عند المشي في شوارع القاهرة، لن تجد على الأغلب حولك سوى العديد من الوجوه المتجهّمة، ليس تجهّم غضب أو قنوط، بل يأس راسخ في الملامح، يأس أفراد نسبة كبيرة منهم يعيشون على الكفاف، يوماً بيوم أو -الأكثر حظاً- شهراً بشهر.
لا تخطر على بالهم هموم مثل قلق السعي للمكانة، أو الطموح في الترقي، بل الخوف من مرض مفاجئ قد يقعد رب العائلة فتفقد موردها الوحيد، أو حاجة مالية غير مخطط لها لا يمكن إيفاؤها.
وجوه منسحقة تحت تروس الحاجات الأساسية، مثل الطعام والشراب والرعاية الصحية والتعليم .
يمكن تلخيص ذلك كله تحت مظلة واسعة حزينة، تحت ما يسمى الفقر، فكلنا يعلم أن العالم غير عادل، وليست كل الحظوظ متساوية، ولا الاجتهاد والتعب هما السبيل الموثوق لبرّ الأمان، لكنها حقائق يتم تجاهلها حتى نستطيع المضي قدماً في الحياة.
وكما تعكس السينما الحياة الإنسانية بكل تفاصيلها، الفقر كان حاضراً، سواء في الخلفية أو حتى بطلاً للأحداث بالعديد من الأفلام، والفقر في السينما المصرية موضوع شائك للغاية، يتم التعامل معه بمعايير متعددة تبعاً لثقافة صانع الفيلم، والبيئة الاجتماعية القادم منها، وأيديولوجيته، ومؤخراً أثار فيلم "ريش" جدلاً واسعاً بعد عرضه في مهرجان الجونة السينمائي بدورته الخامسة، لأن فقر فيلم المخرج عمر الزهيري، الفائز بجائزتين في مهرجان كان السينمائي، أزعج البعض الذين يرون في تصوير الفقر عيباً أكبر من وجوده في الأساس.
أثار فيلم "ريش" جدلاً واسعاً بعد عرضه في مهرجان الجونة السينمائي بدورته الخامسة، لأن فقر فيلم الظاهر في فيلم المخرج عمر الزهيري، الفائز بجائزتين في مهرجان كان السينمائي، أزعج البعض الذين يرون في تصوير الفقر عيباً أكبر من وجوده في الأساس
فقر يصدم الطبقة المخملية
لم يحدد عمر الزهيري في فيلمه "ريش" لا الزمان ولا المكان، ولكنه أعطى المشاهد علامات بسيطة على أن الأحداث تدور في مصر، مثل اللغة العربية باللهجة المصرية، وشريط الصوت الذي امتلأ بأغانٍ مصرية رائجة، والعملة المستخدمة، بينما الزمان قد يقع في ماضٍ قريب نسبياً، تستخدم فيه الهواتف المحمولة الصغيرة، التي كانت منتشرة وقتها، ولكن تلك ليست علامة فاصلة، لأنه حتى اليوم لازال هذا الهاتف مستخدماً عند الطبقات الأكثر فقراً بالمجتمع المصري، الذين لم تصلهم بعد حتى الهواتف الصينية الرخيصة التي تعمل بنظام الأندرويد.
ولكن المؤكد أن عالم الزهيري ليس عالمنا الواقعي بالضبط، يشبه الأمر رحلة "أليس في بلاد العجائب"، لكن هذه المرآة لم تنقلنا لعالم أكثر بهجة وتسلية، بل إلى خيال ديستوبي يعكس واقعاً مريراً، وعائلة تعيش على الكفاف، من أب وأم وثلاثة أطفال، يحاولون اقتناص لحظة بهجة في عتمة أيامهم المتشابهة بالاحتفال بعيد ميلاد طفلهم الأكبر.
ولكن فجأة تنقلب حياتهم إلى أسوأ مما تخيلوا، عندما يتحول الأب في فقرة الساحر إلى دجاجة، وتصبح الأم عالقة بلا مهنة مع ثلاثة أطفال وزوج مختفٍ ودجاجة!
تتحول العائلة الفقيرة أصلاً إلى أسفل خط الفقر، فحتى المسكن الصغير الخالي من الأثاث أصبح رفاهية تحتاج إلى تضحيات جمّة للحفاظ عليها، وتبدأ قضايا واقعية تظهر بعد الأزمة الغرائبية، مثل عمالة الأطفال، أو عدم تأهيل النساء للعمل غير في أدنى وظائف المجتمع، والروتين الذي لا يبالي بأزمة الأسرة قدر ما يبالي باستيفاء الأوراق الرسمية بشكل سليم.
الفقر بطل فيلم "ريش" الأساسي، لا الممثلين الهواة، ولا القصة التي تنتقل بخفة بين مشهد غرائبي وآخر، فأغلب أحداث الفيلم تدور في شقة العائلة، التي تكاد تشم رائحة الرطوبة بمجرد النظر إليها، تجتهد الأم في تنظيفها يومياً فيما يشبه عقاب سيزيف السرمدي، فلا الشقة تنظف ولا هي تفقد الأمل.
للفقر في السينما المصرية سمات متكرّرة حتى اكتسب شخصية نمطية على مرّ السنوات، إلا في أعمال قليلة. فقر يهنأ به الفقراء لأنه يؤمّن لهم حياة بسيطة وراحة بال يحسدهم عليها الأغنياء
تضع الملابس في الغسالة فتظل متسخة، لكنها تكمل عملها بنفس الآلية وتتركها لتجفّ ويلبسها أفراد عائلتها، غلالة من الفقر الحزين تغلف كل شيء: الأثاث الرثّ، وعملات النقود المهترئة، والملابس القذرة المنظمة في خزانة يعلوها التراب، وملامح حزن تسكن وجه الأم قليلة الكلام.
فقر فيلم "ريش" وصل إلى الدرجة التي لا يصبح فيها للبشر قيمة بالفعلية تفرقهم عن الدجاج، بل قد تكون للأخيرة فائدة أكبر، فهي قابلة للأكل على الأقل، فعندما عاد الأب وهو أقرب للموت منه للحياة أصبح عبئاً جديداً على الأم التي استطاعت بصعوبة عبور منطقة الخطر. فقر ينزع عن البشر السمات الإنسانية، لأنه في الأساس ليس إنسانياً.
السينما المصرية والفقر المثير للبهجة!
للفقر في السينما المصرية سمات متكرّرة حتى اكتسب شخصية نمطية على مرّ السنوات، إلا في أعمال قليلة. فقر يهنأ به الفقراء لأنه يؤمّن لهم حياة بسيطة وراحة بال يحسدهم عليها الأغنياء، الذين يخرجون علينا في نهاية الأفلام لاعنين المال وتأثيره عليهم، فهو مفسد للنفوس، يتسبب الطمع فيه بالكوارث، ويجب على الفقير أن يرضى بحياته، وإلا جلب على نفسه وعائلته الويل والمصائب بأحلامه في الترقي.
ظهر هذا الخطاب بكثرة في أفلام ما بعد 23 يوليو 1952، يترافق مع الاتجاه السياسي لمحاكمة الأغنياء، تأميم أموالهم وتوزيعها -افتراضياً- على الفقراء، فظهرت بيوت الفقراء بسيطة لكن مليئة بالخير والمحبة والسلام، على عكس تلك الخاصة بالأغنياء، ويمكن استخدام مصطلح Romanticize أو إضفاء الطابع الرومانسي للتعبير عن هذه النظرة السينمائية للفقر، الذي يبدو في عيون المشاهد مثالياً يدعو للغبطة.
فيلم "ريش" بالفعل فيلم ثقيل الوطء، احتوى مشاهد قاسية، بل مفجعة وصادمة، لكن في ذات الوقت قدم لغة سينمائية ورؤية مميزة ومختلفة وممتازة في آن واحد، تجعله واحداً من أهم الأفلام المصرية في السنوات الأخيرة
ومن أشهر الأفلام التي تبنّت هذا الأسلوب في السنوات الأخيرة "يوم الدين" للمخرج أبو بكر شوقي الذي صدر في 2018، وعرض خلال مسابقة مهرجان كان الرسمية، وكذلك في مهرجان الجونة في ظروف مماثلة لفيلم "ريش"، وقدّم قصة أيضاً عن مجموعة من المهمشين، باستخدام ممثلين غير محترفين، فالشخصية الرئيسية مريض متعافٍ من الجذام، يترك مستعمرة مرضى الجذام ليبحث عن أصوله وعائلته التي تخلت عنه منذ طفولته.
يقوم بشاي بصحبة طفل أسمر صغير برحلة في مصر من الشمال إلى الجنوب، وعلى الرغم من حزن قصة المجذوم الوحيد، إلا إنها لم تثر أي لغط ولم تتهم بالإساءة إلى سمعة مصر، وذلك لأن فقراء الفيلم تختتم رحلتهم بنهاية سعيدة.
تم تخفيف وطأة كل التفاصيل الصعبة والحزينة التي مر بها بشاي وأوباما في فيلم "يوم الدين"، ليبقى في النهاية تأثيره لطيفاً وعاطفياً على النفس، بينما فيلم "ريش" رسم تفاصيل لا يريد أحد أن يصدق وجودها، وجاء رد فعل بعض المشاهدين على الفيلم نتيجة لعدم اعتيادهم على هذا الصدق في تقديم الفقر والألم.
فيلم "ريش" بالفعل فيلم ثقيل الوطء، احتوى مشاهد قاسية، بل مفجعة وصادمة، لكن في ذات الوقت قدم لغة سينمائية ورؤية مميزة ومختلفة وممتازة في آن واحد، تجعله واحداً من أهم الأفلام المصرية في السنوات الأخيرة، ويستحق أن يتم تلقيه على أنه فيلم سينمائي وليس إعلان للدعاية أو الإساءة لبلده.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون