الاقتباس، أو إعادة إنتاج الأفلام، عملية شائعة في السينما العالمية عموماً، والمصرية على وجه الخصوص، لكنها تتحول إلى سرقة إبداعية إذا لم يُصرّح علانية بالمصدر الأصلي، وقد تصبح مسخاً فنياً في حالة عدم استيعاب روح النص، وغياب القدرة على ترك بصمة تمنح العمل الجديد خصوصيته.
لعل من الضروري أن نتذكر معاً هذ القاعدة المعروفة قبل الحديث عن فيلم "من أجل زيكو"، تأليف مصطفى حمدي وإخراج بيتر ميمي. وذلك لأن صنّاعه تجنبوا الإشارة إلى اقتباس الفكرة من الفيلم الأمريكي Little Miss Sunshine إنتاج عام 2006. في المقابل، استطاعوا تقديم معالجة تمس المجتمع المصري، وإن شابها نسخ بعض المواقف من الصورة الأصلية.
الفرق بين عائلتي "أوليف" و"زيكو"
تنطلق أحداث فيلم Little Miss Sunshine للثنائي فاليري فارس وجوناثان دايتون، من ولاية نيو مكسيكو المدرجة ضمن الولايات الأفقر في أمريكا، إذ تخوض عائلة متوسطة الحال رحلة إلى ولاية كاليفورنيا، أرض الفرص العظيمة، لكي تشارك الطفلة ذات السبع سنوات، أوليف، في مسابقة جمال للأطفال.
نعرف من المشاهد الأولى أن هناك اختلافات كبيرة بين أفراد هذه العائلة، ولكل منهم أسلوب خاص في التعامل مع الحياة وأزماتها.
نعم توجد ضائقة مالية، وهناك ضغوط كثيرة ملقاة على عاتق الأبوين المُعيلين، تتقاطع مع وهم "الحلم الأمريكي"، إلا أن الانقسامات نابعة بشكل أساسي من تباين الشخصيات وأهدافها.
يسير "من أجل زيكو" على نفس الخطى، فهناك عائلة تجتمع في سيارة نقل موتى، وتتجه في رحلة إلى واحة سيوة حتى يشارك الابن "زيكو" في مسابقة أذكى طفل في مصر، ولكن العائلة هنا تنتمي إلى الطبقة الفقيرة المهمشة، وتقيم في شقة صغيرة على سطح إحدى البنايات القديمة المكتظة بالسكان، حيث يبدو براح السماء متناقضاً مع طبيعة المنطقة الممتدة أسفلها.
تظهر المشاحنات بين أفراد العائلة، وتتكون صورة عامة عن سمات كل شخصية مبكراً، لكن تتراجع أهمية الفروق بين الشخصيات أمام الوضع المادي والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشونها.
أمام الوضع المادي والظروف الاقتصادية الصعبة تتراجع ملامح الشخصيات وأهميتها، فإلى أي مدى جسّد الفيلم مشاعر الفقر وانعدام الفرص للأبناء والأجيال الناشئة، وتأثيرها على الآباء؟
ويميل الحوار إلى التأكيد على الفكرة الجلية (الوضع الاقتصادي المتأزم) في أكثر من موقف خلال النصف ساعة الأولى من الفيلم، فمثلاً عندما يسأل الطفل يوسف صلاح أباه (كريم محمود عبد العزيز) عن المغزى من عيش حياة كحياتهم، يرد عليه بإجابة تكشف عن الروتين القاسي الذي يحيا به حتى يوفر أبسط الاحتياجات، أو عندما تعترض الأم (منة شلبي) على السفر في سيارة "تكريم الإنسان"، وسيلة التنقل ذات الدلالة المباشرة على تردي أحوالهم، يخبرها الأب الذي يعمل سائقاً للسيارة أن التكريم غير قاصر على الأموات.
ربما كانت هذه البيئة محدودة الإمكانات سبباً منطقياً بالنسبة للمؤلف المصري حتى تتحول الحكاية من "أوليف" إلى "زيكو"، خاصة وأن الحبكة ترتبط بمسابقة تعليمية، فالاهتمام بالذكر قد يكون له أبعاد نفسية واجتماعية تعززه، لكن يبقى خيار يكرس للعنصرية.
الطريق للمداواة أم للاستراحة؟
تعتمد غالبية أفلام الطريق على بطولة ثنائية أو جماعية، لأن حضور أكثر من بطل واحد يسهم في دفع الأحداث والكشف عن الصراعات الداخلية والخارجية، إلى جانب خلق مساحة لمشاهدة تحول الشخصيات على الشاشة، وفق ما يعرف بقوس الشخصية.
هذا ما حرص الفيلم الأمريكي، الفائز بجائزة أوسكار أفضل نص أصلي، على تقديمه من خلال أفراد العائلة، الذين بدأوا الرحلة متباعدين، ثم تدريجياً ذابت خلافاتهم وتغيرت نظرتهم للحياة بشكل عام بعد المرور بمجموعة من المواقف والاكتشافات المهمة، حتى أصبحوا متحدين في النهاية.
يحمل السيناريو أطيافاً من المشاعر تختبرها الشخصيات، تحررهم من ثقل تجاربهم وأحلامهم التي يعجزون عن تحقيقها، وتمنحهم فرصة لمداواة بعضهم بعضاً والوصول لنقطة الخلاص، كالأب الذي يدرك أن العيش بمبدأ الخسارة والفوز طوال الوقت مدمر، وأن السبيل الوحيد لإصلاح علاقته بالعالم هو المحبة غير المشروطة لذاته والمحيطين به. أو الخال مثلي الجنس، الذي يتحول من شخص فاقد الأمل في الحياة إلى آخر ممتناً للمعاناة التي مر بها، ومستعداً للمضي قدماً.
أب يدرك أن العيش بمبدأ الخسارة والفوز مدمر، وخال مثلي الجنس يتحول من شخص فاقد الأمل إلى آخر ممتناً للمعاناة... تعرف على ملامح الشخصيات وتحولاتها، في فيلم "من أجل زيكو" ومقارنتها بالنسخة الأمريكية
بينما يعد الطريق في الفيلم المصري فرصة للقاء شخصيات جديدة تساعد على تكوين تصور كامل عن حال هؤلاء البسطاء وعلاقتهم بالمجتمع، وذلك من خلال تتابعات التوقف التي يكون الغرض منها عادة تلبية الحاجات البدائية، كالحصول على طعام أو نيل قسط من الراحة، وقد تكون إجبارية عند مواجهة أزمة ما.
تتوقف العائلة أربع مرات أساسية خلال الرحلة التي تهدف إلى منح الطفل مستقبلاً أفضل، وفي كل محطة يتكشف جانب مهم عن حياتهم؛ فالأولى تظهر حجم التفاوت، بين زيكو وعائلته وبين طفل آخر في المسابقة، من جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والثانية توضح الانفصال التام بين عالمي الأغنياء والفقراء، والثالثة تتعرض لدور العلم في تغيير واقع الناس وتقليل الفجوة بين الطبقات، والرابعة تُبين التعاطف الذي قد يحمله الخارجون عن القانون تجاه الفقراء.
تصميم وتنفيذ بعض المشاهد جاء مشابهاً لما شاهدناه كثيراً في أعمال فنية.
لكن غالبية هذه الأحداث تخرج في صورة استراحات ليس إلا، وتعتمد على إيجاد حلول سريعة ومصادفات كثيرة تجعل من الصعب تقبلها دفعة واحدة. وبالتالي ينعدم الشعور بالقلق على مصير الشخصيات خلال أي موقف يتعرضون له. إلى جانب أن تصميم وتنفيذ بعض المشاهد جاء مشابهاً لما شاهدناه كثيراً في أعمال فنية تتناول نفس الفكرة، فمثلاً في المحطة الثانية عندما تدخل العائلة لحفل تنكري للأثرياء، تصبح تصرفاتهم وأحاديثهم مطابقة لكل الصور النمطية التي يتم استدعائها من الذاكرة البصرية.
في المقابل، كان لقاء الباحثين في المحطة الثالثة خياراً ذكياً وأكثر طزاجة، لكن لم يوظف جيداً في دفع الحبكة أو يُستغل في المسابقة بشكل ما، بل جاء مناقضاً كما سنوضح في حديثنا عن نهاية الفيلم، ومع ذلك، عادة ما يُمرر المشاهد مثل هذه الثغرات إذا تمكن العمل من انتزاع الضحكات، واستطاع ترك أثراً طيباً في النفس.
هذا ما نجح فيه صناع الفيلم الذي يمزج بين العناصر الجادة والفكاهية، وإن كانت الكوميديا غالبة نظراً لأن دوري الجد (محمد محمود) والعم (محمود حافظ) يختزلان في تقديم النكات والإفيهات بصورة كبيرة، الأمر الذي يتفوق فيه الأول على الثاني الواقع في أزمة تكرارية تخص الأداء.
ولاستكمال حالة المشاهدة السينمائية، يحضر المطربان، عبد الباسط حمودة وأحمد سعد، بصوتيهما القريبين من الشارع لتقديم أغان، تعكس ما تمر به الشخصيات البسيطة على الشاشة.
التعليم في مقابل الموهبة
توجيه الانتقادات لمسابقات الجمال المنتشرة في الثقافة الأمريكية كانت واحدة من التيمات الأساسية التي يقدمها Little Miss Sunshine، لذلك كان الهدف من عرض "أوليف" في مسابقة جمال الأطفال فضح نفاق المسؤولين عن مثل هذه المسابقات، وهم بدورهم استهجنوا عرضها لما يتضمنه من إيحاءات جنسية وحركات مثيرة، بالرغم من كونهم يستغلون الفتيات الصغيرات، ويدفعوهن لتقليد نموذج معين للمرأة، يُسلّعها ويفقدها قيمتها الإنسانية.
أما مسابقة أذكى طفل في مصر التي يخوضها زيكو، فتحمل في طياتها مرثية لحال المهمشين الذين لن يتمكن أطفالهم من المشاركة في مسابقات من هذه النوعية، ليس لأنهم أقل ذكاءً من أبناء الطبقات الأخرى، ولكن لعدم توافر مقومات تساعدهم على تحقيق الحلم. حيث أن العيش في ظروف صعبة، كالتي يواجهها الزوجان، تجعل التفوق في التعليم والاهتمام بالبحث العلمي دون الالتفات للماديات، كما تقول باحثة للطفل في أحد المشاهد، أمنية صعبة المنال.
ويبقى أن طوق النجاة الوحيد أمام هؤلاء البسطاء هو امتلاك موهبة في أحد المجالات التي تحقق الشهرة كالغناء (في حالة زيكو) أو التمثيل أو الرياضة، فالموهبة إذا تم اكتشافها ولم تدفن، كحال صديق الأب (سليمان عيد) في المشهد الافتتاحي، يكون للعائلة فرصة للترقي المادي والاجتماعي. صحيح أن هذا الطرح يبدو سوداوياً، ويتعارض مع كثير من قصص النجاح التي حققها أشخاص من طبقات دُنيا، إلا إنه يحمل قدراً من الواقعية.
"من أجل زيكو" استطاع تمصير الحكاية الأمريكية، ورغم وجود تحفظات على المعالجة يظل فيلماً مقبولاً بشكل عام. وبالنظر إلى تفاعل الجمهور معه في صالات العرض وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، فمن المرجح أن يكتسب مكانة بين أفلام الكوميديا العائلية الحديثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...