شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"ما هو الوطن الأم؟"... أسئلة الهوية والاغتراب تشغل الجيل الثاني من المهاجرين في قطر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 27 يناير 202202:24 م

"من أين أنت؟"؛ سؤال قد يبدو بسيطاً يسأله كثيرون من الناس، عندما يتعرفون إلى شخص جديد للمرة الأولى، لكن إجابته ليست بسيطةً أبداً لدى الجيل الثاني من المهاجرين في قطر، وهم أولئك الذين وُلدوا وترعرعوا في قطر، لأن عائلاتهم هاجرت إليها، في الغالب بدافع العمل، فوجدوا أنفسهم يعيشون في بلد وُلدوا فيه، لكن لا يمكنهم القول إنه بلدهم.

سؤال كانت شيماء التميمي، تتردد دائماً قبل الإجابة عنه. التميمي هي راوية قصص بصريّة من أصل يمنيّ-شرق إفريقي، تنقّلت عائلتها بين خمسة بلدانٍ مختلفة، قبل أن تستقر في الخليج العربي. تحمل التميمي جواز سفر يمنياً، لكنها وُلدت وتربت في الإمارات التي لا تحمل جنسيتها. تتحدث اللغة السواحيلية، وكثيراً ما تتناول طعاماً شرق إفريقي في المنزل.

تقول التميمي (37 عاماً): "كيف أشرح كل هذا التاريخ في جملة واحدة؟ هناك احتمالات لا نهائية للإجابة".

"من أين أنت؟"؛ سؤال قد يبدو بسيطاً، لكن إجابته ليست بسيطةً أبداً لدى الجيل الثاني من المهاجرين في قطر.

في أثناء فترة الإغلاقات في بداية انتشار وباء كوفيد-19، عادت التميمي إلى أرشيفها الشخصي، وألبوم عائلتها، كجزء من مشروعها ضمن زمالة برنامج "العدالة الاجتماعيّة والتصوير الفوتوغرافي" لعام 2020، مع مؤسسة "ماغنوم". المشروع أسفر عن فيلم "لا ترتاح كثيراً"، الذي يستخدم التصوير الفوتوغرافي والصوت والكتابة والرسومات المتحرّكة، ويحمل رسالةً من التميمي إلى جدها الذي توفي قبل مولدها، تخبره فيها بقصة الهجرة والتّنقل التي عاشتها عائلتها على مدار 50 سنةً.

تشرح التميمي خلال حديثها إلى رصيف22، أنها قبل الفيلم كانت في حالة إنكار للعديد من الأشياء في ما يتعلق بالواقع السائد، وكيف يتم التعامل مع اليمنيين في جميع أنحاء العالم فقط بسبب جواز سفر ليس لديهم أي ذنب في امتلاكه. تقول: "يجب أن تعمل بجدية أكبر من الجميع. كمغترب، عليك دائماً التفكير في ما ستفعله تالياً، وهذا مرهق للغاية، ويسبب التوتر".

لكن العمل على هذا المشروع ساعد التميمي كثيراً. تقول: "لقد عالجت نفسي من خلاله من دون أن أعرف أن هذا ما كنت أفعله. ولأنني اضطررت إلى الخوض في الكثير من الأرشيفات الشخصية، والتحدث إلى والدي، ومحاولة تكوين فكرة كاملة لفهم ما حدث في الماضي، فإن كل هذا وضع الأمور في نصابها".

بعد عرض الفيلم في مهرجان أجيال السينمائي في قطر، تلقت التميمي رسائل عدة عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي من الجمهور الذي شاهد الفيلم. شكرها المشاهدون على صنع فيلم استطاعوا رؤية أنفسهم فيه. تفاعل المجتمع مع فيلم التميمي ليس مستغرباً، فالكثير من سكان قطر يشاركونها بعض جوانب قصتها.

شيماء التميمي - تصوير عمار القماش

انتماء إلى نمط الحياة

وُلد الشاب المصري الثلاثيني ع. م.، في قطر، وعاش فيها طوال حياته، وارتاد مدرسة الأهرام المصرية في الدوحة، ثم سافر إلى مصر لإكمال دراسته الجامعية بعد حصوله على الثانوية العامة.

يقول لرصيف22: "طوال وجودي في مصر، كنت أشعر بالغربة، لكن هذا الإحساس كان ينتابني أيضاً في قطر. كنت أجد في مصر تقارباً اجتماعياً بين الناس افتقدته في قطر، حيث لا يعرف حتى الجيران بعضهم البعض. لكنني اعتدت على الشعور بالأمن فيها، والتزام الناس في الشارع بسلوك متحضر، فعندما أعود الى مصر افتقد هذا، وأشعر بنوع من الغربة. لا أريد أن يكون أولادي مثلي".

عاد ع.، إلى قطر مجدداً بعد إنهاء دراسته الجامعية، للعمل في إحدى شركات النفط والغاز، لكن هل يشعر بالانتماء إلى البلد الذي وُلد فيه وعاش معظم حياته؟ يقول الشاب المصري إن "المصريين المقيمين في قطر لديهم انتماء إلى نمط الحياة الذي تعودوا عليه خلال إقامتهم الطويلة فيها، وليس إلى البلد بحد ذاته".

ويتفق كلامه إلى حد ما مع استنتاجات الباحثة هذال موسلو، في أطروحتها لنيل ماجستير الآداب في دراسات الخليج في جامعة قطر، التي حملت عنوان "هوية المهاجرين: دراسة الجيل الثاني من العمالة المهاجرة في قطر"، فتقول إن "38% من المشاركين في عينة البحث، ذكروا أنهم يرغبون في قضاء بقية حياتهم في قطر، ويرجع ذلك أساساً إلى الأغراض التعليمية، وظروف العمل التي هي أفضل مما في وطنهم الأم، وثروة البلاد. بالإضافة إلى أن قطر هي الدولة التي وُلدوا فيها، وتعيش فيها أسرهم".

أنا فخورة جداً بأنني مصرية، ولا أعرف إن كان شعوري هذا قد ازداد مع إدراكي بأنني لا أستطيع أن أقول إن قطر وطني، حتى ولو وُلدت فيها، ولا أعرف بلداً غيرها، أو إذا كان مرتبطاً بوالدي ووالدتي والأجواء والثقافة المصرية التي أحاطت بي

وتضيف في الأطروحة أن "هويات الجيل الثاني من المهاجرين هشة وسلسة ومتنقلة، ولا تنتمي إلى الوطن الأم أو البلد المستضيف، وعندما يكتسبون وعياً ذاتياً، فإنهم يتساءلون أكثر عن المكان الذي ينتمون إليه، وكيف يجب أن يتموضعوا في المجتمع القطري".

حيرة وأسئلة

هذا هو التساؤل الذي يشغل حيزاً كبيراً من تفكير منة كامل، وهي مصرية وُلدت في قطر عام 1993، وتعيش فيها حتى الآن. تقول: "تشغلني جداً أسئلة المواطنة والهوية، والآن أكثر من أي وقت مضى. وأعتقد أن أي شخص وُلد في بلد غير بلده الأم، خاصةً إذا لم يكن يملك حق الإقامة الدائمة في البلد الذي وُلد أو أقام فيه فتراتٍ طويلةً، يظل مشغولاً بهذه الأسئلة. لأنه إذا لم يكن البلد الذي وُلدت فيه، وتعودت عليه، وألفته، هو المكان الذي تستطيع الإقامة فيه، ستفكر دائماً أين أستطيع الإقامة إذاً؟ وهل سأحب مكاناً آخر أم لا؟".

تشير منّة، إلى أنه لو أتيحت لها الفرصة للحصول على الجنسية القطرية، ستتقدم للحصول عليها، شرط الاحتفاظ بالجنسية المصرية في الوقت نفسه. وتوضح: "أنا فخورة جداً بأنني مصرية، ولا أعرف إن كان شعوري هذا قد ازداد مع إدراكي بأنني لا أستطيع أن أقول إن قطر وطني، حتى ولو وُلدت فيها، ولا أعرف بلداً غيرها، أو إذا كان مرتبطاً بوالدي ووالدتي والأجواء والثقافة المصرية التي أحاطت بي".

حيرة يشاركها فيها صانع المحتوى على يوتيوب الشاب المصري محمود إسماعيل، الذي يلخص في فيديو بعنوان "لماذا تركت قطر بعد سن العشرين؟"، مشاعر هذا الجيل من أبناء المهاجرين، بقوله: "دي قصة جيل كامل. جيل مكسور الهوية. الناس اللي اتولدت ولقت نفسها أجانب من غير وطن، ولما كبروا لسه مفتقدين للمعنى ده". فيديو إسماعيل حصل على قرابة سبعة آلاف تعليق، معظمها من أشخاص عاشوا تجارب مماثلة في مختلف دول الخليج.

على الرغم من أنه عاش في قطر أكثر من 25 سنةً، إلا أنه لا يشعر بأنها وطنه، أو بأنها ستتقبله كمواطن.

الباحثة المصرية ندى وليد سودي، سلّطت الضوء، في أطروحتها لنيل درجة أستاذ في الدراسات العربية من جامعة جورج تاون، على موقف مهاجري الجيل الثاني من مسألة الجنسية، من خلال المقارنة بين المهاجرين من الجيل الثاني في قطر، ونظرائهم في الولايات المتحدة الأمريكية.

تقول الدراسة إن المشمولين في عيّنة البحث في الولايات المتحدة، ناقشوا علاقتهم بمصر كشيء "يرغبون في الحفاظ عليه"، بينما ناقشت عينة البحث في قطر ذلك، كشيء "يتعين عليهم الحفاظ عليه، أو من المتوقع الحفاظ عليه". ما يعني حسب الدراسة، أن "ما يحدد شعور المرء ‘بمصريته’، ليس بالضرورة المواطنة أو البعد عن مصر، بل هو بالتحديد العوامل السياقية المحيطة بكل مستجيب".

ما هو الوطن الأم؟

يصبح الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين وُلدوا وعاشوا في قطر، إذ يُنتظر منهم الإحساس بالانتماء إلى بلد يعرفونه فقط من خلال حكايات ذويهم، وزيارات عائلية قليلة إن سمحت الظروف بذلك. وفي الوقت نفسه لا يمكنهم العيش في قطر إلى الأبد، إن لم يرتبط ذلك بعمل أو دراسة، ما يجعلهم دائماً يفكرون في الخطوة التالية.

انتقلت عائلة ج. أ.، وهو أمريكي من أصول فلسطينية، إلى قطر في تسعينيات القرن الماضي، عندما كان عمره خمس سنوات. الوطن الأم بالنسبة إلى الشاب الثلاثيني هو كل من فلسطين التي لم يزرها أبداً، والولايات المتحدة التي وُلد وعاش طفولته المبكرة فيها، لكنه عندما يعود إليها في الإجازات تنتابه مشاعر مختلطة، فيشعر بأنها بلده والمكان الذي ينتمي إليه، وفي الوقت نفسه يشعر بنوع من الغربة إذ إن هناك شيئاً ينقصه. أما قطر، فجميع أقاربه من جهة والده يعيشون فيها، وعلى الرغم من أنه عاش فيها أكثر من 25 سنةً، إلا أنه لا يشعر بأنها وطنه، أو بأنها ستتقبله كمواطن.

تصوير إيمان كامل

الأمر يختلف بالنسبة إلى الفلسطيني ع. أ.، الذي انتقلت عائلته إلى قطر عام 1967. فالوطن بالنسبة إليه هو منطقة "اللقطة" في الدوحة حيث وُلد وعاش معظم حياته، وليس فلسطين. يقول الشاب العشريني لرصيف22: "زرت فلسطين مرتين ولم أشعر بأي رابط ولا بأنها بلدي أصلاً. بلدي الأم بصراحة لا تمثل لي أي شيء. أنا من غزة، وهي اليوم سجن كبير، وتالياً فإن العودة إليها كابوس. أما قطر وخصوصاً منطقة اللقطة، فمحفورة في مخيلتي. إنها المكان الذي يمكن أن أقول عنه: ما أحلى العودة إلى المنزل".

حاولت عائلة ع.، الحصول على الجنسية القطرية، لكنها لم تنجح في ذلك حتى الآن. أسئلة الانتماء والمواطنة والهوية دفعته للسفر إلى تركيا ومحاولة أخذ جنسيتها وتأسيس مستقبل بديل فيها، حسب قوله.

المجتمعات الافتراضية

انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والمجتمعات الافتراضية التي خلقتها، أضافت عنصراً جديداً إلى سؤال الهوية لدى الجيل الأصغر سناً من أبناء المهاجرين في الخليج. سمحت تلك الوسائل بخلق مساحة غير رسمية للتعبير وتشكيل الانتماء إلى الوطن الأم، حسب دراسة للأستاذة في قسم الإعلام في جامعة قطر، سعدية عز الدين مالك.

تقول مالك في الدراسة، إن وسائل التواصل الاجتماعي قدمت مساحةً للتعبير للجيل الثاني من الشباب السودانيين المهاجرين الذين يعيشون في قطر، حيث تظهر إمكانيات الانتماء واختيار عدم الانتماء والجمع بين الانتماء في مجتمعات متعددة.

هويات الجيل الثاني من المهاجرين هشة وسلسة ومتنقلة، ولا تنتمي إلى الوطن الأم أو البلد المستضيف، وعندما يكتسبون وعياً ذاتياً، فإنهم يتساءلون أكثر عن المكان الذي ينتمون إليه، وكيف يجب أن يتموضعوا في المجتمع القطري

تعدد الهويات يشكل جانباً مهماً من أعمال الكاتب الزنجباري ذي الأصول اليمنية، عبد الرزاق قرنح، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2021.

في حوار عبر الإنترنت نظّمته جامعة قطر معه، يتحفظ قرنح على كلمة الهوية، ويقول: "الهوية ليست شيئاً فريداً أو مميزاً. إنها الطريقة التي نتخيل بها أنفسنا، ونفكر بها في أنفسنا. يمكنني أن أكون أكثر من شيء إذا أردت. ليس في الوقت نفسه بالطبع، لكن يمكنني أن أكون كل هذه الأشياء بالطريقة نفسها التي يمكن أن يكون بها المرء أباً وابناً وجداً. يمكنك أن تكون كل هذه الأشياء معاً، وليس عليك أن تكون أحدها فقط".

حالة قرنح تلخص قصة اليمنيين في شرق إفريقيا، والتي تحاول شيماء التميمي، جعلها متاحةً للأشخاص من مجتمعها من خلال فيلم "لا ترتاح كثيراً". وتقول: "لم ننشأ أبداً على رؤية أنفسنا في الكتب أو التلفزيون أو الأغاني أو وسائل الإعلام. كل ما عرفناه عنها هو إما المجاعة أو الحرب أو المرض، ما يُرسّخ في عقليتك أنه ليس مقدراً لك الازدهار، أو أن تكون لديك أحلام أو إنجازات، وهذا ضار جداً بتكوينك كشخص". تعتقد التميمي أنه كلما تمكن أشخاص مثلها من الخروج إلى العالم ورواية قصتهم، كلما ازداد عدد الأشخاص الذين يمكنهم الخروج من حالة الشك الذاتي والنجاح.

وبالعودة إلى سؤال "من أين أنت؟"، تقول التميمي إنه كان أصعب سؤال قد يواجهها قبل صناعة فيلمها، والآن باتت تنظر إلى الأمر كميزة إضافية تتيح لها الوصول إلى ثقافات متعددة. فتقول، في ما يبدو أنه صدى لكلمات قرنح: "الجميل في الأمر أنه يمكنني أن أصبح أي شيء أريد أن أكونه. أو من أي جزء أريد أن أكون. نظراً إلى أنه يمكنني المطالبة بكل تلك الأماكن أو البلدان التي زرتها، أو التي أتيت منها، كجزء من قصتي، بغض النظر عما إذا كان مصادقاً على ذلك بورقة أم لا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard