شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هذه حكايتي مع بيوتي الكثيرة... لكن ماذا يعني البيت؟

هذه حكايتي مع بيوتي الكثيرة... لكن ماذا يعني البيت؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 10 أغسطس 202111:28 ص
ماذا يمكن أن يعني البيت؟ هل هو حوائط، وجدران، وأثاث، فحسب؟ هل هو الذكريات التي تعصف بنا، سعيدة وشقية تارةً، وحزينة تارةً أخرى؟ أم لعله شيء آخر؟ الغريب أني، خلال أعوامي الـ34 التي عشتها، والتي ربما تغير فيها مفهوم البيت عندي، ومعناه، ثمة معانٍ ضمن تعريفه لا تتغير. تعيدني رواية "قدر الغرف المقبضة"، لمؤلفها عبد الحكيم قاسم، الذي يروي فيها تنقلاته عبر بيوت عدة سكنها، بدءاً من قريته في شمال مصر، وانتهاء ببرلين، مروراً بطنطا، والإسكندرية، والقاهرة، تعيدني إلى ذكريات تنقلي بين بيوت عدة سكنتها أنا أيضاً، وأثرت في شخصيتي، كما بطل روايته، "أحاول أن أصطاد ذكرى غائرة في طفولتي". وكما قال قاسم الذي استهل الرواية واصفاً بيته بـ "هذه دار ريحها ثقيل"، فأنا أيضاً أعرف البيوت من رائحتها.

كبرت، وأنا أحسب أن لي بيتاً ولدت فيه، سيكون لي حتى نهاية عمري، أو حتى أنتقل إلى بيت الزوجية، كما قيل لي في صغري. لكني، وحتى هذه اللحظة، لدي أربعة منازل عائلية أسمي كلاً منها "البيت القديم"، إذ اعتادت عائلتي ترك البيوت، والبحث عن أخرى، لأسباب عديدة. قبل ولادتي بأشهر، انتقلت العائلة إلى بيت جديد وُلدت، وعشت فيه، قرابة 14 عاماً حتى توفي أبي. كان من المستحيل أن نكمل أعوامنا التي تلت وفاته فيه، وذلك لتعمد مالكه مضايقتنا حتى قبل وفاة والدي. قلقنا جميعاً، كنا من دون رجل، صغاراً، لن نقوى على رده، وهو محامٍ ممن يوصفون بـ"صايع لا يعرف الله".

لأعوام طويلة، كنت حينما أحلم أحلاماً تحمل معاني كالطمأنينة، وافتقاد الأمان، يكون بطلها هذا البيت، كأن أبحث عن جاكيت مفقود يغطيني، أو كلب يجري خلفي طوال الحلم، وأختبئ داخله. بعد خروجنا من هذا البيت، لم نستقر في أي بيت آخر أكثر من خمسة أعوام.

حتى عندما قررت مغادرة بيت العائلة إلى القاهرة، ورثت عدم الاستقرار ذاته. كنت أحسب أن مفهوم البيت في القاهرة سيتغير عن مفهومه في بلدتي الصغيرة. قضيت أعوام الجامعة في السكن الجامعي. وهناك تعرفت إلى فتيات كثيرات، ربما بالعشرات، من شمال مصر، وغربها، وشرقها، وجنوبها، من الأعمار، والأطياف، والمستويات الاجتماعية، والثقافية، كلها. كان السكن الجامعي وقتها يعني لي فرصة للتعرف إلى الآخرين، وتكوين الصداقات، ويعني أن يكون لي في أي مدينة أزورها داخل مصر أشخاص يعرفونني، وأعرفهم، ويتولون اصطحابي في نزهات. غير أن الحياة العملية عقب التخرج صفعتني بقوة على وجهي، وأدركت ما يمكن أن تمثله أزمة السكن في القاهرة، والمختلفة جداً عن السكن في مدينتي.

كان هناك رابط غامض يربطني، أو يبعدني في بعض الأوقات، عن منزل من هذه المنازل. شيء يجعلني أرتبط به عاطفياً، وأحمي حوائطه، بدلاً من أن تحميني، وأزينها، وأستر بعضاً من أجزائها بالديكور، بدلاً من أن تسترني هي

كنت أشاهد فيلم "الشقة من حق الزوجة"، لمعالي زايد ومحمود عبد العزيز. كانا مقبلين على الزواج، ويعانيان من أزمة في البحث عن بيت. سخرت وقتها وقلت لأمي: "تخيلي أن القاهرة فيها أزمة سكن منذ الثمانينيات من القرن الماضي، والناس تبحث عن شقق من وقتها؟". ضحكت أمي، رحمها الله، وقالت "لأنك اخترتِ أصعب مدينة في مصر لتعيشي فيها، تحملي نتيجة اختيارك"، عندها عرفت أن البيت قد يكون قراراً، واختياراً، أحياناً.

في أحد الأعوام، وتحديداً خلال ستة أشهر، تنقلت بين خمسة منازل. العامل المشترك بينها أني كنت مضطرة إلى الانتقال بسرعة إلى المنزل الآخر، إما لخلاف شب فجأة مع صاحب أو صاحبة البيت، أو لحادث نصب تعرضت له، أو لتحرشات منهم، أو من أبنائهم، أو بسبب صاحب البيت الذي أراد الكشف عن عداد الكهرباء حين كنا نياماً، فقرر القفز من نافذة الحمام، بعدما يأس من أن نصحو باكراً جداً لنتجاوب مع طلبه.

كان هناك رابط غامض يربطني، أو يبعدني في بعض الأوقات، عن منزل من هذه المنازل. شيء يجعلني أرتبط به عاطفياً، وأحمي حوائطه، بدلاً من أن تحميني، وأزينها، وأستر بعضاً من أجزائها بالديكور، بدلاً من أن تسترني هي. أدركت أني حين أغرق في حب بيت، أعامله كما أعامل الرجل الذي أحب، أحيطه بالرعاية، والحنان، ويكون جزءاً مني، وقد يشبهني في بعض التفاصيل. ربما أهمله حين لا تكون لدي طاقة للاعتناء به. إذا أرادت طبيبتي النفسية أن تعرف حالتي، تسألني عن عنايتي بالمنزل: هل أقوم بالمهام اليومية بسهولة؟

في أحد الأيام، كنت أنقل أغراضي من بيت إلى آخر، وكان الجو ماطراً. تبللت الكتب، والصناديق الورقية. كما تلطخت بالطين حقائبي وملابسي. أردت أن أبكي بشدة في أحضان أبي. أردت أن أعود إلى أول بيت عشت فيه، وأن أنزوي في أحد أركانه، وأحتضن ركبتيّ، وأبكي، وأقبّل حوائطه. شعرت عندها بالإهانة لاضطراري إلى التنقل. كنت غارقة في المياه، وملطخة ببقايا طين، كما شعرت بثقل كبير على ذراعيّ، إذ كنت أحمل الحقائب بمفردي، وكأن ذلك الثقل كان يقبض على روحي، لا على ذراعيّ.

أحد البيوت لم أمكث فيه سوى يوم واحد. عند الصباح، طلبت فسخ العقد بعد تحرش أبناء صاحب البيت بي، وقرعهم بابي في منتصف الليل، وهم سكارى. عَنَى لي البيت الكثير هذه المرة. الكثير. على رأس تلك المعاني، كان انعدام الإحساس بالأمان، لأنني بلا رجل.

بيت آخر مكثت فيه شهرين، وآخر يومين. في بعض الأوقات، لم أكن أخرج أغراضي من الحقائب طوال أشهر، وكنت أتجول بطقم، أو طقمين من الملابس، على الأكثر. أفتح حقائبي بحذر، وأتجول وأشيائي الثمينة في حقيبة يدي، إذ لم أكن أثق لا بالجدران، ولا بساكنيها، ولا حتى بزملاء السكن، ولم تعد كلمة "البيت" تعني الأمان، والاستقرار، بالنسبة إلي. هي ليست "الأربعة جدران" التي يتحدثون عنها، فحسب.

طلبت فسخ العقد، بعد تحرش أبناء صاحب البيت بي، وقرعهم بابي في منتصف الليل، وهم سكارى. عَنَى لي البيت الكثير هذه المرة. الكثير. على رأس تلك المعاني، كان انعدام الإحساس بالأمان، لأنني بلا رجل 

أتخيل نفسي أحياناً في صورة ثابتة، جالسة على طاولة واحدة، وتتغير من خلفي الحوائط، تارة خضراء مبقعة وقبيحة، وأنا طفلة، وتارة صفراء باهتة، وأنا مراهقة، وتارة أخرى وردية مزهرة، وأنا شابة. وعاماً بعد عام، تتغير الحوائط، ويكبر وجهي، ويتغير جسدي، لكني جالسة أتأمل ذلك التغيير من حولي، والتغيير في نفسي، ومشاعري تجاه الأشياء، متماهية مع التفاصيل كلها. أحيانا كنت أحسد هؤلاء القاهريين. على الأقل لديهم بيت يستقرون فيه، بلا خوف، ولا قلق من قرع الباب في منتصف الليل من بعض السكارى، فـ "الإنسان يحتاج في الحقيقة إلى بيت"، كما تقول رواية "قدر الغرف المقبضة".

هذا الأمر انعكس على علاقاتي الشخصية. لا صديقاً دائماً، ولا حبيباً دائماً، إلا نادراً. ما عرفت الاستقرار في علاقة شخصية ربطتني بأحدهم، ليقترب مني بدرجة كافية، ونادراً ما كان يتفهم أحد حياتي، ويتواءم معها. عليه أن يعرف أني ربما أظل غاضبة طوال أشهر، وقلما تزورني الابتسامة، حتى أهنأ في بيت آمن. فمن سيبتسم، وهو قلق؟ وفي داخله خوف بحجم حوت يكاد يبتلعه؟

في منزلي السابق، ظللت طوال ستة أشهر أحلم بكوابيس وأحلام مخيفة، كأن يفتح أحدهم باب بيتي عنوة، ويلتصق بسريري، وأنا نائمة، ويتفرج عليّ. أو كأن يدخل شخص غريب فجأة، ويأخذ أشيائي، ويتركني مقيدة مشلولة بقيد لا مرئي، لا أستطيع الحركة أو الصراخ، أقاوم في حلمي، وأنا أعلم أنه حلم حتى أصحو في منتصف الليل، وأظل مستيقظة حتى الصباح، لأعاود النوم مرة أخرى.

تكرر الأمر ذاته في منزلي الحالي. كان النوم أمراً شبه مستحيل بالنسبة إلي، والليل يعني العذاب، لا نوم، ولا راحة. وبينما تغمض عيون الجميع، وتسكن الحركة في ذاك الشارع الصاخب نسبياً، والذي تنتشر فيه شركات، ومكاتب، ومقار عديدة رئيسية حكومية، وخاصة، أجد نفسي متنبّهة حتى الصباح. وإذا زارني النوم، وغفوت من التعب، أصحو مذعورة على رجف النافذة، أو الباب، من حركة الهواء.

في أحد أيام شتاء العام الماضي، تحركت زجاجة مياه فارغة خارج البيت بفعل الهواء. صحوت فجأة، وكادت ضربات قلبي تسبب لي سكتة قلبية من الفزع. وبدلاً من أن أهجع في سريري، فتحت الباب، وخرجت في الثانية صباحاً لأتبين الأمر. قالت إحدى صديقاتي إن أمري عجيب؛ بدلاً من أن تخافي من لص في الخارج، خرجت أنتِ إليه. لم أنظر إلى الأمر بهذه الطريقة سابقاً. ما كان يشغل بالي كله، هو أن أتيقن من مخاوفي: هل هي حقيقية، أم وهم؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image