شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"أبناء الثقافة الثالثة" العرب، كيف ينظرون إلى حالنا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 13 ديسمبر 201711:31 ص

علاقتنا بأوطاننا هي من أقدم الأسئلة التي تناولتها البشرية في أساطيرها وملاحمها. ففي تقليد رمزي قديم، يجسده أبطال الملاحم اليونانية الشهيرة، تتحول العلاقة بالموطن إلى صلة مادية حية ملموسة، تعبر عنها فكرة الـ"أوتوكثون"، وهي تركيب من كلمتي أوتوس (αὐτός)، وتعني النفس، وكثون (χθών)، وتعني التربة، ودلالتها أن الناس الأصليين في مكان ما قد "انبثقوا" من تربته. وكما تتشوه جذور النبتة عندما نقتلعها من التربة، نجد أنّ أبطال الملحمة اليونانية لديهم مشاكل في أرجلهم للتدليل على علاقتهم الوثيقة بأرض أوطانهم: آخيل وعقبه أو كعبه، الذي أصبح مثلاً، وأوديب الذي انتفخت قدماه، وغيرهم. وأما في تقليد عربي معاكس تماماً لعلاقة الناس "المتجذرة" في الأرض، تعودنا أن يفتتح الشعراء قصائدهم بالتأمل بالآثار الباقية لقبيلة المحبوبة التي غادرت دون رجعة، تاركة مرارة الفقدان التي سرعان ما تتحول إلى فرصة إبداعية، فتحاول القصيدة إعادة خلق اللحظات الجميلة في علاقة المحبين، قبل أن تنتقل إلى مواضيع أخرى. بعد قرون من تعاملنا مع نفس السؤال في نموذجيه اللذين يطرحهما التقليدان، يواجه العالم اليوم، في كل أنحائه، حقيقة قديمة/جديدة: الهجرة والتنقل من بلد لآخر بحثاً عن حياة أفضل. فكيف يتعامل الجيل الجديد مع هذه الظاهرة؟

من هم "أبناء الثقافة الثالثة"؟

"العولمة"، والهجرات الطوعية والقسرية، في أنحاء شتى من العالم، خلقت فئة كاملة مما يسمى بـ"أبناء الثقافة الثالثة". وهم الأطفال الذي يعيشون في ثقافة مختلفة عن ثقافة أهلهم في سنوات تكوينهم الأولى، وهم عادة يطورون نموذجاً مختلفاً لعلاقتهم مع البلدان، بمفهومها الوطني، ولا تكون صلاتهم مع بلدهم "الأصلي" مختلفة أو أقوى من ميلهم وانسجامهم مع الثقافات الأخرى التي يترعرون فيها. غالباً ما تشكل الثقافة "الأم" عائقاً أمام اندماجهم الكامل في البلاد الجديدة، بينما تتحكم الأخيرة في قدرتهم على الانتماء للبلد الأم. بمعنى آخر، إذا وجد أبناء الثقافة الثالثة طريقة لبناء علاقة حميمة مع ثقافة والديهم، سيمنعهم ذلك من التأقلم مع بلادهم الجديدة، وكذلك عند الاندماج مع بلادهم الجديدة يخلق ذلك، دون إرادتهم، فجوة في ارتباطهم بثقافتهم الأم. "كيف نحفظ التراث، ونتبنى قيم المجتمعات الجديدة"، هي إحدى أهم المعضلات التي تواجه أبناء الثقافة الثالثة، وهذا ما تناقشه إيفون حداد، أستاذة دراسات العالم العربي المعاصرة في جامعة جورجتاون، حيث تقول في مقالتها "عولمة الإسلام": "من جهة، لدينا جيل الآباء والأمهات والأجداد والجدات، الذين يحافظون على علاقات ثقافية وعاطفية مع بلادهم الأصلية، ويتمسكون بالعادات والتقاليد سواء أكانت منسجمة مع البيئة الجديدة أم لا. ومن جهة أخرى، هناك جيل الأبناء والأحفاد، الذين يفتقرون للصلة العاطفية مع البلاد الأصلية، ولا يكترثون بالعادات المتوارثة منها، والتي يعتبرونها عقبة في طريق التطور في المجتمع الذين ولدوا (أو ترعرعوا) فيه".

بعض الملامح التي تميزهم، كما تقدمها الدكتورة روث فان ريكين، التي تدرس "أطفال الثقافة الثالثة"، تتعلق بشكل مباشر بتأثير خلفيتهم وتجربتهم مع ثقافات مختلفة كجزء من تنشئتهم، كما تشرح في كتابها، "أطفال الثقافة الثالثة: النشأة بين عوالم مختلفة". تشرح فان ريكين أنّ "أطفال الثقافة الثالثة" أو (تي سي كي، TCK كما يطلق عليهم)، مؤهلون لإتمام دراساتهم الجامعية أربع مرات أكثر من معدل من هم بأعمارهم من خلفيات مستقرة ومتجانسة. وتضيف أن فترة المراهقة لدى أطفال الثقافة الثالثة أطول من غيرهم، كما تتحدث فان ريكين مطولاً عن إشكالية تواصل أطفال الثقافة الثالثة مع ثقافتهم الأم (أي ثقافة آبائهم وأمهاتهم). ولكنها كذلك تجد أنّ أطفال الثقافة الثالثة "واعدين" لأنهم ينظرون إلى العالم بمنظور منفتح يرى التعددية جزءاً لا يتجزء من الوجود الإنساني.

ثقافة متجذرة بالناس وليس في الأماكن؟

في مقالة نشرتها "بي بي سي" حول الموضوع، في نوفمبر 2016، تقترح كيت مايبري بأن النشأة الخاصة لأطفال الثقافة الثالثة تجهّزهم للعمل في السوق العالمية، بفضل المؤهلات التي تمنهحهم إياها، وتضيف نقطة هامة، وهي أنّه غالباً ما تتكون لديهم "ثقافة متجذرة في الناس وليس في الأماكن". ولكن من مخاطر هذه التجربة، كما تقول ريكين في مقالة "بي بي سي" نفسها، أن الوطن "موجود في كل مكان وليس موجوداً في أي مكان"، وذلك قد يكون سلاحا ذو حدين، إذ لا يمكن نكران القلق الذي تشكله هذه الحالة. بحسب ريكين، ربما يكون تقصي تداعيات التجربة مفتاحاً لفهم ردة فعل بعض أبناء الثقافة الثالثة، الذين يتجاوبون مع حالة عدم الاستقرار هذه بالتمسك بمفهوم "ثابت" للبلاد الأم بطريقة، تختصر ثقافتها بشكل أحادي، لا يقبل التعددية أو التغيير كسمات أصيلة–ولعل هذا نقاش لمقال آخر.

نقاشٌ عربيٌّ لـ"أبناء الثقافة الثالثة"؟

باستثناء أعمال فنية تناولت الموضوع، كمشروع "الرحالة" للفنانة المعمارية صبا عنّاب (أيلول 2016 ــ كانون الأول 2016)، نلاحظ غياب نقاش جدي عن آثار الهجرة والمنفى والترحال على أطفال الثقافة الثالثة في العالم العربي، فالمصطلح نفسه وما ارتبط به من دراسات، يتناول تجارب خارج العالم العربي، أو ظروف الجاليات الأجنبية التي تقطنه. ولكن ماذا عن العرب أنفسهم، الذين شهدوا موجات هجرة وتهجير، في القرن الماضي، والقرن الحالي، كان على رأسها تهجير الفلسطينيين وحرب الجزائر والحرب اللبنانية، والهجرة لأسباب اقتصادية، واليوم، نجد موجات جديدة من الهجرات والتهجير من اليمن وسوريا وليبيا؟ قد تكون أولى أسباب العزوف عن نقاش فكرة الهوية والانتماء للبلاد الجديدة في العالم العربي، افتراض تجانس الثقافة في كامل البلاد العربية، وترابط ذلك مع إيمان العرب بالقضية الفلسطينية ومحوريتها في تشكيل مواقف الدول العربية سياسياً وثقافياً. فقوانين الكثير من الدول العربية تمنع منح جنسيات لأبناء الوافدين الذين يلدون أو ينشؤون فيها، إذ أنّ هناك تمسك بدعم حقّ العودة لكل الفلسطينيين، وضمناً، في نفس الوقت، تجنب لمطبّ شرعنة وجود الإسرائيليين في فلسطين، في حال نقاش أحقية الأجيال بالانتماء لبلاد منشئهم مقابل البلاد "الأم" التي انتمى لها أباؤهم وأمهاتهم. وبذلك غابت فرصة التعامل مع اندماج الأطفال العرب في بلدان غير بلدان آبائهم وأمهاتهم، ليس فقط للفلسطينين، بل لكافة الجنسيات العربية. وحل محلها ميل ثقافي طاغ لتكريس فكرة الانتماء الثابت، كما تتجسد في قصيدة محمود درويش التي تقول على لسان أب فلسطيني يحثّ ابنه على التمسك بهويته: "أنا من هنا وهنا أنا وأنا أنا وهنا هنا". هنا المقالة محاولة للحديث عن أبناء الثقافة الثالثة بشكلها العربي، دون المساس بهذه القضايا.

"عندما يكون الوطن موجوداً في كل مكان": العالم الذي يعدنا به جيل "أبناء الثقافة الثالثة" العرب

أبناء الثقافة الثالثة العرب

ما يلي حديث دار بين كاتبي المقال: داني سقا وياسمين سلام، عن الهوية والانتماء والحروب ومستقبل السلام في العالم من وجهة نظر أبناء الثقافة الثالثة العرب.

ياسمين: من أين أنت؟

داني: لندن...

ياسمين: هل تعتبر نفسك بريطانياً؟

داني: عندما أفكر إن كنت أعتبر نفسي إنكليزياً، أشعر بأني لن أكون صادقاً إن قلت بأني إنكليزيٌ. أعتقد أن أصلي العربي يحول دون ذلك. إن صرحت لشخص بريطاني عن أصلي العربي، فلن يعتبرني "بريطانياً"، ولهذا لا أقدم نفسي على أني كذلك. ولكن مع ذلك، أنا لندني، بكل معنى الكلمة. هنا نشأت وكبرت، فهي مدينتي التي أعرف شوارعها كما أعرف ظاهر يدي.

ياسمين: هل تعتبر نفسك عربياً إذاً؟

داني: في نفس الوقت، لا أستطيع أن أقول بأنني عربي. والدي من لبنان وسوريا، ونتكلم العربية في البيت، ونأكل طعاماً شامياً، ونزور بيروت باستمرار. وأنا على متن الطائرة، لا أشعر بأني مسافر إلى بلدي، ولا أشارك شعور اللهفة مع اللبنانيين العائدين إليه. رغم تعلقي بهويتي العربية، إلا أني اعتنقتها بشكل إرادي، وليس هناك رابط عاطفي عميق في علاقتي معها. من الجميل أن يشعر المرء بالانتماء لبلد ولأهلها، ولكن، غالباً ما أتساءل: "هل أنتمي حقيقة؟"

ياسمين: متى تشعر بأنك عربي؟

داني: عندما أجد نفسي في موقف دفاعي، عندما ينتقد أحد ما العرب بطريقة ساخرة، وهذه ظاهرة تتكرر هذه الأيام، أشعر بواجب الدفاع عن والدي، وهويتي. في هذا السياق، أشعر بأنني وطني.

ياسمين: هل ممكن أن تقاتل من أجل بلدك؟

داني: لا أعرف أي بلد يمكن أن أقاتل من أجله، إن كان لبنان، فالجواب: لا، وإذا كان بريطانيا، فجوابي أيضاً: لا. إن كان أمريكا؟ فلا ضرورة حتى للإجابة. كابن ثقافة ثالثة، لا أشعر بحب الوطن والوطنية بطريقة تقليدية. أعرف أني لن أضحي بحياتي في سبيل أجندة لا أؤمن بها، ولا يربطني أي شعور عاطفي تجاهها. ولا بد أن أضيف أنه ليس هناك، على الأقل في الـ70 سنة الأخيرة حرب في سبيل أهداف ليست مسيسة بالكامل. ولأن معظم حروب اليوم تجري على أرض عربية، فإن ذلك يخلق، برأيي، نفوراً تجاه فكرة الحرب نفسها لدى أبناء الثقافة الثالثة العرب. بدلاً من خدمة مصالحها الخاصة، لو أن القوى العظمى حاولت مساعدة الناس الذين لا يعرفون إن كانوا سيعيشون أو يموتون في الغد، لكان هناك ربما فرصة أن أتفهّم الحروب. تبقى إمكانية خلق مستقبل يعم فيه السلام العالم أحد التصورات التي يميل إليها أبناء الثقافة الثالثة، خاصة من العالم العربي. مع أن في ذلك نظرة رومانسية للسياسة خاصة مع ما نراه من عداوات وتحيز في تصوير العرب في العالم الغربي.

ياسمين: لأن والديك سوريّان، وأنت نشأت في لندن، ما هو موقفك من العداء تجاه اللاجئين في أوروبا؟

داني: مع أنه أمرٌ قاس ويصعب عليّ تقبله، بدأت أتفهم بعض الشيء وجهة نظر الطرفين. من جهة، تنظر أوروبا إلى العالم العربي على أنه يفتقر للديمقراطية، متخلف، وبحسب صورهم النمطية، هو عالم يعمه العنف والتعصب. في المقابل، يعتبر العرب الثقافة الأوروبية غير أخلاقية، وماجنة، ولأني من الثقافتين معاً، أتفهم كيف يمكن أن تكون فكرة اندماج العرب في المجتمع الأوروبي صعبة. يحزنني عميقاً أن الثقافتين لا تقدران على التعايش بشكل فعال. نرى دون شك علاقة بين الشعور الوطني والمواقف المناهضة للاجئين. فقد شهدنا مؤخراً أن الفئات والأشخاص الذين يتمسكون بوطنيتهم، يتبنون نظرة "رجعية" لبلادهم، بمعنى أنهم يودونها أن تعود "كما كانت عليه" قبل الحرب العالمية الثانية، بحدودها المغلقة، وغياب الضغط السياسي للانضمام لاتفاقيات دولية، وخارج العولمة التي تحكم العالم اليوم. لأعود لسؤالك الأول: إن كان البريطانيون غير قادرين على تقبل وجود اللاجئين، إذاً لا يمكنني أن أعتبر نفسي بريطانياً. 
ينظر "أبناء الثقافة الثالثة" إلى العالم بمنظور منفتح يرى التعديدة جزءاً لا يتجزء من الوجود الإنساني
افتراض تجانس ثقافي كامل في العالم العربي منع فرصة نقاش آثار الهجرة والتهجير ما بين بلدانه
لأن معظم حروب اليوم تجري على أراض عربية، أصبح هناك نفور تجاه فكرة الحرب نفسها لدى أبناء الثقافة الثالثة العرب

ماذا عنك يا ياسمين، من أين أنت؟

ياسمين: أنا عربية بريطانية؟ أو بريطانية عربية؟ أو مصرية لندنية؟ أو ربما لندنية مصرية؟ كنت أعتقد أن اجتماع اسم البلدين في أصلي سيخلق هوية "مثيرة" يمكن أن أنتسب إليها. ولكن ذلك حماقة لا أكثر. "لست من أي مكان"، اعتدت أن أقول للناس. في فترة الأعياد، كل عام، نتنقّل أنا وأسرتي بين ثلاث مدن: القاهرة وأثينا ولندن، وهي المدن التي أنتمي إليها لأن عاداتي وطريقة حياتي، وأصلي منها ثلاثتها مجتمعة. ولكن ذلك دائماً ما يذكرني بأني لا أمتلك علاقة قوية مع أي منها. دائماً عندما أسافر من هذه المدن، أشعر بأن هناك ما ينقصني، وأتوق أن أفهمها وأن تحتضنني لأشعر بانتماء كامل لها. والدي المصريين نشأ كل منهما في عدة بلدان، مجموعها 8، وزوج أمي يوناني، يسكن في لندن، وهذا يضيف تعقيداً لسؤال الأصل. وليس هناك طريقة لتنميق الجواب أو حفظ صيغة جاهزة له. لقد حاولت، وفشلت، فجاء جوابي مرتبكاً ومحزناً بفشله. أتأتئ عندما أسأل عن أصلي، ثم أتلفظ بأول جملة تخطر ببالي. "من أين نحن" هو أول ما يسألنا عنه الناس، فذلك من العادات التي تساعد في تقييم وتأطير شخصيتنا لنفهم بعضنا البعض. وهي طريقة للتقرب ممن نتحدث معهم، وهذا أمر عادي ولكنه في نفس الوقت مزعجٌ. أحياناً لا أعرف ماذا أقول بيني وبين نفسي، فكيف يمكن أن أنجح في الإجابة على تساؤلات الآخرين؟ أتذكر بأني كنت أستاء وأزعق عندما يسألني الناس عن ذلك وأنا صغيرة، ولعل ردة فعلي وقتها كانت أصدق، فخليط الارتباك والألم يحرقني. قد يعتقد البعض بأن هذا الألم مبالغ به، أو زائف، أو أنّ هدفه لفت الانتباه، فما المشكلة إن كان الناس متعددي الثقافات أكثر من غيرهم؟ في آخر النهار، قد أكون محظوطة، ففي حياتي تعرفت على ثقافات وتقاليد مختلفة، وهذا امتياز. ولكنه امتياز يأتي مع قدر كبير من القلق، وهو شعور يلازم أبناء الثقافة الثالثة ولا يتركهم. لدي ولع بمجال الدراسات السياسية، ولكن أين يمكن أن أزاول عملاً في هذ المجال؟ لأي بلد أنتمي؟ هل سيكون هناك مجال لرئيس وزراء بريطاني من أصول متعددة؟ أو رئيس وزراء مصري لا يتحدث اللغة العربية بطلاقة؟ ربما يخلق جيل الثقافة الثالثة العرب نوعاً جديداً من القيم، ويفسح مجالاً لمفاهيم منفتحة تجابه موجة التعصب والتزمت التي تتخذ من الوطنية ذريعة لها. هويتي كعربية وكمسلمة، أدرس في الولايات المتحدة وأسكن في لندن، علمتني شيئاً، هو أن الهوية نفسها ليست سهلة التعريف... فهي ككل شي في الثقافة، نتاج خليط من التأثيرات وملتقى لوجهات نظر وخلفيات لا تعد ولا تحصى.

رسالة قديمة قدم الإنسانية

سحر علاقتنا بالماضي وبأجدادنا الأوائل أكثر ما يتجلى في صدى الأسئلة التي كتبوها في أفكارنا اليوم. فكم هو شبيه تساؤل أبناء الثقافة الثالثة برسالة هوميروس في الأوديسة؟ على عكس التقليد اليوناني الذي افتتحت به المقالة، كما يخبرنا الدكتور بيتر سترك، يقدم لنا هوميروس فكرة مختلفة في الأوديسة. فمع أنّ قصة بطل الملحمة، تتمحور في مغامرات وسفرات طويلة والمصاعب الكثيرة التي يجابهها في رحلة عودته إلى موطنه، إلا أنّ هوميروس لا يختتم ملحمته بفرحة الوصول والعودة، فبعد وصول أوديسيوس إلى بلده، والتمام شمله مع زوجته، يضيف هوميروس باباً يختتم فيه العمل، وفي نفس الوقت يفتتح سلسلة جديدة من المغامرات. ربما ما أراد قوله أنّ ما يميزنا كجنس بشري هو أننا "رُحّل"، لا نتوقف عن السفر والتنقل، وبأنّ فكرة الموطن الذي يمكن أن ننتمي إليه "نوستوس" (νόστος)، تشبكها ذات المخيلة التي تحنّ وتتوق للرجوع "نوستالجيا"، وعلى عكس طبيعتهما المتخيلة، ما هو مؤكد ولا جدال فيه، هو أننا اليوم وفي المستقبل، كما فعلنا عبر تاريخنا، لن نتوقف عن الترحال، وفي كل جيل، كما هو الحال مع أبناء الثقافة الثالثة، سنعيد خلق "الوطن" بأشكال جديدة.

المصادر: مقالة "عولمة الإسلام" للدكتورة إيفون جداد؛ كتاب أطفال الثقافة الثالثة لروث فان ريكين؛ محاضرة الدكتور بيتر سترك عن الأوديسة.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image