية تحمل المسؤوليات العائلية، وإعانة أفراد العائلة في "صراعاتهم المريرة"، إضافة إلى واقعها المادي الصعب، تقول: "لا تتوقعين من الفتاة المغربية أن يكون لديها منزل ومهنة مستقرة وقدرة على إعالة عائلة بأكملها".

أول إحساس شعرت به دينا فور نزولها من الطائرة، وهو الذي لازمها إلى الساعة، هو هوس الناس بالمال والوظيفة، تقول: "في هذه العواصم يكبر فينا الهوس بالوظيفة، شيئاً فشيئاً منذ نزولنا من الطائرة، لا نتحدّث إلا عن العمل، ولا نفكر إلا فيه، حتى علاقتنا الاجتماعية ونشاطاتنا نبنيها على أساس الوظيفة، لأن الوظيفة تصبح هدفنا الأسمى، وشغلنا الشاغل".

"نرتدي قناعاً كاذباً في الخليج، نتمسك به بسبب الخوف، الخوف من أن يرفضنا محيطنا، وعندما نعود لأسرنا نرتدي الوجه الآخر من القناع المتناغم مع ما تربينا عليه من عادات وأخلاق"

تتذكر دينا كلمة قريبتها التي استقبلتها في المطار، فور وصولها إلى دبي: "الحياة هنا صعبة، هذه الليلة سترتاحين، وغداً عليك أن تبدئي رحلة البحث عن عمل، كل شيء هنا مرتبط بالعمل".

وتضيف: "لم أستوعب قصدها جيداً إلا بعد مضي أشهر، في الوقت الذي كنت أشتغل فيه، كنت أشعر أنني معززة، أشارك في مصروف البيت، وأتسوق من السوبر ماركت أغراض المطبخ، كنت أشاركهن الغداء أو العشاء دون الإحساس بالنقص، لكن في الأسابيع التي أتوقف فيها عن العمل لأبحث عن آخر، يقل المصروف، تبدأ الفتيات حينها بالمحاسبة لأني دون عمل، ويصل الأمر بهن إلى إحصاء عدد التفاحات في السلة فوق طاولة المطبخ أو عدد البيضات، حينذاك كان يصعب علي مشاركتهن طاولة الأكل، أكتفي فقط ببقايا طعامهن الذي آخذه خلسة في ساعات متأخرة من الليل".

يذكر أن تحويلات المغربيين المقيمين بدول الخليج تعتبر مصدراً رئيسياً للعملة الأجنبية، إلى جانب آخرين مهاجرين في أوروبا وأمريكا، يشكلون جميعهم حوالي خمسة ملايين عبر العالم، ويصل عدد المغاربة الذين يعيشون ويعملون في دول الخليج إلى نحو 300 ألف.

وتعتبر الجالية المغربية في المملكة العربية السعودية على رأس قائمة المحولين بنسبة 6.9 في المائة، وتأتي الإمارات في المرتبة الثانية بـ 6.2 في المائة، وقطر في المرتبة الثالثة بـ 1.8 في المائة، و1.6 في المائة من الكويت.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image