شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لماذا أقدِّم ولاءً لأرضٍ لم أحصل على أقل حقوقي فيها؟

لماذا أقدِّم ولاءً لأرضٍ لم أحصل على أقل حقوقي فيها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 13 ديسمبر 202112:05 م


طريق مدرستي الأولى كان وصلاً بين محطات الطفولة، على الرغم من أنه يمكنك أن تصل إليها من منزلنا، سيراً على الأقدام، ومن دون أدنى جهد. أما أن أقطعه إفتعالاً في ذاكرتي، فحتماً سأستغرق في زوايا شوارعه جميع عواطفي، ولن أصل إلّا برفقة كومةٍ من الأصدقاء والأحداث العالقة في سرداب الذكريات. باحة المدرسة إحتوتني، وأصدقائي، في القسم الأكبر من طفولتنا، وفيها تجمّعت الضحكات والصراخ: حادثة سقوطي الأولى، وتكريم نجاحي الأول، وهناك أيضاً عقدنا عهوداً أبدية للصداقة، حين كنّا نجهل ما يحمله هذا الأبد لكلّ منّا، وتغنّينا للمرة الأولى بنشيد "حماة الديار"، قبل أن تقتلعنا الحرب ببشاعتها من كلّ ديار وطأناها.

كل ما يمكنك الحصول عليه من الوطن، هو فرصة للرحيل عنه.

من حسن حظي أنّي هجرت هذه الباحة، مع بداية وصول الحرب إلى مدينتي حلب، إذ أحتفظ إلى اليوم بصورةٍ غير مشوّهة لها، ولا أمتلك ما يوخز ذاكرتي في ما يتعلق بها، على عكس منزلنا الذي قضيت تحت سقفه لحظاتٍ من الرعب والاضطراب التصقت به عنوةً، وصبغت جدرانه بالخوف وانعدام الأمان. رافقت الحرب مراهقتي بقدومها بغتةً؛ على الأقل، بالنسبة إلى طفلةٍ لا تفقه عالم السياسة، ولم ترحل سريعاً كحالها، إنما دامت لتقضي على سنواتٍ عديدةٍ، وأحلامٍ لأطفال آخرين. في سوريا، لا تحكمنا الأعمار، بل الظروف، وتدفعنا الحاجة والفقد والمشاهد المؤلمة للنضج الفكري والصلابة العاطفية في سنٍّ مبكرة، وهذا امتياز لا يحظى به سوى أطفال الحروب.

في الثالثة عشر من العمر، كانت هجرتي الداخلية الأولى، تتالت بعدها رحلاتي وخيباتي بما يطلقون عليه حضن الوطن، من حلب إلى طرطوس، ومن طرطوس إلى أربيل، وصولاً إلى ألمانيا. بعد خروجي من منزل الطفولة، أصبح الارتباط بالمنازل يؤرّقني. كرهت المنازل جميعها، وكرهت الطرقات المؤدية إليها.كانت رغبتي في العودة تشغلني عن الاستمتاع بكل جديدٍ، وتنهاني عن الاعتراف بأن الأحداث، وهذا تعبير أعتدنا استخدامه للتخفيف من أثر لفظ الحرب، خلّفت في نفسي عُقَداً رافقتني أينما ذهبت. اعتقادي بأني خسرت انتمائي إلى المكان، بعد خروجي من سوريا، جعل الأماكن تبدو أقل ألفةً في نفسي. تلك الشعارات التي كنّا نتغنّى بها، ولا يزال البعض يرددها حتى الآن عن الانتماء والوطنية، عمّقت شعوري بالغربة والضياع، حين كان عليّ أن أسعد بوصولي إلى وطنٍ يُحترم فيه وجودي، وحقّي بالأمان. ومع مضي الأيام، ازداد إدراكي للفوارق التي تفصل بلادنا العربية عن أوروبا، وبدأت استهجن عاداتنا البالية، ومجتمعاتنا القائمة بين حدود العيب والحرام، والمبنية على التقليد والتبعية، من دون السماح للأجيال الجديدة بالانتقاد، أو الاختلاف.

في الثالثة عشر من العمر، كانت هجرتي الداخلية الأولى، تتالت بعدها رحلاتي وخيباتي بما يطلقون عليه حضن الوطن، من حلب إلى طرطوس، ومن طرطوس إلى أربيل، وصولاً إلى ألمانيا. بعد خروجي من منزل الطفولة، أصبح الارتباط بالمنازل يؤرّقني. كرهت المنازل جميعها، وكرهت الطرقات المؤدية إليها

الوطنية أيديولوجية فكرية وليست صراعاً أخلاقياً

أن تعيش مراهقتك في زمن الحرب، يعني أنك عشت تحاول الفوز بالحياة دون جدوى. كل ما يمكنك الحصول عليه من الوطن، هو فرصة للرحيل عنه. وفي زمنٍ كهذا، يُكثر الوطنيون المزيّفون من التباهي بصمودهم على الأرض، أو بمحبتهم لها، ولا أعمّم كلامي على الجميع، بل أخصّ الذين يرون أنفسهم متفوقين عليك بالوطنية، ويعتقدون أن ولادتك على أرضٍ ما، تحتّم عليك الشعور بالانتماء إليها، وإلّا كنت من الخائنين والمتخاذلين، ولا أنفي بكلامي القيم الإيجابية المرتبطة بالوطنية بشكلٍ عام، إنما أعطي الحق لنفسي، ولغيري، باختيار انتماءاتهم، ودرجة وطنيتهم، من دون أن أنصّب نفسي حاكماً أخلاقياً على أحدهم. توظّف الأنظمة السياسية في الدول العربية، مفهوم الوطنية، لخدمة مصالحها، فتصبح الوطنية غطاءً لجرائمهم، ولا تخدم الأرض أو الشعب، وإنما السلطة. ومن هنا، أرفض تقديم الولاء لأرضٍ لم أحصل على أقل حقوقي فيها، وكان همّي الوحيد القدرة على الهروب منها. لم يكن يوماً رفضي لتلك الشعارات، نتيجة ثورة غضب أشنّها على الوطن، على الرغم من أنّي خرجت منه بذاكرةٍ مُعتلّةٍ بالأوجاع، فحنيني إليه، وحزني على تكرار مشاهد الفقر والجوع، ترافقني، شئت أم أبيت، وثورتي ضد كل أشكال الاضطهاد، واجبٌ لن أتخلّى عنه أبداً.

في زمنٍ كهذا، يُكثر الوطنيون المزيّفون من التباهي بصمودهم على الأرض، أو بمحبتهم لها، ولا أعمّم كلامي على الجميع، بل أخصّ الذين يرون أنفسهم متفوقين عليك بالوطنية، ويعتقدون أن ولادتك على أرضٍ ما، تحتّم عليك الشعور بالانتماء إليها، وإلّا كنت من الخائنين والمتخاذلين

لم يكن لي يوماً وطن أنتمي إليه، ولم أجد في المجتمعات العربية إلّا قلّةً من الأفراد الذين يشاركونني أفكاري. وإذا كنت قد عانيت سابقاً بسبب فقداني شعور الانتماء إلى ألمانيا، أو إلى الشعوب الأوروبية، فلم يكن ذلك نتيجة حاجتي إليه، وإنما كان نتيجة خوفٍ من الخروج عن عادات المجتمع. فلو نظرنا إلى المجتمعات العربية الصغيرة المتشكّلة في ألمانيا، نجد رابطاً واحداً يجمع أفرادها، وهو فقدانهم الانتماء. في حين يشتكي الكثيرون من حولي، من عدم شعورهم بالانتماء بسبب الغربة، ساعدتني غربتي، مع مرور الوقت، على التصالح مع تلك المفاهيم، وإيجاد قالبٍ، وتعريفٍ مختلفين لها، يناسبان ما مررت به منذ طفولتي.

أشعر اليوم، وأنا في غرفتي الصغيرة في السكن الجامعي في ألمانيا، بأمانٍ يفوق ما شعرت به في أيّ منزلٍ سكنته سابقاً.

أعدت بناء روابطي مع الأماكن والأحداث، وأشعر اليوم، وأنا في غرفتي الصغيرة في السكن الجامعي في ألمانيا، بأمانٍ يفوق ما شعرت به في أيّ منزلٍ سكنته سابقاً، وتوقّفت عن البحث عن تلك العاطفة الشمولية الواسعة، واكتفيت بالتفاصيل الحقيقية التي تمثّلني، ويبدو لي أن الشعارات العربية تعطي دائماً قيمةً مبالغةً لبعض الأفكار الجمعية، بينما تلغي قيمة الفردانية، وتحارب الاختلاف بشتّى أشكاله، إذ ما أن يجد الإنسان نفسه خارج حدود الوطن والمجتمع، يصبح أكثر تطلعاً إلى الحرية، وقادراً على اختيار ما يناسبه، من دون قيودٍ اجتماعية. إن شعرت يوماً بالانتماء إلى مكانٍ ما، فلن أجرّد نفسي منه عمداً، وسأقبله برحابة صدر، لكني لن أبحث عنه مجدداً في شوارع مدينةٍ غربية، ولا بين حطام مدينةٍ عربية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image