دبي، مدينةٌ عربية الاسم، شرقية الملامح، غربيّة الرُوح، تُذكرك ملابس مواطنيها كُلما نسيت: "أنك في مدينة عربية، بل وخليجية". على من يقصدها لأول مرة التسلح بـ"كلمتين إنجليزيتين" على الأقل، حتى لا يدخل في متاهةٍ مع سائق التاكسي الذي يقله من المطار إلى وجهته وبائعي الأسواق التجارية والشعبية. هنا العربية تكاد تختفي في الأماكن العامة والمعاملات اليومية. تُشكّل العمالة الهندية نحو 51% من القوى العاملة والباكستانية 17%، والبنغالية 9% والفلبينية 3%، وفقاً لموقع World Population Review، ما يُجبرك كعربي على تَعلُّم اللغة الإنجليزية والتحدّثِ بها، فهي لغة الحوار الجامعة لمُختلف الجنسيات. وبينما يتعلم البعض اللغة الإنجليزية للتعايش مع مُقيمي المدينة البالغ عددهم 3.1 مليون (نحو 15% منهم فقط إماراتيون)، تخطّى آخرون مرحلة تعلمها، وباتوا يتمنون تعلّم الهندية، والفلبينية، لفهم الحوارات التي تدور بصوتٍ عالٍ بين العاملات في قاعات التجميل أو الباعة على سبيل المثال، والذين يجعلونك تتساءل: "ترى عن أي زبون يتحدثون؟". في الآونة الأخيرة، ظهرت لافتات باللغة الصينية، في مجمع "دبي مول"، وهو المجمع التجاري الأكثر زيارة من قبل مُقيمي وسائحي المدينة، الذين بلغ عددهم في النصف الأول من العام الحالي، نحو 8.1 مليون سائح، 453 ألفاً منهم قادمون من الصين التي احتلت المرتبة الرابعة من حيث الزوّار. وكان رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، محمد مطر الكعبي، قد أعلن، العام الماضي، عن إلقاء خُطب الجمعة في عدد من مساجد الدولة بلغة الأوردو، وهي لغة باكستان الرسمية، وواحدة من اللغات الأكثر تداولاً في الهند. لكن وسط كُل هذا، أين لغتنا العربية؟ "لغة الضاد" حاضرة في دبي على نحوٍ خجول، تُسمع عندما يُرفع الآذان في المساجد، والمولات، لتُذكر المارّة بأنهم في مدينة عربية إسلامية لم تتجرد بعد من أصولها رغم تأثير الثقافة الغربية الطاغي. لا تزال اللغة العربية حاضرة في الدوائر الحكومية، وفي الشوارع عبر الإعلانات، رغم أخطائها التي لا تعد ولا تحصى، بحسب المخرجة اللبنانية صوفي بطرس، المُحاضِرة في الجامعة الأمريكية في دبي، والتي لفتت في حديثها مع رصيف22 إلى "وجود أخطاء لغوية فادحة"، رُبما يعود سببها إلى "الترجمة الحرفية" من الإنجليزية إلى العربية، مُشددةً على أن الاستهانة بالترجمة تُقلل من قيمة اللغة واحترامها.
"مِنْمَرِّق كم كلمة بالإنجليزي"
تعترف بطرس أن استخدامها للغة العربية تغيّر منذ انتقالها للعيش في دبي، موضحةً أنها لم تكن تتحدث حتى الفرنسية مع عائلتها في لبنان، رغم أنها اللغة الثانية الأكثر تداولاً هُناك، بل كانت مُلتزمةً بلُغتها العربية على أكمل وجه، حتى اضطرت للحديث بالإنجليزية هُنا. فتقول بلهجتها اللبنانية: "صار الواحد تلقائياً يحكي إنجليزي... مِنْمَرِّق كم كلمة بالإنجليزي"، مُبررةً ذلك بتعدد جنسيات العاملين في مجال الخدمات، معظمهم لا يجيد اللغة العربية. وتعتبر صوفي بطرس أن واحداً من "أكبر أخطاء حياتها" هو اعتماد اللغة الإنجليزية في التحدث مع ابنيها، جاد (12 عاماً) وزياد (7 أعوام)، لافتةً إلى أنهما كانا سيخسران لغتهما الأم لو ما استدركت الأمر وحاولت قدر المستطاع الحديث معهما بالعربية اليوم. لكن صوفي كالعديد من الأمهات أرادت لطفليها أن يتمكنا من التحدث مع المعينة المنزلية التي لا تتحدث سوى الإنجليزية، مُضيفةً "وصرنا نحكي بالإنجليزي لحتى بس يفوتوا على المدرسة يفهموا ويكونوا شاطرين". ورُبما يدفعنا ما قالته بطرس لنتساءل: إن كان العالم متجهاً برمته نحو اللغة الإنجليزية، أين مصلحة الأبناء في أن يتلقوا تعليمهم في مدارس تعتمد بشكل كبير على اللغة العربية؟... رُبما يكون سؤالاً جدلياً في اليوم العالمي للغة العربية، ولكنه يستحق التأمل قليلاً."هويتنا عربية"
بدورها، تقول مُدرّسة اللغة العربية، لبنى حساين لرصيف22 إنها تواجه تحدياً كبيراً في ظل العزوف عن التحدث باللغة العربية بين الطلاب، لافتةً إلى أنها تنتهز الفرص لتذكر الطلّاب بأن "هويتنا الأولى أينما ذهبنا وحللنا هي الهوية العربية التي يقرؤها الجميع في ملامحنا عندما نسافر إلى أي مكان… فيكون أول سؤال يطرح علينا: هل أنت عربي؟". ولفتت حساين إلى أنها تُحاول دوماً أن تُحبب طلابها باللغة العربية وتقربهم منها بقولها إنها "لغة سيد الخلق محمد ولغة القرآن الكريم"، مُشيرة إلى أن أغرب ما يصادفها يومياً هو اضطرارها لترجمة كلمات عربية للإنجليزية ليتمكن الطلاب من فهمها، مُحملة الأهل كامل المسؤولية. "يخرج الطالب مهزوزاً ضعيف الشخصية لا يقوى حتى على النطق بجملة بلغته الأم وهذا ما يغفل عنه الكثير من الآباء"، تقول حساين، مُذكرةً الآباء بما قاله عمر بن الخطاب: "تعلموا العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة".دبي، مدينةٌ عربية الاسم، شرقية الملامح، غربيّة الرُوح، تُذكرك ملابس مواطنيها كُلما نسيت: "أنك في مدينة عربية، بل وخليجية".
"لغة الضاد" حاضرة في دبي على نحوٍ خجول، تُسمع عندما يُرفع الآذان في المساجد، والمولات، لتُذكر المارّة بأنهم في مدينة عربية إسلامية لم تتجرد بعد من أصولها رغم تأثير الثقافة الغربية الطاغي.
إن كان العالم مُتجهاً برمته نحو اللغة الإنجليزية، أين مصلحة الأبناء في أن يتلقوا تعليمهم في مدارس تعتمد بشكل كبير على اللغة العربية؟... رُبما يكون سؤالاً جدلياً في اليوم العالمي للغة العربية، ولكنه يستحق التأمل قليلاً.
"أتمنى تعلّم العربية...لكنني لا أحتاجها"
تقول سوستيكا، عاملة نيبالية في صالون تجميلي في دبي، إنها تتمنى تعلّم اللغة العربية ولكنها "لا تحتاجها"، بحسب ما قالته لرصيف22، لأن نحو 95% من الفتيات والنساء اللاتي تُقابلهن في الصالون، يُجدن اللغة الإنجليزية. وكشفت عن تعلّمها أربعة كلمات عربية فقط منذ انتقالها إلى دبي منذ نحو ثلاث سنوات، هي: "كيفك؟"، و"الحمدلله"، و"السلام عليكم"، و"زين" (جميل)."أميرة لغات العالم وتاجها"
حفاظاً على اللغة العربية التي تتلاشى شيئاً فشيئاً، وخشيةً من أن يصحو سُكان دبي على إعلان وفاة لغة الضاد، حرص حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد على إطلاق عدة مُبادرات، تقول بطرس إنها خُلقت لتعزيز اللغة العربية بعدما بات استخدامها "أمراً ثانوياً". فكي تظل اللغة العربية "أميرة لغات العالم وتاجها"، بحسب قول محمد بن راشد، أطلق حاكم دبي عام 2014 "جائزة محمد بن راشد للغة العربية"، التي تعد "أرفع تقدير" لجهود العاملين في ميدان اللغة العربية أفراداً ومؤسّسات. تُقدّم الجائزة لـ 11 فئةً، منها فئة أفضل مبادرة في استعمال شبكات التواصل الاجتماعي أو تطبيق تقني ذكي لتعلم اللغة العربية ونشرها، وفئة أفضل مبادرة لخدمة اللغة العربية في وسائل الإعلام، وفئة أفضل عمل فني أو ثقافي أو فكري لخدمة اللغة العربية. وتهدف الجائزة للنّهوض باللغة العربية ونشرها واستخدامها في الحياة العامة، وتسهيل تعلّمها وتعليمها، إضافة إلى "تعزيز مكانة اللّغة العربيّة وتشجيع العاملين على نهضتها". ولاعتقاده أن "أول كتاب يمسكه الطلاب يكتب أول سطر في مستقبلهم"، أطلق محمد بن راشد كذلك "مبادرة تحدي القراءة العربي" عام 2015، وهو أكبر مشروع معرفي في العالم العربي وأكبر مشروع عربي يُطلقه حاكم دبي لتشجيع القراءة لدى الطلاب من الصف الأول الابتدائي حتى الصف الثاني عشر في العالم العربي، عبر التزام أكثر من مليون طالب بقراءة 50 كتاباً على خمس مراحل خلال العام الدراسي. ومن بين المُبادرات التي حرص على إطلاقها لجعل الإمارات مركزاً للامتياز في اللغة العربية بحلول عام 2021، هي مُبادرة الوسم "بالعربي" (2013) والتي تهدف لاستخدام اللغة العربية ومفرداتها في حياتنا اليومية وتعزيز حضورها عبر مواقع التواصل الاجتماعي بهدف زيادة وإثراء المحتوى العربي على شبكة الإنترنت. وتتزامن مبادرة الوسم "بالعربي" السنوية مع الاحتفالات باليوم العالمي للغة العربية الذي يُوافق 18 ديسمبر من كل عام باعتباره اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في ديسمبر 1973، والذي يقر إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة. وفي سياق مُبادرة الوسم "بالعربي"، لا بد من ذكر الـ "عربيزي"، وهي اللغة التي تمزج بين العربي والإنجليزي على شبكة الإنترنت، والتي ساهمت في إضعاف اللغتين العربية والإنجليزية معاً لدى جيل الشباب، لا في دبي فقط، بل على المستوى العربي، فرُبما يكون الـ 18 من ديسمبر، اليوم العالمي للغة العربية، فرصة جيدة كي نتحرر منها، ونحسن استخدام اللغة العربية كتابةً ونطقاً.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.