ما الذي منع المولود من أبوين مهاجرين، من تحقيق الاندماج الكامل والكلي في المجتمع الفرنسي؟ يطرح الفرنسي، العادي، هذا السؤال، ويقف حائراً. ينظر إلى نماذج حوله، لكنه لا يرى منها ما يشبع رغبته في فهم السؤال. فالفرنسيون لم تصلهم، وهذا تقصير فادح من الدولة، آليات فهم الثقافات الوافدة إليهم، والمقيمة بينهم، والمشارِكة معهم في المواطنة والعيش والفضاء العام.
لم تنتبه الدولة الفرنسية، إلى أن الإسلام نفسه، يشكّل عائقاً كبيراً أمام الاندماج.
لم تنتبه الدولة الفرنسية، إلى أن الإسلام نفسه، يشكّل عائقاً كبيراً أمام الاندماج. لقد وصل الجيل الأول من المغرب، في الموجة الأولى الكبرى للهجرة في بداية الستينيات من القرن الماضي، مباشرةً بعد الموجة الأولى للقادمين من الجزائر، الذين خرجوا مع الفرنسيين تاركين بلدهم الأصلي بحثاً عن الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. غير أن هذا الجيل، لم يكن على درجة عالية من المعارف أو التعليم، إلا في ما ندر، ففرنسا لم تبنِ في الجزائر المدارس، ولم تنشر التعليم، وكذلك فعلت هي وإسبانيا في المغرب، واقتصر التعليم في ذاك الزمان على التعليم الديني التقليدي، وهذا أضاف إلى محنة هؤلاء محناً أخرى في بلد لديه ثقافة قوية، ونسب تعليم عالية جداً ومعارف واختصاصات... إلخ.
في هذا الواقع، عمد الجيل الأول إلى تحصين نفسه بثقافته الدينية، التي كسبها، سواء من التربية البيتية، أو المدارس التقليدية لتحفيظ القرآن. ولأن المغاربة شعب متدين، كان الدين الركيزة التي استندوا إليها في مواجهتهم للثقافة الفرنسية القوية والمتجذرة في مجتمعها. والحق أن الدين لم يفلح وحده في المواجهة، بل سانده فيها التقليد الاجتماعي المنمّط الحامل لمجموعة كبيرة من الأفكار التربوية والمعيشة حول فرنسا، كونها دولةً استعماريةً "صليبية".
إن المعاناة التي عاشها الجيل الأول، سواء من خلال احتياجات البقاء والعيش بالقليل، أي الفتات، أو من خلال الصعقة الحضارية، جعلت التجربة تنزاح نحو الانطوائية، ورفض الاندماج، والتعاطي مع المجتمع الفرنسي كجزء منه، فضلاً عن أن المجتمع نفسه لم يتقبل انتماء هؤلاء إليه، أو التعامل معهم بسواسية، فشكلت الخلفية الدينية، يساندها الماضي الاستعماري، وحرب الجزائر، حالةً من العداء والكره وجدت مكاناً لها في العقلية الرافضة لكل محاولات الدمج التي كانت ممكنةً وسهلةً، في غيابٍ كامل للبرامج المدروسة والمتمكنة من قبل الدولة نفسها.
عمد الجيل الأول من المهاجرين إلى تحصين نفسه بثقافته الدينية، التي كسبها، سواء من التربية البيتية، أو المدارس التقليدية لتحفيظ القرآن. ولأن المغاربة شعب متدين، كان الدين الركيزة التي استندوا إليها في مواجهتهم للثقافة الفرنسية القوية والمتجذرة في مجتمعها
أحالت هذه الانطوائية الجماعة إلى كتلة من الرفض، تمظهرت، برفض الجنسية الفرنسية، ولا مناص من القول، إن غالبية أبناء الجيل الأول، لا يحملون الجنسية الفرنسية، ولا يريدونها، كم أنهم يرفضون دفن أجسادهم بعد الموت في فرنسا، رفضاً قاطعاً، بحجة أن الأرض دار كفر، وهم إن أمكنهم البقاء فيها أحياء، لا يمكنهم البقاء فيها أمواتاً. استجابت لهذا الموقف العقائدي تجارة رابحة، بدأت تضع لنفسها مكانةً في سحب أموال هؤلاء إلى بنوك (البلاد)، ساهمت، من دون تخطيط مسبق، بربطهم أكثر بالبلاد التي تركوها أحياءً، وتستقبلهم جثثاً هامدةً ومجلدة.
لم تنتهِ العلاقة الوثيقة بالبلاد على هذا النحو، بل إن السلطات المغربية، فرضت على جاليتها الفرنسية، في زمن الحسن الثاني، ذات التوجه العروبي، لائحةً تحدد أسماء المواليد الذين ينوون إنجابهم في القادم من الأيام. فكان المغربي يذهب بأوراق المستشفى إلى القنصلية حيث يقيم، ويختار لمولوده اسماً من اللائحة التي تُقدَّم له ليختار منها. والحق أن اللائحة التي أُنزلت إلى مكانها، من علوٍ لا يقوى على مقارعته المغربي البسيط، لم تحمل بعداً إسلامياً فحسب، بل عروبياً فظاً، همّش بشكل مباشر ومدروس، المغاربة الأصليين، أو سكان البلاد، قبل "الفتح الإسلامي". فكان ممنوعاً، والحال هذه، أن يُسمّى المواليد الجدد في فرنسا، بالأسماء الأمازيغية التي تمثّل عمقهم الثقافي والحضاري إن كانوا يريدون الحصول على أوراقهم المغربية، فجُرّدوا من حقوقهم الثقافية، بعد أن خسروا حقوقهم السياسية، قبل أن يستعيدوها مع التغيّرات التي طرأت على بلدهم في السنوات الماضية.
شكّلت الخلفية الدينية، يساندها الماضي الاستعماري، وحرب الجزائر، حالةً من العداء والكره وجدت مكاناً لها في العقلية الرافضة لكل محاولات الدمج التي كانت ممكنةً وسهلةً.
ولعل عملية الإصلاحات التي بدأت قبل سنوات، وشملت الحقوق السياسية والتعليم والاعتراف باللغة الأمازيغية لغةً رسميةً إلى جانب العربية، قد تمنح شعوراً بالاطمئنان لمن فقدوا هذه الحقوق لعقود. وعلى الرغم من أن الإصلاحات قد أعادت الحق في اختيار أسماء المواليد، بما يتناسب مع رغبة الأهل، إلا أن التغيير أصبح صعباً، ويحتاج إلى عقود من الإصرار على التمسك بالحقوق البديهية، من دون نسيان أن عشرات آلاف المغاربة تعرّضوا للظلم والاضطهاد والمنع من الدخول إلى سوق العمل، بسبب أسمائهم غير المقبولة من المجتمع الفرنسي، لأنها تؤشّر على أصولهم الإسلامية والمغاربية في الوقت نفسه، ما أضاف إلى الترسبات الثقافية التي كسبوها من جيل آبائهم، أحقاداً جديدة.
لقد ساعد الجهل، إلى جانب قلة الحيلة، مضافاً إليهما التربية الإسلامية القوية المرتكزة إلى الأفكار المسبقة، التي تضع الغرب في موقع العداء التاريخي للمسلمين، والأفكار القديمة، إلى تحويل الجاليات المغاربية بشكل عام، والمغربية بشكل خاص، إلى جماعة منفصلة عن المجتمع الفرنسي. غير أن الدولة الفرنسية نفسها، لم تبذل جهوداً لفهم هذا الإسلام، واحتوائه منذ البداية.
والواقع أن الدولة الفرنسية التي تمنح المقيمين le droit du sol، أي حق الحصول على الجنسية الفرنسية، بسبب وجودهم الجسدي عليها، أو ولادتهم على أرضها، لم تتمكن، حتى اليوم، من مأسسة العلاقة مع الإسلام. فقد استفادت الحركات السلفية من قانون تأسيس الجمعيات الذي أقرّه فرانسوا ميتران، وأدخلت إلى التجمعات الإسلامية، سواء في الضواحي أو في الأرياف، الفكر السلفي الذي أضيف إلى الخلفيات التقليدية للإسلام الذي تحصلوا عليه في بلادهم، ونقلوه إلى الجيل الثاني الذي فقد علاقته الحقيقية مع العربية، وتالياً قدرته على الاطلاع والتثقف إسلامياً.
لقد ساعد الجهل، إلى جانب قلة الحيلة، مضافاً إليهما التربية الإسلامية القوية المرتكزة إلى الأفكار المسبقة، التي تضع الغرب في موقع العداء التاريخي للمسلمين، والأفكار القديمة، إلى تحويل الجاليات المغاربية بشكل عام، والمغربية بشكل خاص، إلى جماعة منفصلة عن المجتمع الفرنسي
وحين انتبهت فرنسا، بعد حرب الخليج الثانية، إلى مشكلة العلاقة مع الإسلام المقيم، قام وزير الداخلية، يومذاك، بيار جوكس، برفقة شارل باسكوا، وجان بيار شوفينمون، بتأسيس "مجلس التفكير والتوجيه لمسلمي فرنسا"، الذي لم يتمكن من تحقيق أي نتائج في ترتيب العلاقة مع الإسلام المقيم، بسبب قصورهم عن فهم كامل وكلي للإسلام وتطوراته وأصوله وعقائده، ثم محاولة ثانية مع دانيال فييان، الذي أنشأ بتوجيه من وزير الداخلية، نيكولا ساركوزي، "المجلس الثقافي لمسلمي فرنسا"، وعلى عكس سابقه، تمكّن هذا المجلس من وضع اليد على ما يقرب من أربعة آلاف مسجد في فرنسا، لكن مجدداً، مع إشراك مسجد باريس الكبير، ومن دون أن يحدث أيُّ فارق كما سابقه، إذ تعتقد الغالبية من المقيمين أن من يقومون بإدارة هذا المسجد لا يشبهون الجالية، والجالية لا تشبههم.
إن أزمة الجيل الأول للمهاجرين، ولأنها لم تُحلّ من قبل الدولة، وكذلك من قبل الدول الأم في المغرب العربي، انسحبت إلى الجيلين الثاني والثالث، وعلى الأرجح ستبقى مقيمةً في الصدور حتى أجيال قادمة. وعلى الرغم من أن المغرب ألغى في المدوّنة الجديدة لائحة الأسماء التي تفرضها الدولة على رعاياها في المغرب والمهجر، فإن الإسلام غير قادر على أن يتعايش مع العلمانية الفرنسية التي تحولت من فكرة لفصل الدين عن الدولة، إلى دين للدولة يظهر مخالبه تجاه الجماعات التي يتلمس خطراً مستقبلياً منها، وهي تشعر بذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...